مصوع في عصرها الذهبي وعن تجارة اللؤلؤ فيها ودور الشيخ علي النهاري في ازدهارها
بقلم الأستاذ: عبدالقادر وهب الباري - ملبورن، اوستراليا
الشيبان حَقُّوناَ صجُّونا مصوع ومصوع... هكذا قال لي صاحبي الحضرمي.
قبل عدة سنوات وفي مدينة جدة جمعتني جلسة عمل مع احد الأخوان الحضارم.
في تلك الجلسة وفي سياق الحديث عرف الرجل بأنني من مصوع فانفرجت أساريره وأخذ الحديث منحى آخر خفت رسميته وصار اكثر وديا فذكر لي بأن أجداده وأباؤه عاشو في مصوع. وذكركيف أن أباءه وأعمامه عندما يتحدثون عن مصوع يتحدثون بشوق وحنين كان يعجب منه ويستغرب له.
فقرر ان يزور مصوع ويرى بأم عينيه تلك الأعجوبة التي سلبت الباب آبائه وأجداده فغادر جدة إلى مصوع بحرا وفي مخيلته تلك الصورة الجميلة عن مصوع والتي رسمها خياله من رواية الأباء والأجداد الذين عاشوا عصر مصوع الذهبي.
هنا كانت المفاجأة ماذا وجد لاشيئ إلا أطلالاً ومدينة شبه خالية من سكانها فقال لي معبرا عن ذلك الحال وعن الصورة المغايرة التي كانت راسخة في مخيلته:
"الشيبان حقونا سجُّونا مصوع مصوع ومصوع ماحصلنا فيها شئ من أللَّي قالوه"، فرددت عليه وقلت بنفس لهجته الجداوية، "شيبانكم صدقو وماصجوك وكلي الِّلي قالوه صحيح".
ثم استدركت وقلت: ولكن الذي حصل لمصوع ياصاحبي هو ماجرت به المقادير وقضت به سنة الله في كونه "وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" فمن سره زمن ساءته أزمان فسبحان مصرف الأزمان و مغير الأحوال صار فيها الحال غير الحال والناس غير الناس فكان من أمر مصوع ماكان وكنت ياصاحبي على ما تبقى من آثارها شاهد عيان.
ثم أردفت وقلت له: فإذا أردت يا صاحبي رويت لك أصل الحكاية ورسمت لك صورة مصوع البهية كما حفظتها ذاكرة شيبانكم القوية.
فقال لي صاحبي: "هات الهرجة بس أخاف هي الأخرى تكون صجّة"
فقلت له: "إذا كانت زي ماتقول صجَّة فيالها من أحلى صجَّة"
ثم بدأت أحكي لصاحبي حكاية عن مدينة كانت لها اكثرمن قصة ورواية...
مصوع ياصاحبي في ذلك الزمان كانت من المدن التي سار بذكرها الركبان وتناقل أخبارها العربان وذاع صيتها ببن الأمصار.
فقصدها القاصي والداني ولكل واحد منهم حاجة وأماني. فمنهم من قصدها لتجارة رجى من ورائها رواجا ومنهم من قصدها لِسُكْنَى دارٍ أختارها له مُقاما.
فتحقق المراد وكل وجد فيها بغيته ومنتهاه فكانت مصوع نعم السوق للتجارة رواجا وأطيبها للأستقرار والسُّكْنَى مكاناً.
كانت درة منطقتها وعروس بحرها ولؤلؤته سبقت نظيراتها من مدن البحر الأحمر على ضفافه الشرقية والغربية فكان لها في كل شيئ مزِّية.
مصوع يا صاحبي في ذلك الزمن كانت مدينة النور تتلألأ أضواءها الساطعة فتنعكس على صفحات شواطئ بحرها مشكلة ألون الطيف الزاهية.
القادم إليها بحرا يراها كأنها اللؤلؤة المنيرة وقد تكشفت عنها محارتها المغلقة.
مصوع ياصاحبي اشتهرت كواحدة من أشهر موانئ المنطقة وكان ميناؤها تقصده السفن من موانئ العالم محملة بكل ماكان معروفا من البضائع الفاخرة.
اذا ذكرت لك ياصاحبي بعض من تجهيزات الميناء الحديثة ربما تصاب بالدهشة والحيرة فقد استخدم التلفريك (التلفريك هو عبارة عن عربات معلقة في الجو تسير على اسلاك) لنقل البضائع كوسيلة فعالة وسريعة ولم تكن مثلها في موانئ المنطقة متوفرة فانظر ياصاحبي كيف كانت مصوع متقدمة ولنظيراتها من المدن سابقة.
وكانت هذه البضائع تشحن بالتلفريك مباشرة من ميناء مصوع إلى أسمرا ومنها إلى مناطق أخرى.
أمالحركة في الميناء يا صاحبي فكانت دائبة كخلية نحلٍ نشطة والتجارة فيه رائجة وبركة الرزق عليه ظاهرة وزاده الله فوق ذلك شرفا أن كان معبر الحجيج إلى بيته الحرام وأراضيه المقدّسة فكان موسم الحج ما أبركه على مصوع يأتي بأرزاقه الدنيوية ويظلل أهلها بأجوائه الروحانية.
إذا حدثتك ياصاحبي عن التجارة في مصوع فلا يستقيم الحديث ويكتمل إلا بذكر ماكان من شأنها في تجارة اللؤلؤ والمرجان وأصداف البحر من الكوكيان.
وقد سبقت غيرها في هذا المضمار فأصبحت مزار للتجار وإليها كانت تشد الرحال لما اشتهر به لؤلؤها من جودة وجمال.
فقصدها التجار من أقطار الخليج وعمان وكذا جزر فرسان وماهو ابعد من ذلك حيث اتوها من بلاد الهند والسند.
كان أشهر تُجَّار اللؤلؤ فيها رجلا فاضلا من آل النهاري الكرام وهو الشيخ علي النهاري طبقت شهرته الآفاق وذاع صيته في بلاد الإفرنج ومدنها كا باريس وروما وكذا بلاد الهند والسند وبلاد العرب والخليج فلا أظن ياصاحبي أن إسمه قد مر عليك مرور الكرام ويقيني أنه قد تناهى إلى سمعك مرات ومرات كلما ذكر شيبانكم مصوع في سياق الكلام.
فقد كان لهذ الوجيه من أهل مصوع شأن كبير حيث كان ذا ثراء عظيم فقد روي انه امتلك سيارة فارهة أعطت لمصوع مزية أخرى من مزاياها المتعددة وحتى لا أكتمك ياصاحبي سرا فسأذكر لك نوع السيارة فهي رولز رايز أليس في هذا ياصاحبي تميز حيث عرفت مصوع افخر أنواع السيارات ناهيك عن عاديها في حين ماجاورها من البلدان لم تكن السيارات قد انتشرت فيها اواعتبرت من وسائل نقلها ومايؤيد هذا القول نادرة ظريفة حدثنا بها بعض الثقات انه في ذلك الزمان وفي جزيرة العرب كان النفر من العربان إذا رأو السيارة من بعيد أطلقو أرجلهم للريح ظنا منهم أنها شيطان رجيم.
فشتان مابين حال وحال بلاد سبقت ماذا أقول يا صاحبي عن بنية مصوع التحتية من كهرباء ومياه وطرق برية.
هل أحدثك عن شبكة كهرباء مصوع التي كانت تضئ شوارعها ودورها فتبعث فيها الحياة بينما نظيراتها من المدن على الضفة الشرقية من البحر كان مصادر أنوارها الفانوس والإتريك أم أحدثك عن شبكة مياهها العذبة المتدفقة التي كانت تسقي سكانها دون إتقطاع بينما المدن في الضفة المقابلة كان مصدر مياهها الأبار وما ينقله إليها السقا.
أما طريقها البري يا صاحبي الذي يصلها بأسمرة فتصميه الهندسي كان معجزةً فقد أخترق الجبال الوعرة وربطها بشقيقتها الكبرى أسمرا.
وكان لهذا الطريق خطين احدهما اسفلتيا والآخر حديديا. فخطها الاسفلتي يسير متسلقا الجبال يلتوي معها التواءا ويرتفع معها ارتفاعا فيكتنفه الغمام كلما وصل قمم تلك الجبال ويستمر هكذا الحال حتى يصل إلى اسمرا مدينة الجمال.
وأما الخط الحديد فكان أمره عجيب فهو لم يطاوع الجبال ويصعد معها الأهوال بل تحداها وشقها شقا فأحدث فيها أنفاقا اقترب، عددها من الأربعين نفقا وسجل أطول هذه الانفاق رقما قياسيا تعد الثلاثمائة مترا فأنظر يا صاحبي كيف استخدمت تقنية الأنفاق حلا لوعورة الجبال وإختراقا لتلك الآفاق وأما عقبات الوديان ومجاري الأنهار فقد تجاوزها الخط الحديد بهندسة الجسور التي بًُنِيَ منها العديد حتى جاوزت الستين أو يزيد فهذا ماكان من أمر الخط الحديد ذو النسق الهندسي البديع الذي ربط مصوع بأسمرا مدينة الربيع.
أليس في ذاك يا صاحبي إبهار وأي إبهار وإتقان مابعده إتقان قياسا بتقنية ذلك الزمان فسبحان الذي علم الإنسان كل هذا الإتقان.
تركت صاحبي الحضرمي وفي نفسي بقية شيئ من كان وأخواتها اجتر بها ذكريات زمن جميل مضى ومجدا وفخر زالا ولكن كان في نفسي ايضا أملا يراودني ومازال ان مصوع ستعود لامحال إلي ماكانت عليه وأحسن حال.