يوم الجمعة في ذاكرة مدينة مصوع
بقلم الأستاذ: عبدالقادر وهب الباري - ملبورن، اوستراليا
بدأت أعٓيِ حضور الجمعة في جامع الشافعي حتي ارتبطت صلاة الجمعة وخطبتها في ذاكرتي بهذا المسجد.
وكان ممن أدركته من خطباء الجمعة في هذ المسجد الشيخ صالح إسحاق (أو إشحاق) كما هو الغالب في نطق المصاوعة للشين حيث الشائع فيهم تحوير السين شينا كما في قولهم للسحور شحور.
كان الشيخ صالح من ساكني ضاحية حطملو، عمَّرَها الله ورد إليها أهلها، ولكن معظم وقته كان في مصوع الجزيرة حيث كان له محلا للخياطة وكان هذا المحل يقع من الناحية الشمالية للمعهد الديني الاسلامي من جهة الـ Gallaria وعلي ماذكره كان يتوسط محل العم عبده مهري ومنجرة العم محمد علي هيجي.
كان الشيخ صالح في سائر أيام الاسبوع كسائر إخوانه من أهل مصوع يمشي بينهم في الاسواق لايميزه عنهم شيئا ولكن إذا كان يوم الجمعة كانت هيئته غير ماعدناها عليه وما زالت تلك الهيئة الوقورة المهيبة ما زآلت راسخة في ذاكرتي كان زيه في هذا اليوم مميزا كان يرتدي قفطانا ويعتمر العمامة ويضع فوقها حِرَامًا (رداء) فهو اليوم إمام الجمعة وخطيبها.
كان من نعم الله على أهل مصوع ان جعل لموقع مدينتهم وضعا جغرافيا فريدا إذ يحيط بها البحر من جميع جهاتها فكان هذا البحر من موارد رزقهم ومنه كان يأتي معظم قوت يومهم وأما أطفال مصوع فما أسعدهم به كان البحر هو متنفسهم وساحة لعبهم كان يوم جُمْعَتِهِم هو يوم بحرهم فله يقصدون وإليه ينطلقون.
كان بيتنا يقع علي مرمى حجر من بحر عنتبلي. وكان يفصلنا عنه طريق معبد وسكة حديدة قديمة.
كاأطفال في ذلك الزمن الجميل كنا ننتظر قدوم الجمعة بشوق فإذا أشرقت الشمس صباح ذلك اليوم المنتظرانطلقنا إلي البحر، الذي مازلت اذكر صفاؤه وسكون امواجه، نقضي فيه الساعات الطوال ما بين سباحة بفنونها المتعددة وصيد سمك بأنواعه المختلفة وتنافس غوص يستعرض فيه كل واحد منا مهاراته وبينما نحن في متعتنا هذه تمر بنا الساعات وكأنها دقائق ويكاد النهار أن ينتصف، عندها يبدأ منادي الجمعة ينادي للصلاة. المنادي هنا في جمعة أهل مصوع لم يكن الآذان المعتاد ولكن كان نداءا من نوع آخر يسمى "ترحيم" وهو نوع من الإبتهال يسبق الإذان الأول بساعة تقريبا فإذا تناهى ذلك النداء إلى أسماعنا تركنا ماكنا عليه وانطلقنا إلي بيوتنا لندرك صلاة الجمعة غير آسفيين على إنقطاع متعتنا بل على العكس تماما كنا فرحين مسرورين لحضور الجمعة فلا بهجة ولا فرحة ليوم الجمعة إلا بحضور صلاة الجمعة.
في هذه الساعات التي تسبق صلاة الجمعة يكون الوضع في بيوتات مصوع مختلفا فالأمهات والأخوات ينهمكن في تجهيز اثواب (قمشان) الآباء والأبناء وكيها لصلاة الجمعة أذكر مكوى ذلك الزمان التي كانت تعبى بجمرات الفحم حيث كانت تأخذ وقتا طويلا حتى تسخن. أما الطواقي (الكوافي) فكانت طريقة كيها مختلفة حيث تضغط باالبوح(نوع من أنواع صدف البحر).
البيت أيضا كان له نصيبه في هذا اليوم من التنظيف والكنس والتمسيح (مولوال) والترتيب.
وأما الغداء فكان مميزا أيضا عن سائر الأيام بما يليق بهذا اليوم وإن كان يغلب فيه طبق أهل مصوع المشهور الرز والسمك المقلي والزبادي (حليب رقؤ).
في الجانب الإخر كانت المساجد تجهز وتزين في هذا اليوم المبارك ومما أذكره أنها كانت ترش بماء الورد وينشر فيها الريحان (او الحباق كما كان معروفا بين المصاوعة).
كانت جموع المصلين تبدأ بالتوافد علي جامعي مصوع الشافعي والحنفي في وقت مبكر. اذكر مسجد الشافعي الذي اعتدت الصلاة فيه كان يمتلئ بالمصلين قبل صعود الخطيب.ورغم قلة حصيلة علمهم الشرعي كان أهلنا في مصوع تتحقق فيهم اداب الجمعة وسننها فترى فيهم التبكير ولبس احس الثياب والتزام السكينة والصمت اثناء حضورهم الجمعة فكان مما يبهج الخاطر ويسرالناظر انه إذا التفت يمنة او يسرى فلا تري إلا تاليا لكتاب الله اومتنفلا قائما وساجدا أو آخرا قد اسند ظهره إلي سارية المسجد وفي ويده سبحته.
كان كل ماتسمعه الاذن هو همهمة القارئين لكتاب الله تتردد في ارجاء المسجد لايشوبها إلا هديل الحمام الذي وجد له مأوى في سقف المسجد لهدوء المكان وسكونه اما عبق المكان فكان خليطا من رائحة ماء الورد والريحان وعطور المصلين تفوح في اجواء المسجد فتملأ النفس حبورا وسرورا وبينما الناس من حضور الجمعة في رياضهم الروحانية العطرة هذه يرتعون ولنفحات رحمة ربهم يتعرضون يطل الشيخ صالح اسحاق بهيئته الوقورة فيصعد المنبر ثم يسلم على أهل الجمعة فيردون عليه بأحسنها فيسود الجامع صمتا عجيبا بعد ان كان له أزيزا كازير النحل.
يبدأ الشيخ صالح خطبته بحمد الله علي أحسن واجمل مايحمد ويصلي ويسلم علي نبيه المصطي محمد خير الأنام بأفضل الصلاة وأتم السلام.
كانت ديباجة الخطبة علي طريقة خطب الأولين حيث يزينها السجع وتتخللها رقائق المواعظ ولطائف النصح ويمازج فيها بين الترغيب والترهيب ولازلت اذكر بعض فقرات خواتمها وكأن بصداها يتردد على مسامعي الآن وهو يقول فيها:
ثم اعلموا أنكم غدا بين يدي الله موقوفون وعن أعمالكم محاسبون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
ثم يذكر بفضل الصلاة علي الحبيب المصطفى عليه صلوات ربي وسلامه ويردف ذلك بالترضي على الصحابة الكرام قيقول:
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته الكرام وثلث بكم أيها المسلمون فقال قولاً كريماً {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وفضلك وإحسانك ياأرحم الراحمين.
ثم يختم خطبته بالدعاء للمسلمين.
اللهم أعز الإسلام وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين اللهم ادفع عنا البلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ماظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يارب العالمين.
ومع إنتهاء الدعاء تقام صلاة الجمعة فيقرأ فيها الشيخ صالح ماتيسر له من سورة الجمعة وسورة التغابن وأحيانا اخرى سورة الأعلى وسورة الغاشية ومع إنقضاء صلاة الجمعة ينتشراهل الجمعة من أهل مصوع في الأرض إبتغاءا لفضل الله.
كان لمصوع سوقا يعرف بسوق العرب يقع من الناحية الشرقية لجامع الحنفي وهو عبارة عن ساحة صغيرة تنتشر فيه بعض المتاجر الصغيرة والمقاهي ومحطة الباصات المتجهة إلى ضواحي مصوع هذا السوق في يوم الجمعة وخاصة بعد الصلاة تكون فيه الحركة غير عادية إذ يصطف الباعة كل ينادي على بضاعته وبمأن هذه المشاهد التي اذكرها هي من ذاكرة الطفولة فالشي الذي يحضرني أكثر هو ما كان من أهتماماتي الطفولية فأذكر منهم بائع الحلويات وأذكر تلك الحلويات وأنواعها المختلفة مثل حلاوة الطحينية والسلة والمشبك وأذكر بائع القرمش وبائع الحبحب (البطيخ أو برشيق) الذي كان ينادي بأعلى صوته مسوقا بضاعته "حبحب على السكين حبحب على السكين".
طبعا كانت هناك المطاعم وتميزها في هذا اليوم عن بقية الايام كغيرها من مكونات مصوع والتي تكون في هذا الوقت بالذات أي بعد إنقضاء صلاة الجمعة في أوج ازدحامها منها مطعم سلاّم الذي اشتهر بمخبازته لكن في طبق الغداء يكون السمك والسليقة والحلبة في مقدمة القائمة. بنفس الأهمية والشعبية كان مطعم سرومي الذي كان له رواده في ذلك اليوم حيث اشتهر بطبق الزربيان. كما اذكر مطعم ترجمان الذي كان مشهورا بأطباقه العصرية من الأكلات الإيطالية.
ولأنسى مطعم سيد علي الذي تميز بأكلة الهريسة حيث كانت طبق الجمعة المفضل عند الكثير.
من صور الباعة الذين ذكرتهم أعلاه ماتزال صورة بائع الحبحب الذي كان يعرف بجِدَّاوي ماثلة في ذاكرتي قد يكون السبب لكثرة ماكانت تروى عن الرجل من الحكايات الغريبة عن أصله وفصله ومن أين أتى فهو لم يكن من أهل مصوع أصلا وكانت الرواية الأكثر تداولا أن أصله من الحجاز وقد هاجر منها هربا من تنفيذ حكم بالقصاص كان قد صدر عليه.
حكاية بائع الحبحب جِدّٓاوي تثبت كيف كانت مصوع تؤوي إليها كل من قصدها وتفتح أبوابها لكل من طرقها لاتحقق في اصل ولا تبحث عن فصل لم ترهق من أقام بها بتكاليف تجديد الإقامة أو إجراءات نقل الكفالة بل عكس ذلك تماما كانت له الوطن البديل وكفلت له العيش الكريم.
تلكم هي مصوع من عاش فيها سكنت قلبه وأستقرت في ذاكرته ولن ينساها أبدا فلسان حاله يقول:-
وكيف أنسى دياراً قد تركت بها أهلا كراماً لهم ودي وإشفاقي
إذا تذكرت أياما بهم سلفت تحدرت بغروب الدمع أماقيِ
هي المشاهد كثيرة تلك التي كانت تميز هذا اليوم الفضيل في مصوع زمان وماسطرته هنا ماهو إلا اليسير مما اسعفتني به ذاكرتي وقد يكون المزيد من هذه المشاهد لدى أحبتي من أهل الملتقى وأعني بذلك جيلي أو من سبق.