مدينة مصوع علاقتي بها لم تكن وليدة الخدمة الوطنيه - الجزء الاول
بقلم الأستاذ: عبدالقادر شيخ حسين شيخ زايد - أبو رأمي
الدول المحظوظه في هذه المعمورة هي التي تمتلك شاطئا بحريا ومن نعم الله علينا ان وهبنا بحرا ممتدا حسدنا عليه
الكثيرون وهذا ماجعل المستعمر الاثيوبي يكشر عن انيابه ويدعي ان ارتريا جزء لا يتجزء من دولته لذا هب الشعب الارتري ليخرج من قمقمه ويقاوم حتى دحر المستعمر بعدته وعتادته وحرر ارضه وشعبه من نير الاستعمار واصبحت موانؤه الارتريه في قبضته بعد ان دفع غوالي التضحيات من خيرة ابنائه وبناته وذلك في عام 1991.
وللحرية الحمراء باب...
بكل يد مضرجة يدق.
وتعتبر معركة مصوع الاخيره من اشرس المعارك التي خاضها جيشنا الشعبي ضد المستعمر الاثيوبي ودفع فيها رتلا من الشهداء فكانت من اعظم الملاحم البطوليه في العالم ناهيك عن قارة السمراء.
وقد كانت معاركنا مع اعظم قوة في العدة والعتاد بل كان الجيش الاثيوبي آنذاك يعد من اقوى الجيوش الافريقيه وكان يحتل مركز الصدارة في القوة الا ان الثورة الارتريه جعلت منه اثرا بعد عين.
انها الارادة القويه التي تسلح بها الشعب الارتري واوصلته الى بر الامان ارادة الوحده والتماسك والعزيمة والتضحيه والفداء.
كانت اول زيارة لي لمصوع في العام 1986 وكانت بصحبة الوالد (رحمه الله) ووالدتي (مد الله في عمرها) وحرم الوالد العمة مريم ادريس (رحمها الله) واختي حياة، وكان ذلك في عهد المستعمر البغيض.
كان عمري آنذاك في السابعة عشره ولأول مرة اشاهد بحرنا الاحمر وعرضه مد البصر منظر يبهر المشاهد تلك الزرقة الخلابه والبحر مرة يرقد في سلام ومرة يهيج وخارطة مصوع مااجملها حتى انها تتفوق على كثير من الدول التي منحت بحرا في هذه الدنيا.
تجولت فيها عام 1986 وسلب لبي جمالهابحرهاوجزرها والبصمة التركيه ظاهرة في تصاميمها المعماريه.
وجدتها في العام 1986 خالية من سكانها الاصليين ووجدت اللغة الامهريه والبارات تضج بالاجانب وبينما انا في حالة من الاستغراب من هذه المناظر المزعجة التي شوهت روعة المدينه اذا بالاخ عبد الرؤوف طه (من ابناء كرن) يسلم علي فسلمت عليه بحرارة وتجولنا معا في هذه المدينه العامرة فقلت له يااخي عبد الرءوف اين ذهب اهل هذه المدينه وما هذا الفراغ الذي يعمها ؟ الا من اناس قلة فقال لي انه المستعمر افرغ المدينة من ساكنيها فهجروها وهاموا في ارض الله الواسعه الم تسمع امير الشعراء احمد شوقي عندما قال:
اذا حل الثقيل بأرض قوم...
فما للساكنين سوى الرحيل.
ومن يومها وهذا البيت لم يفارق مخيلتي وربما هذا البيت جعلني اتذوق الشعر واكثر من قراءته.
وهدف المستعمر بالدرجة الاولى انه يريد الارض والبحر ولايهمه امر الشعب.
لو خيروني اين تختار السكن بعد كــرن ؟ لما اخترت السكن الا في مصوع لأستمتع بروعة مبانيها والانس بساكنيها ومجاورة البحر واكل السمك الذي احبه حبا جما.
كان انتسابي للخدمة الوطنيه في عام 1998 اي ابان قطع العلاقة بين ارتريا واثيوبيا واندلاع الحرب بين الدولتين بعد ان اعلن رئيس وزراء اثيوبيا آنذاك ملس الحرب علينا وقد كان انتسابي في الدفعة الثامنه واثناء التوزيع رمت بي القرعة في اقليم شمال البحر الاحمر وكان التوظيف في مكتب (الاغاثه واللاجئين) وكانت دعوتي للمولي عزوجل ان اوزع في مناطق اجد فيها من اقاربي او بالقرب من اناس اعرفهم والحمد لله كان لي مااردت كان يقيم بهاآنذاك ومازال خالي الباشمهندس محمد ادريس حامد وهومسؤول محطة (حرقيقو) الكهربائيه حتى الآن ووجدت بها من كانوا ومازالوا جيراننا في كرن الاستاذ حسين آدم واخيه الصديق حامد آدم (عد حميراي) فلم اشعر فيها بفراغ.
وهذا من فضل الله علي ولحسن حظي كان معي في التوزيع من ابناء كرن الاخ والصديق رباط الحسن (فك الله اسره) والاخ سمؤون ارأيا (ودي صقويني) رد الله غربته فرحنا نحن الثلاث بهذا التوزيع وقلنا لامشكله مهما رمت بنا القرعه ما دمنا مع بعض.
بعد خروجنا من ساوا امرنا بالتوجه فورا لاسمرا ومنه لمصوع.
خرجنا من معسكر ساوا الكبير والواسع الي سعة اقليم القاش بركه وفطرنا في مدينة اغردات ولم تمهلنا المدينه حتي نكمل افطارنا ومع تمام الساعة التاسعة كانت حرارتها تلفح الوجوه فغادرناها.
عند وصولي لمدينتي كــرن طعدا نزلت من السياره للمبيت مع الاهل رغم التحذيرات العسكريه بعدم النزول وعدم مخالفة الاوامر.
لكن شوقي لابي وامي ولأم رامي ولرامي كان قد فاض ورامي كان عمره آنذاك تجاوز السنه بقليل.
وان انسى لا انسى لحظة قدومي للبيت فوجئت بوالدي وهو يتوكأ على عصاه حيث كان يعاني من السكر والكِبَرْ واحتضنني باكيا وقال لي كلمته التي لازالت ترن في اذني (لو انا سعيد بتدفنوني اِنْتُو) وشاركته دموع فرحة اللقيا.
كانت امسيه عامرة (بالجبنة) وطقوسهاالارتريه توسطتُ فيها الاهل والاحباب.
صباح الغد تحركت من كرن لاسمرا وعلمت ان دفعتي توجهت لمصوع وكان علي اللحاق بهم وفي رحلتي لمصوع استمتعت بمناظر اقليم شمال البحر الاحمر التي تبهر الناظر.
(نفاسيت) والضباب الذي يخلب الالباب وكأنه يغازل جبالها الخضراء.
تمنيت من وزارة السياحه ان تقيم فللاً وعمارات وسط هذه الجبال المخضرة التي تسرح فيها الغزلان والوعول والقرود منتشية بروعة البيئه الخلابه التي تنعم بها هذه المناطق.
ولكم تمنيت ان يخترق هذه الجبال قطارسياحي يتنقل بالسياح وسط هذه الجبال الملتويه والشاهقه التي يغازلها الضباب في وضح النهار.
انها مجرد امنيات و(ليس على الله بعزيز) ان ارى حلمي هذا ذات يوم وقد تحقق وربما على الاقل ولو جزء يسير منه.
و(جندع) الخضراء وجنائنها المشهورة ومبانيها الجبليه التي تحفها الخضرة وكأنها حدائق (بابل) المعلقه.
هذا الاقليم هو رائد السياحه بلا شك على مستوى الوطن. رحلتي توقفت عند مصوع بعد ان استمتعت من اسمرا وحتى مصوع بجمال الطبيعه دون ان يغمض لي جفن.
دخلت مصوع (باطع) التي تنضح بعبق التاريخ والبحر والتراث والجمال والبطوله والتضحيه تذكرت الفنان الكبير والرائع (احمد ود شيخ) فنان الثورة واغانيه العذبه التي حركت مشاعر الشباب ليلتحقوا بالميدان تذكرت اغنيته الخالدة:
قيح بحر من بدير بحرنا *** – *** تاريخ لشهد وعلم لأمرنا
إلى ان يقول الحبيب ود الشيخ *** – *** (علم كلو اب قرمتا اتهاقيتو بحرنا)
تزاحمت امامي تلك البطولات الفذه التي سطرها ابطال الجيش الشعبي لتحرير مصوع عام 1990 وهو يعبرون نحو (سقالت قطان) والتي كلفتهم الكثير من الشهداء وكان لحن الانتصار. وكان لزاما على الفنان ود الشيخ ان يسجل اغنية اخرى تسجل ملحمة (مصوع) و(سقالت قطان) التي سطر بطولتها ابطال جيشنا الشعبي، يقول الفنان ود الشيخ مستنطقا سقالت:-
قطان قبي سقالت²
اسئليني اب امان
كفو ودا محيرباي
وكفو علت لحالت ؟!!
يقول لسقالت العبور:
اخبريني بصدق ماذا فعل المحارب وكيف كانت الاوضاع ؟
إلى ان يقول في تلك الاغنيه المؤثرة
سب شامات حلوكي
لفاتي ادريس ودا امير
ويوم لأطقوم بدلا
ومن قأكي قبي بارود وحطين
اسئليني وقطان ؟
يقول ود الشيخ ل (لسقالت قطان):
تغنوا بك الذين هاموا عشقا بحبيباتهم كالعاشق الولهان ادريس امير واليوم تغير الوضع فقد اصبحتِ ممرا للبارود والجنازير الحربيه.
اغنية ملحمية لولا ضيق المساحة لاسهبت في شرحها.
واتمني من اخي الفنان ود الشيخ ان يعيد تلحين هذه الاغنيه بلحن هادئ (سِلَوْ) لان الاغنيه تستحق الاستماع لكلماتها وذاك الايقاع القديم هو ايقاع (سسعيت) ولكن دون ان تغير من لحنها كثيرا يافنانا يستحق التكريم لانه قدم الكثير في مسيرة النضال ومازال.
اما الفنان ود امير الذي ترعرع في هذه المدينه ومارس العمل بها وعشق فيها عشقه الخالد وخلده بأغان مازالت تحتل الصدارة في الاغاني العاطفيه رغم مرور اكثر من ثمانون عام عليها (لأن الجودة تفرض نفسها في كل زمان ومكان).
ومن الذي لم يقلد اغانيه وهو في بداية مشواره الفني ؟.
يقول ود امير في (سقالت قطان) هذه القنطرة التي تتوسط البحر والتي كان يسرح ويمرح فيها مع حبيبته.
عزيزي القارئ تخيل نفسك وانت تمر عبر هذه (السقاله) مع حرمك المصون او معشوقتك والبحر يرنو اليك واسماكه تتقافز فرحا لهذا المرور ؟!!!
يقول ود امير:
قطان قبى سقالت
هرسكيني من سكاب
وكاريكيني ديب حالت
ادام اقلوب حانيو
مدول مسل لتوالد
ولفكوهو افوكي
كم ولفلا سجارت.
الفنان ودامير يغط في نوم عميق ويحلم حلما جميلا يتذكر فيه عندما كان يمسك بخصر حبيبته ماراً (بسقالت قطان) ومساحتها التي تبلغ كيلو مترا بالتمام والكمال والبحر الممتد مد البصر.
ود امير تذكر تلك الايام كفلم سينمايحكي روعة المشهد ولكنه قبل ان يكمله يفيق مذهولاً ويلوم سقالت بانها ايقظته من نومه ووضعته في وضع لايحسد عليه لانه يفتقد الحبيبة التي قضي معها ذكريات لاتنسى علي هذه القنطرة.
يقول ود امير: ان ما يقارب بين الناس ليس بالضرورة ان تكون صلة قرابة بل القلوب اذا تحابت قد تكون صلتها اقوى
الى ان يقول في وصف بليغ... لقد ادمنت شفتيك كما تدمن شفة (الولفان) او المدمن ملامسة السيجارة.
احبابي دخلت مدينة مصوع بعد اثني عشر عاما من زيارتي الاولى لها وجدتها وهي تتنفس عبير الحرية ويسرح فيها بنوها وبناتها كما يشاؤون ولكن وجدت آثار الدمار الذي خلفته حرب التحرير ماثلا امامي ولا غرابة في ذلك فلكل شيئ ثمنه وثمن الحرية باهظ في الارواح والمباني.
بحثت عن مجموعتي فعلمت انهم في ضواحي مصوع في منطقه اسمها (ام كُلُّو) وتبعد عن الميناء مسافة اثني عشر كيلو مترا.
وكانت مهمتنا استقبال الارتريين القادمين من اثيوبيا والذين طردتهم السلطات الاثيوبيه بعد قطع العلاقة اثر نشوب الخلاف في منطقة (بادما) بعد ان نهبت اموالهم وتعرضوا للسجن والقتل وقال ملس كلمته العجيبه التي انتشرت وصارت مستهجنه من رجل دولة لاتتوقع منه النزول لكلمات سوقيه (من لم يعجبنا لون عينيه لن نتردد في طرده).
نواصل بإذن المولى... في الجزء القادم