الخلاوي القرآنية في مدينة كرن - الحلقة الأولى
بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح
توطئة وتمهيد: من أحب الأشياء إلي نفسي قراءة الكتب الفكرية، والمذكرات السياسية، وأفضل ما يعجبني
في المذكرات السياسية حديث كاتبها عن مدينته التي ولد فيها، وما اختصت به، واصفا الأحياء التي لعب فيها، وذاكرا المدارس التي درس فيها، والزملاء الذين صاحبوه، والأحداث السياسية، والثقافية التي شهدها في مدينته.
وكنت أحضر أول ما وصلت لندن أمسيات (نادي الكوفة) العراقي الممتعة، التي كانت تعقد مساء كل أربعاء، في دار النادي (ببيز وتر) وأجمل ما استمعت إليه في هذه الأمسيات تلك الندوات المتسلسلة التي خصصت للحديث عن السيرة الذاتية لكبار المفكرين، والكتاب، والصحفيين، والسياسيين، وعلماء الدين، وقادة الأحزاب السياسية، والجمعيات الثقافية، موصولة بالأحداث السياسية التي عاصرها كل منهم في مدينته، أو شارك فيها خلال حياته.
لقد رأيت في هذا النوع من النشاط الثقافي توثيقا لتاريخ المدن، وإبرازا لدورها السياسي والفكري، واحتفاء بمكانتها، وتقديرا لمن سكنوا فيها، وتركوا بصماتهم عليها، وعملا حضاريا رائعا، يجدر الاهتمام به، لكونه يصل الأجيال ببعضها.
ومدننا الإرترية ما زالت بكرا، تحوي الكثير من الذكريات، والأحداث الفكرية، والثقافية، والسياسية، وقليل من نقب عن كنوزها، وتحدث وكتب عنها، وعن رجالاتها من شعراء، وقادة، وعلماء، ومعلمين، مع أن هذا ضروري في مسيرة البناء الثقافي، من هنا رغبت أن أطرق هذا المجال، ورأيت أن أكتب عن الخلاوي القرآنية في كرن، اعتقادا مني بأنها جزء مهم في الحياة الثقافية لمسلمي إرتريا بشكل عام، ومسلمي كرن بشكل خاص، ولعلها تكون سنة حسنة يتبعني عليها الآخرون.
والكتابة عن الثقافة الإسلامية في هذه المدينة لا يعني بأي حال من الأحوال تجاهل الثقافة المسيحية فيها، وإنما يكتب المرؤ عن ما يعرف، ولا يقحم نفسه فيما لا علم له به، وجميل لو حدثنا مسيحيو كرن عن ما نجهله من تراثهم الثقافي، فأهل مكة أدرى بشعابها.
وما سأتحدث عنه في الحلقات القادمة عن الخلاوي القرآنية هو القليل الذي أعرفه عن مدينتي كرن في الجانب الثقافي الإسلامي، ولا شك أنه جزء يسير من كنز كبير، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك بعضه، ورأيت من الأفضل أن أكتب أولا هذه المقدمة، مدخلا إلى الموضوع، وتمهيدا له، متحدثا فيها عن كرن موقعا وسكانا، بشكل جد موجز، ذاكرا أهمية الكتابة في مثل هذه الموضوعات، وداعيا في الوقت ذاته كل المثقفين الإرتريين إلى الكتابة عن مدنهم، من باب التواصل الثقافي، وعلى كل قد يرضى عن هذا النوع من الكتابة قوم، ولا يرضي عنه آخرون، لكن مهما كان، فرضى الناس غاية لا تدرك، وعلى الكاتب أن يكتب ما يعتقده نافعا ومفيدا.
كرن الموقع والسكان:
كرن هي أحد أهم المدن الإرترية، تقع على بعد تسعين كيلومتر من العاصمة أسمرا تقريبا، في الغرب منها، عرفت في التاريخ القديم ببلاد البغوس، سكنها حاليا حشد من البشر، دخلوا إليها من الريف، ولم تكن من قبل مزحومة بهذا الحشد كما هي اليوم.
أهم أحيائها الشهيرة (عد حباب) (حلة عد عقب) (حلة السودان) (حلة عد الدبر) (حلة تكارير) (حلة حشلا) (حلة وربا) (كرن لعالاي) (قزا باندا) (كرن جديد) (حلة دار السلام بتريا)، وربما شهدت حدوث أحيآء جديدة، لا عهد لي بها، لكن على هذه الأحياء المذكورة تركتها، سكانها كما عرفتهم خليط من شتى القبائل، والمجموعات العرقية، على نسب متفاوتة، عرفت بنشاط ديني، ( إسلامي ومسيحي) واقتصادي، وثقافي، وسياسي، وتعليمي، عاشت في سلم ووئام، بين مختلف سكانها، ومعتقداتها، فلم أشاهد اقتتالا قبليا، أو دينيا شب فيها، طيلة الفترة التي عشتها، من يوم ولدت ووعيت، حتى خروجي منها عام 1974 م، كما لم يذكر لي أحد حدوث ذلك، في ما مضى من تاريخها، منذ أن صارت مدينة عامرة.
في العطاء السياسي تعد كرن من أهم المدن التي لعب أبناؤها دورا أساسيا في حركة الكفاح الوطني، ويكفيك أن مؤتمر الرابطة الإسلامية التأسيسي انعقد فوق أرضها، وأن السيد بكري المرغني رحمه الله، الزعيم الروحي للرابطة، هو من أعيان كرن ووجهائها الأفاضل، كما أن سكرتيرها العام السيد أبراهيم سلطان من أبناء كرن أيضا.
إذا ما رضيت كرن عن أمر ما أطاعته وأناخت له بسلام، وإذا ما سخطت ونفرت، أتعبت، وأزعجت، امتاز أبناؤها بالنكت الظريفة، والملح الطريفة، والمواقف العنيدة، إذا ما آمنوا بشيئ أقبلوا إليه بحماس، وإذا ما كفروا به أعرضوا عنه بعناد، قليل منهم من يكون مذبذبا، بين هؤلاء وهؤلاء، ينافق أو يداهن، لهذا وذاك، ومتى كشفوا هذا الصنف منهم عزلوه وهجروه، وحاصروه، لا سيما إذا ما رأوا فيه خطرا عليهم، وعلى حياتهم، من أهم أنشطة الثقافة الإسلامية فيها الخلاوي القرآنية (القرآن) كما يسمونه، والمعاهد الدينية، والاحتفال بمناسبة المولد النبوي، ورأس السنة الهجرية، وحوليات الطريقة الختمية، بالإضافة إلى عيدي الفطر والأضحى.
في الحلقات التالية من مقال الخلاوي القرآنية في كرن سأتحدث عن التراث القرآني في مدينتنا كرن، على أن ألحقه ـ إن شاء الله ـ بمناشط أخرى، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وكنت قد كتبت فيما سبق عن العيدين في كرن، وكذلك عن رمضان فيها، وتلقيت عديدا من رسائل الشكر والثناء من شباب كرن، منهم من كتب إلي من داخل كرن نفسها، من الجيل الصاعد، ومنهم من كتب إلي من مواطن الغربة، وزاد هذا من قناعتي بأهمية الكتابة في تراث المدن الإرترية، وازددت إيمانا بالفكرة التي طالما راودتني نفسي عن الكتابة فيها، وهي كرن، تاريخ نشأتها، سكانها، أعيانها، المناشط الاقتصادية، والثقافية، والرياضية، والسياسية، والدينية، التعايش السلمي بين أبنائها، معالمها، تضاريسها.
وبهذه المناسبة أود أن ألفت الإنتباه إلى أن تدوين أنشطة المدن الإرترية في مختلف مناحي الحياة، لا ينبغي أن ينظر إليه كترف إعلامي، أو تعصب جهوي، وتقوقع مناطقي، وإنما هو في نظري جزء لا يتجزء من المساهمة في تدوين التاريخ الإرتري، وعمل ثقافي يستحق الاهتمام والإشادة، والذين يبخسون هذا النوع من النشاط الثقافي، أو يقللون من شأنه، لا يقدرون الثقافة حق قدرها، ولا يعرفون مدلولها الحقيقي تمام المعرفة، ومن الأفضل لهم أن يوسعوا مداركهم في مفهوم الثقافة، ومعناها الواسع الشامل، من هنا أناشد كل مثقفي المدن الإرترية، نقفة، وأفعبت، وسائر بلاد الساحل، أغردات، وعدردي، وسائر مدن بركة، وبارنتو، وتسني، وسائر مدن القاش، مصوع، وحرقيقو، وزلا، وقندع، وسائر مدن السمهر، صنعفي، وعدي قيح، ومندفرا، وأسمرا، وسائر مدن المرتفعات الإرترية، أن لا يعبؤوا بتثبيطات المثبطين الذين لا يدركون أهمية تدوين مناشط المدن الثقافية، ويرون فيه انشغالا هامشيا، أو هدرا للزمن، فيما لا قيمة له، حسب نظرتهم، وأن يكتبوا بكل حماس عن مدنهم التي ولدوا فيها وترعرعوا، ويسجلوا معالمها البارزة، وتراثها الثقافي، وذكرياتهم فيها، من باب التواصل الثقافي بين المدن وأبنائها، وإحياء ما اندرس من تراث الآباء والأجداد، فالثقافة الوطنية ليست نبتة تغرس في اللحظة، وتنبت في اللحظة، وإنما هي نتاج تراكم من التراث الموروث، ومن لا قديم له، ليس له جديد، فالحاضر موصول بالماضي، ومن الماضي والحاضر يكون المستقبل، ومثل هذا العمل يقطع الطريق على أولئك الذين يعملون في تزوير الثقافات وتلويثها، ويفوت عليهم ما يضمرونه من طمس معالم مدننا، وتوجيهها وجهة أخرى.
بينما أنا أتصفح خلال اليومين الماضيين عددا من أعداد جريدتي (الزمان)، و(صوت إرتريا) اللتان كانتا تصدران في الخمسينيات وجدت العديد من المناشط الدينية، والرياضية، والثقافية، والسياسية التي كانت تمارس في مختلف المدن الإرترية، وتمثل رصيدا ثقافيا من تاريخنا، من ذلك سباق الهجن، والخيول، وقرض الشعر، وممارسة النقد السياسي، والفكري، ومما وجدته عن كرن مثلا خبرا عن مباراة كرة قدم، منشور في جريدة الزمان في 1 فبراير 1956م وهو العام الذي ولدت فيه، تحت عنوان (كأس صالح محمد عمر للرياضة في مديرية كرن) وعلمت من الخبر أن عدد الفرق الرياضية وقتها كان ثمان فرق، وكلها تبارت للفوز بهذا الكأس، كان منها فريق الأهلي الذي قابل على ساحة الملعب فريق الهلال، وانتهت المباراة بفوز الأهلي على الهلال بإصابتين مقابل إصابة واحدة، حسب صياغة الخبر. كما وجدت في الجريدة نفسها أن موظفي الحكومة بأغردات أقاموا حفل شاي كبير، تكريما للسيد أمين عبد الله الفكي… وهو سوداني قضى ما ينيف عن ثلاثة عشر سنة في كل من مديريتي أغردات وكرن…وكان في مقدمة الحاضرين سيادة علي محمد نور مهري، مدير المديرية... ووجدت خبرا آخر نشر في جريدة الزمان 28 فبراير 1958 م بعنوان (جمعية العروة الوثقى بمصوع) يتحدث عن حفل أقامته هذه الجمعية بمناسبة الإسراء والمعراج في حرقيقو، افتتحه مرحبا بالحضور الاستاذ إدريس إبراهيم بشير، ثم كانت تلاوة آي من الذكر الحكيم، من تلاوة السيد محمد شريف سيد حسن، وتحدث فيه كل من الاستاذ صالح عبد القادر بشير، وفضيلة الشيخ غوث الدين حاج مؤمن، والاستاذ عثمان صالح سبي ناظر مدرسة الإمبراطور بحرقيقو، والشاب خيار إدريس خيار، والاستاذ محمود صالح، وكان الختام بتلاوة من خليفة الخلفاء محمد خليفة عبد الله، رحم الله منهم الأحياء والأموات.
من هنا أناشد كل أبناء كرن أن يزودونني بما لديهم من أمور تستحق الذكر عن هذه المدينة، دونما تمييز بين عقيدة وأخرى، سواء ما كان منها في المجال الفكري، أو الديني، أو الرياضي، أو السياسي، أو عن أي شيئ يرونه مهما، حتى يخرج ذلك في كتاب مستقل مستقبلا، فإن في هذا خدمة لمدينتهم، وتوثيقا لتراثها، ولهم مني الشكر والتقدير، وأنا بدوري سأعمل في مقابلة من أعرف من أبناء كرن هنا في لندن، أيا كانت معتقداتهم الدينية، وانتماءاتهم السياسية، ما وجدت فيهم استعدادا للتعاون، ولا أزعم أن كل ما أكتبه صواب لا يحتمل الخطأ، وكمال لا يحتمل النقص، بل هو معرض لأن يتضمن هذا وذاك، والفاضل من أهدى إلي عيوبي، وبصرني بخطئي، وعرفني بزللي، ووجهني خير توجيه، وأعانني على إكمال الناقص، وتصحيح الغلط، وأنا له من الشاكرين، ولا يفوتني هنا أن أتوجه بالشكر إلى كل أولئك الذين أمدوني بالمعلومات اللازمة لإنجاز مقال (الخلاوي القرآنية في كرن)، وهي بحق معلومات ثمينة، ونفيسة، يستحقون عليها كل التقدير والإكبار، ومنهم الاستاذ الفاضل محمد أحمد إدريس نور، في استراليا، حيث اتصل مشكورا بكرن لتوثيق بعض المعلومات، مهاتفا من بقي فيها من رجالاتها الأولين، والأخ محمود محمد نور بلندن، ومحمد علي محمد نور في هولندا، اللذان أمداني ببعض الأسماء، وأكدا لي بعض المعلومات، والزميل الأخ حسن أحمد ميا بواشنطن، الذي ذكرني ببعض الذكريات، وأسعفني ببعض ما يحفظ من الأبيات الشعرية التي رددناها معا في القرآن، ولولا أن المصلحة تقتضي عدم ذكر البقية الباقية من الإخوة المتعاونين، لأوردت أسماء كل الذين ساهموا بآرائهم وأفكارهم في أنجاز هذا المقال، فردا فردا، فلهم مني كامل الشكر والتقدير، وأنتظر منهم مزيدا من التعاون.
والمقال سيتناول العناوين التالية:
• كرن والقرآن.
• معنى الخلوة والمصطلح الشائع استعماله في كرن.
• القرآن وأحياء كرن.
• الأب عندما يصطحب ابنه إلى القرآن.
• القرآن والرعاة.
• التكافل الاجتماعي في تعلم القرآن.
• الشرافة والختمة.
• المصاحف القرآنية في القرآن.
• القرآن تراث لابد من المحافظة فيه.
ورأيت من المناسب نشره على حلقات متتابعة، لا تتجاوز أربع حلقات، فتابع مشكورا حلقات الموضوع في المواقع الإرترية، قبيل، عونا، فرجت، عواتي، وعلق إن كان لك عليه تعليق.
والله الموفق.
نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.