لابد من حرقيقو ولو طالت الغربة - الحلقة الثامنة والأخيرة
بقلم الأستاذ: حسين محمد باقر - كاتب وبـاحث
بِسْمِ ٱللّٰهِ ٱلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
التنافس بين النائب حسن ادريس (بيت عثمان 47-1843) و(51-1849) والنائب محمد يحي (بيت حسن 49-1847م) ذكرنا في
الحلقة السابقة كيف ان الحكام الاجانب العثمانيين والمصريين وحتى حكام المرتفعات كانوا ينهجون دائما سياسة التفرقة بين الاطراف المتنافسة من عائلة النائب من خلال مساندة طرف على حساب طرف آخر، وتغيير تحالفاتهم وذلك من أجل توسيع شُقة الخلاف بين المنافسين واستغلال ذلك الصراع لتحقيق مآربهم واهدافهم. وقد نجحوا إلى حد كبير في سياستهم تلك.
ولعل أبرز نموذج على ذلك التنافس ما كان بين النائب حسن ادريس (بيت عثمان 47-1843م) و(51 - 1849) والنائب محمد يحيى (بيت حسن 49-1847م) ومن ينحدرون منهم من أبنائهم خلال الاعوام 1850م و 1860م. ونتيجة لتلك الصراعات فإن موقف النواب أصبح ضعيفاً الأمر الذي شجع العثمانيين أن يتجرؤون بمطالبة النواب بدفع جزية للحاكم العثماني اسوة بالآخرين. إلا ان النائب كتب التماس للحاكم العثماني مفاده: بأن النواب تعودوا أن يحصلوا على الجزية وليس دفعها فكيف يمكن مساواتنا باالآخرين ؟ ولكن في النهاية التزم النائب بالتعليمات الجديدة.
قال القنصل البريطاني (بلودن Plowden) في تقريره لعام 1854م ان تدمير سلطة النائب قد يجعل كل المناطق تصبح من دون قانون ولا أمن. وبالفعل بأن المناطق الداخلية أي المناطق البعيدة نسبياً من الشاطئ وبصفة خاصة الناطقة بالساهو وقبائل الحباب تمردوا على سياسة العثمانيين التي أجبرتهم بدفع الجزية بالقوة. وفي نهاية يونيو 1850م بأن قوة قوامها 250 جندي عثماني مع بعض من مليشيا النائب هاجمت منطقة الحباب التي تصدت للقوات المهاجمة بشراسة.
وفي فبراير 1853م بأن الباشا في مصوع قام بحملة بحرية وبرية مشتركة على ميناء (امفيلا Amphila) الصغير جنوب مصوع وذلك من أجل تثبيت وتقوية السلطة العثمانية ولجمع الاتاوات من السكان وهناك اجتمع عدد من ابناء الساهو وصل عددهم ثلاثة ألف رجل وهددوا بطرد القوة المهاجمة وتدميرها.
وهنا تدخل النائب ونحج في تهدئة الموقف واقنع العثمانيين بسحب القوة المهاجمة - وفي كل الاحوال فإن التوتر بين العثمانيين ومجموعات من الساهو في المنطقة استمر مما جعل عملية التواصل بين مناطق السهول والمرتفعات غير مستقرة، علما بأن الساهو كانوا يقومون بدور المراقب للممرات الرئيسة ووسائل المواصلات والانتقال مثل الجمال وغيرها.
قال (موزنجر Muzinger): بعد المواجهات التي جرت في عامي 54-1853م فإن الساهو لم يعيروا أي اعتبار لتلك السلطة (العثمانيين) وان الأمن لم يستتب منذ ذلك التاريخ.
كما هو معتاد وقد حصل ذلك في أكثر من مناسبة بأن النواب عندما يتم ابعادهم أو تنحيتهم من الحكم أو اي موقع رسمي سرعان ما يتحالفون مع المجموعات المتمردة في البر الرئيسي أي في الارياف في محاولة لتحدي سلطة الشواطئ والنواب المنافسين لهم. هكذا فإن النائب ادريس تحالف مع (الساهو) ضد العثمانيين والنائب محمد بحي، وكلاهما (النائب ادريس والساهو) هاجما قرى عايلت وزجا وام كلو وخربوا ونهبوا حواضن مصوع وكان ذلك في ديسمبر 1854م. طالب النائب ادريس بانسحاب العثمانيين من حرقيقو لكن قوة مصرية قوامها ثلاثمئة وستون جندي وصلت من (اقليم تاكا "كسلا" بالسودان) لمساعدة العثمانيين ومن اجل اعادة الاستقرار وتثبيت الوضع هناك وكان ذلك في 1856م.
أن وظيفة أو صفة النائب كجامع للأتاوات للحاكم العثماني وضعته تحت ضغط حقيقي. مع أن قوة النواب السياسية قد تدهورت أو تراجعت إلى حدٍ بعيد، لكنهم كانوا قادرين على الاستفادة من قوتهم المحورية في الشبكة التجارية الاقليمية، وموقعهم الاعتباري في تجمعات المنخفضات. وهكذا بأنهم حولوا عاصتهم السياسية إلى عاصمة اقتصادية. وكنتيجة لتجربتهم في السلطة من 1850-1840 حيث وصل بهم الضعف اوجه (وتدمير قوتهم المركزية في حرقيقو) لهذا فإن مجموعات من عوائل النائب وافراداً غادروا المنطقة لسيتغلوا طاقتهم في ممارسة التجارة بين مدن الشاطئ والنيل الأبيض وانتشروا في اوساط مجتمعات المنخفضات حيث يقيمون الآن، وتزوجوا من عوائل محلية وسيطروا في تجارة المنطقة، واحضروا العاج من منطقة النيل والشمع والبن من (متما) وكانوا يقومون بإرسال تلك السلع إلى مصوع عبر مدينة كرن.
قال (موزنجر Muzinger) في ملاحظاته: بأن هؤلاء التجار الذين كانوا يعملون في المقاولات كانوا يعرفون في كل مكان باسم (عسكر) أي الجنود. وكانت تجارتهم ذات قيمة عالية واضاف بان أهالي حرقيقو القدامى ازدهروا أو نجحوا بين الأجانب. إن الوضع اللامركزي وحكم العثمانيين الغير مباشر وانعدام الارادة أو عدم قدرة حكام المرتفعات في السيطرة على اراضي شواطئ البحر الاحمر وعدم الاستقرار في وسط وشمال المرتفعات خلال الفترة التي تسمى بـ (حقبة النبلاء) 1855-1769م التي تشير إلى غياب هيبة الدولة في المنطقة بين الشاطئ والجبل وذلك بين عام 1600م ومنتصف القرن التاسع عشر. هذه الحالة - مكنت النواب ان يكتسبوا قوة ويفرضون سلطتهم ويوسعون من نفوذهم على مجتمعات المنطقة.
ان نظام الهيمنة الذي أسسه النواب حافظ على الأمن النسبي والاستقرار في المنطقة من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. إن هذه الشبكات ومساحات من العمل أصبحت اداة ربط للنواب المقيمين على الشواطئ بالمجتمعات الداخلية ومنح شكلا لمنطقة المنخفضات في شرق اريتريا (حديثاً).