لابد من حرقيقو ولو طالت الغربة - الحلقة السابعة
بقلم الأستاذ: حسين محمد باقر - كاتب وبـاحث
بِسْمِ ٱللّٰهِ ٱلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
ما اشبه اليوم بالبارحة ما واجهته حرقيقو في العصور الحديثة يحاكي ما جرى لها في العصور القديمة. في الفترة الاخيرة من الحلقة
السادسة تحدثنا عن الهجوم الذي قام به ابن النائب يحي أحمد علي حماسين وما اقترفه من اعمال النهب والحرق. كما ذكرنا الاهتمام الكبير الذي أولاه النائب والاهالي لذلك الأمر ومناقشته على مستوى المجلس. وكذلك القرار الذي اتخذ من اجل حل الازمة والموافقة على مطالب (وُبي Webe)، وذلك تفاديا لأي مكروه قد يلحق بالأهالي.
ولكن وعلى الرغم من موافقة مجلس الحكم على مطالب (وُبي Webe) إلا ان الاخير تعامل مع اهل المدينة بالمكر وبأساليب خسيسه حيث شن هجوم خاطف على اراضي سمهر في ديسمبر 1843م لكنه تراجع بشكل سريع إلى المرتفعات. وفي سبتمبر 1844م استأنف عدوانه ولم يتكمن من الاستمرار أو البقاء في المنطقة لفترة طويلة وذلك بسبب الضغوطات العسكرية المصرية التي كان يواجهها على الحدود الشمالية لأراضي المرتفعات. كما كان مشغولاً بحربه العدوانية التي كان يشنها على مناطق (البقوس Bogos والحباب Habab).
اثناء تصاعد العمليات العسكرية على الشواطئ، قام العدو (وُبي Webe) ببعض المحاولات لتأسيس لسطلته على مناطق سمهر من خلال استغلاله التنافس التقليدي الذي كان سائداً بين النواب وهي السياسة التي درج عليها كل الأجانب من خلال تأييد طرف على حساب طرف آخر.
بعد وفاة النائب يحي احمد عام 1844م خلفه في الحكم النائب حسن ادريس. وهنا وضع (وُبي Webe) خطته بهدف محاولة التقسيم بين عائلة النائب من خلال اعترافه بأبن النائب المتوفي (محمد يحي) كأول نائب ولم يعترف بحكم النائب الجديد (حسن ادريس) لكن لم تنجح الخطة في تلك الفترة. لم يتوقف (وُبي Webe) عن محاولاته وفكر في طريقة اخرى وهي: اقناع الحكومة الفرنسية في ان تساعده في غزوه لمنطقة سمهر على ان يكون لفرنسا موطئ قدم اقليمي في خليج حرقيقو، ومن أجل تحقيق ذلك الغرض قابل (وُبي Webe) القنصل الفرنسي (ديجوتين Degoutin) وشرح له عن احقيقته بالمطالبة بالشواطئ بحجة ان النواب كانوا يدفعون له جزية وذلك اعتراف بأحقيقته في امتلاك اراضي المنخفضات.
وزعم ايضا بأن النائب كان الجهة الوحيدة التي كان لها الحق في مراعى المرتفعات مقابل مبلغ من المال يدفعه سنوياً. فرنسا لم تكن ترغب ان تعرِّض سياستها الحساسة مع السلطان العثماني في اسطنبول للخطر. وعليه رفضت فرنسا ان تُدخل نفسها في تلك المغامرة. لكن بعض المراقبين المراسلين العثمانيين والمصريين قالوا: بأنه وعلى الرغم من تظاهر الأوربيين بالحياد في صراع حكام المرتفعات والنواب إلا ان دعم الأوربيين للهضبة لم ينقطع بمختلف الطرق والوسائل ولولا ذلك الدعم لما أستطاع (وُبي Webe) ان يشن كل تلك الحروب.
في ديسمبر 1845 قام (رستم اغا أو عاقه) الحاكم العثماني في مصوع حينذاك - بتعيين محمد يحي نائباً وقد تجاوب القرار مع رغبة (وُبي Webe) وتفكيره. وبعد ذلك الحدث بوقت قصير تمرد النواب على السلطة العثمانية مرة اخرى باعتبار ان ما قام به (رستم عاقه) كان انقلاباً على النائب (حسن ادريس) بتعيينه للنائب (محمد يحي). قام رستم بهجوم على مدينة حرقيقو حيث واجه مقاومة شرسة من جبهة موحدة من الاهالي ومن جناحي النواب المتنافسين (متجاوزين صراعاتهم الداخلية) في مواجهة قوة خارجية واجبروا قوات رستم عاقه بالفرار إلى جزيرة مصوع.
ان عودة المصريين إلى مصوع وما حولها في عام 1846م اعطت دفعة جديدة لسطلة النواب حيث ان المصريين كانوا يدركون ان ربط مناطق نفوذهم في الأراضي السودانية وبصفة خاصة اقليم (تاكا Taka) مع شاطئ البحر الاحمر حيوي للغاية من اجل تحقيق طموح امبراطوريتهم من خلال ممارسة مزيد من السياسة العدوانية من اجل السيطرة على الموانئ وما حولها.
ان هذا الموقف المصري دفع إلى المواجهة المباشرة مع النواب. وفي مارس 1847م وصل إلى مصوع (اسماعيل حقي) الحاكم المصري الجديد حيث كان عازماً على اقصاء أو ازالة النواب من الحكم وكانت ترافقه قوة مشاة مدربة جيداً. نزلت القوة في حرقيقو في 16 يونيو 1847م واحرقوا بلدة حرقيقو وهدموا المنازل وامروا بتشييد القلاع كما خصصت كتيبة لحراسة آبار المياه التي كانت تزود ميناء مصوع بالماء. إن معظم أهالي المدينة تركوا مدينتهم المحترقة واصبحوا لآجئين على سفوح الجبال. بلدة (ام كلو) المعقل أو الحصن المهم الثاني لنائب حرقيقو تم محاصرتها بمئة جندي مصري.
في ظل تلك الظروف التي كان يواجهها اهل حرقيقو ارسل عدوهم اللدود (وُبي Webe) قواته لاحتلال مناطق من سمهر ولمحاصرتها إلا ان اهالي حرقيقو استنفروا في مواجهة قوات (وُبي Webe) مما ارغمه للتراجع قليلا ولكنه حول وجهته نحو (ام كلو) وهاجمها ودمرها وكان ذلك في 6 يناير 1849م كما هاجم ثانية مدينة حرقيقو وقتل ونهب وسلب وكذلك قرى اخرى على الشاطئ مستغلاً ظروف اللجوء والشتات التي كان يعاني منها أهل حرقيقو وكان ذلك بسبب الحملة العسكرية التي شنها اسماعيل حقي في ذلك الهجوم الغادر كانت حصيلة ما فقدته حرقيقو من ابنائها خمسمئة شهيد وخمسمئة واسير ومخطوف ونهب عشرة راس من المواشي. وتحدث مراقبين اجانب عن نتائج تلك الهجمات بان اكثر من خمسة عشر ألف من المواطنين من اهالي القرى المحيطة بميناء مصوع اصبحوا لاجئين في شوارع وأزقة مصوع.
رغم كل ما حدث استمر (وُبي) في مطالبته بدفع الجزية له وهدد بأنه سوف يستمر في نهبه وسلبه لمدينة حرقيقو والقرى الاخرى في الشاطئ ما لم يلتزم النائب بدفع الجزية. ومع توسع نفوذ (وُبي) وغزوه وتدميره لإقليم سمهر ونتيجة للتطور السياسي المصري ومأساتهم بوفاة الملك محمد علي في 1849م بأن مصوع وسواكن عادتا إلى (الباب العالي) أي السلطة العثمانية واستمر الميناءآن تحت سلطة العثمانيين حتى 1865م ما بين الصعود والهبوط لعام 1840م. فإن السيادة على الميناء انتقلت بين العثمانيين والمصريين ثلاثة مرات شهد النواب مرحلة تمتعوا فيها بدرجة عالية من سلطة الحكم الذاتي وكان ذلك في فترة الحكم العثماني من 46-1841م.
في عام 1847م قال القنصل البريطاني في مصوع السيد/ بلودن Plowden. خلال الثمانية اعوام الاخيرة بان النائب كان يتصرف في كل الأمور كحاكم مستقل على الجزء الرئيسي لبلاده واضاف القنصل البريطاني في مذكرته الطويلة : بأن النائب كان له صلاحية اعلان الحرب والسلم، وكان يتحصل على الجزية من كل القبائل ويبيع الأراضي على الافراد. لكن مع ازياد التورط أو الانخراط المصري في سياسة المنطقة في النصف الثاني من العقد تغير ذلك الأمر، واعاقت سلطة النائب في المنطقة مرة اخرى، ومع ان السلطة عادت إلى الباب العالي في مصوع إلا ان تآكل أو تعرية سلطة النائب استمرت تدريجيا. ان تحول بنية العلاقات بين النواب والمصريين والعثمانيين كانت النتيجة المباشرة لتعاظم الوجود المصري العسكري والتدخلات في الشئون السياسية في كل من مصوع والبر الرئيسي.
إن التدخل والمناورات المصرية في سياسية النائب المحلية والتحول المباشر في جمع الاتاوات من المناطق الداخلية أي خارج المدن كل هذا قوض سلطة النائب وقطع جزء من مصادر دخله ونفوذه.
نواصل في الحلقة القادمة انشاء الله