موقع اريتريا الإستراتيجي كان الدافع وراء تعاقب المستعمرين عليها - الحلقة الأولى
بقلم الأستاذ: حسين محمد باقر - كاتب وبـاحث
بِسْمِ اللهِ الرحمن الرَّحيِم
نتحدث في هذه الدراسة منذ الإحتلال البرتغالي عام 1513م والوجود العثماني - المصري عام 1557م (الذي تحدثنا عنه في الدراسة
السابقة) مروراً بالإستعمار الإيطالي ثم الإحتلال البريطاني وإنتهاءاً بالحقبة الفيدرالية الاريترية ثم الإحتلال الأثيوبي.
أما الحديث عن الثورة الاريترية بمختلف مراحلها وفصائلها ومنطلقاتها وما آلت إليه الأمور بعد جلاء القوات الأثيوبية - فسوف يكون له حلقه أخرى أن شاء الله.
في محاولة منا لجمع المعلومة الصحيحة فيها قدر من الحقيقة والشفافية سوف نستعين في هذه الدراسة البسيطة ببعض الكتب الهامة مثل كتاب: وثائق الخارجية الإيطالية حول إحتلال اريتريا وكتاب: اريتريا مستعمرة في مرحلة الإنتقال 1941م - 1952م لكاتبه السير كنيدي تريفاسكيس الذي عمل سكرتيراً سياسياً للإدارة البريطانية في أريتريا منذ بداية الإحتلال البريطاني في عام 1941م حتى عام 1950م وهو أيضاً من صنع اتحاد الجنوب العربي عندما كان حاكماً عاماً لمدينة (عدن) في حقبة الإستعمار البريطاني للجنوب اليمني والذي حطمته إرادة الشعب العربي اليمني بثورته المسلحة، وخرج تريفاسكيس من عدن مصاباً عندما القى عليه أحد الفدائيين قنبلة يدوية.
قبل خمس قرون تقريباً وبالتحديد عام 1513م تقدم البرتغاليون إلى السلطان أحمد بن إسماعيل سلطان مصوع وحرقيقو ودهلك وملحقاتها بطلب إقامة علاقات تجارية مع إمارته التي عرفت بثروتها من اللآلئ وتروس السلاحف وقرون الخرتيت والعاج وريش النعام وما لبث هذا الطلب السلمي أن تحول إلى غزو مسلح وإحتلال دام نحو أربعين عاماً حتى هزم العثمانيون الأسطول البرتغالي واحتلوا مصوع في عام 1557م كما ذكرنا في الدراسة السابقة.
وتظهر مصر في هذه الوثائق طرفاً أساسياً في النزاع فقد حلت في أريتريا محل الحكم العثماني في عام 1866م ولم يكن السكان المسلمون يشعرون بأنهم تحت حكم أجنبي سواء أثناء الحكم العثماني أو الخديوي المصري، لأن شئونهم الداخلية كانت تدار بواسطة حكامهم الوطنيين، كما أن وجود دولة كبيرة في المنطقة كان يشكل عنصراً مهماً في مواجهة الغزوات الأثيوبية المتكررة وغزوات الدول الأوربية من جهة البحر، هذا علاوة على أن مفهوم الإنتماء إلى الدولة الإسلامية العالمية كان يطغى على ما عداه من مفاهيم القوميات التي نشأت في القرن التاسع عشر.
الإحتلال الإيطالي:
لقد بدأ الإحتلال الإيطالي لأريتريا بمظهر تجاري برئ بنفس الأسلوب الذي تقدم به البرتغاليين على السلطان أحمد بن إسماعيل.
ففي عام 1869م، وهو العام الذي شقت فيه قناة السويس لتربط البحرين، الأحمر والأبيض، إشترى المبشر الإيطالي الوديع المظهر الدكتور جزيبي سابيتو Joziebi Sabito اشترى قطعة أرض من السلطان إبراهيم بن أحمد، سلطان عصب باسم شركة (روبا تينو Robatino) للملاحة لإستخدامها كمكان تحتمي فيه سفن الشركة وتتزود بالفحم في رحلاتها إلى الهند و وما لبث هذا الإتفاق التجاري أن تحول إلى إحتلال عسكري شمل الأراضي الاريترية كلها في مدى 34 عاماً (1869م - 1903م).
ويلاحظ في هذه الوثائق الصراع الفرنسي الإيطالي لكسب هؤلاء السلاطين والمشايخ وإستعمال جميع الأساليب في هذا السبيل، بالإغراء بالأموال والخداع وأخذ تواقيعهم مستندين على جهلهم ولنأخذ مثلاً على ذلك رسالة السلطان (برهان) سلطان (رحيتا) إلى وزير الخارجية الإيطالي (مانتشين Mantashini) حول بيع قطعة أرض في جنوب أريتريا يقول:
أنني عندما أتفقت مع الدكتور سابيتو لم أكن أعني القرية المذكورة (مارغابلة) ضمن إتفاق مبلغ الألفى ريال ويمكن أن أقسم على أنني لم أكن أعلم ماذا يساوي والآن أرجو أنصافي وإعادة (مارغابلة) لي، حفاظاً على الصداقة بيننا وأني على ثقة من أن الحكومة الإيطالية لا ترمي إلى إلحاق الضرر بي.
وما أكثر ما إستغلت بساطة المشايخ والسلاطين وسذاجتهم فقد كانت تؤخذ تواقيعهم وأحياناً بصماتهم على معاهدات يعدها المستعمرون وفق مصالحهم دون نقاش ومع ذلك فهذه البساطة لا تعفيهم من المسئولية التاريخية ببيع أراضي الشعب للمستعمرين.
وقد برزت النزعة الطبيعية للحرية ومعارضة الإستعمار لدى الجماهير ففي التقرير رقم 434 من الحاكم الإيطالي في مدينة عصب (بيستولانا) إلى وزير الخارجية يشير إلى صعوبة إحتلال الساحل الإريتري لشراسة أهله فيقول:
( إلى الشمال من (بيلول) وحتى مصوع تنتشر قبائل الدناكل وهناك حوالي عشرة قرى رئيسية على إمتداد الساحل وتحكمها شيوخ هذه القبائل دون أي تدخل مصري وذلك بعد فشل الحكومة المصرية في إحتلال تلك المنطقة التي يتصف سكانها بالشراسة إذ من الصعب جداً أن يقبلوا أن تفرض أي حكومة حمايتها عليهم.
لذا فتوسع الهيمنة الإيطالية على هذه المنطقة لا يفيدنا كثيراً بسبب طبيعة سكانها والحقيقة أن مقاومة الشعب الأريتري قد قضت على الرواد الأوائل للإستعمار الأيطالي الذين تمثلوا في بعثتي (جوستافو بيانكي Gostaro Bianki) وجو فاني بيانكي Jovani Bianki وحيث نجحت إيطاليا بمقتل أفراد الأسرتين لاحتلال المنطقة (لإنعدام الأمن أمام التجارة والتنقل).
ولما كانت بعثة (بيانكي) قد أبيدت بالقرب من (بيلول De martino) فقد لجأ الطليان إلى القوة وهذا يقول (دي مارتينو) قنصل إيطاليا في مصر، في برقية إلى وزير الخارجية الإيطالي بتاريخ 1884/11/17م.
(أن سعادتكم يجب أن يعترف أن إحتلال (بيلول) لا يمكن أن يتحقق بوجود قطعة بحرية بل يجب إنزال حامية فيها، وأني أحاول على الإحتفاظ بالشيخ (سعد) كأداة جيدة قادرة على تهيئة المناخ المناسب لنا).
وتأكدت سياسة العنف الإستعماري التي مورست ضد الشعب الأريتري من خلال برقية وزير الخارجية المؤرخة في 1885/03/12م إلى وزير الحربية (ريكوتي Rikoti) حيث يقول:
(في حال قيام بعض زعماء القبائل المجاورة بأعمال العنف ضدنا فعلى قيادتنا قمعها بالقوة).
وسرعان ما بدأت إجراءات القمع عندما بدأت تمردات شعبية ضد الإحتلال الإيطالي، وكانت النتيجة أن نصب المشانق وإرتكبت المجازر وأعدّ سجن (نخرة في جزيرة دهلك) ليستقبل مئات المواطنين من رواد الحرية والإستقلال.
وقد جرت الإحتجاجات من قبل تركيا ومصر وفرنسا ضد الإحتلال الإيطالي (لبيلول) دون أي رد فعل عسكري فمضى الطليان في زحفهم الحذر مع الإستمرار في التشاور مع بريطانيا وقد جاء في برقية السفير الإيطالي في لندن (نيقرا Nigra) إلى وزير خارجيتة بتاريخ 1884/12/23م بأن وزير الخارجية البريطاني (اللورد غرانفيل Lord Granfil) قال:
ليس لدى الحكومة البريطانية أي أعتراض على الإحتلال الإيطالي (لزولا) و(بيلول) ومصوع وذلك ضمن شروط معينة حول ميناء مصوع الذي أبرمت بريطانية بشأنه إتفاقية مع الحبشة ويضيف السفير: أن جواب الحكومة البريطانية هو لصالحنا وليس بالإمكان أن نتوقع أكثر من ذلك إذ أنه يعني أطلاق يدنا في التصرف كما نشاء فليس بالنسبة (لبيلول) وزولا فحسب وإنما بالنسبة لمصوع أيضاً.
ولم تجد إحتجاجات الحكومة المصرية والتركية شيئاً فقد إنزلت أيطاليا قواتها في مصوع بتاريخ 1885/2/5م ويقول (كايمي Kaymi) قائد البحرية الإيطالية الذي نفذ الإحتلال.
عارضت السلطات المحلية الإنزال ولم يشأ نائب الحاكم المصري (عزت بك) إستعمال القوة لكنه قدم إحتجاجاً استولينا على الحصون ورفع العلم الإيطالي إلى جانب العلم المصري حيث كانت توجد سرية في شبهة الجزيرة في شمال المدينة إلا أنها غير مكلفة بالحراسة البارجة (أميديو Amidio) تحاصر من ناحية البحر نظراً لورود معلومات حول قدوم باخرة تركية من جدة لتقديم إحتجاج على إنتهاكنا لحرمة الإراضي التركية.
وفي مكان آخر يؤكد وزير الخارجية الإيطالية بوقاحة وسلف بأن عملهم هذا لا يشكل إحتلالاً بل يستهدف حماية النظام والأمن. فيقول في برقية للسفير الإيطالي في إسطنبول بتاريخ 1885/02/13م: تصريحاتنا وتأكيداتنا بصدد الطابع الوقتي لإحتلالنا وكذلك إحترام العلم وسيادة السلطان قد كانت كلها واضحة، أن هدفنا ليس سوى الإسهام في الحفاظ على الأمن في هذه الأماكن وهي مهمة أعلنت مصر نفسها أنها عاجزة عن الوفاء بها سلطة ما على الشاطئ، والثورة المهدية تنتشر في المناطق المجاورة لمصوع أنها لمهمة شاقة أخذناها على عاتقنا ولكننا مصممون على الوفاء بها بعزم وإخلاص.
أن دعاوي الحفاظ على الأمن هذه تكشفها في نفس الوثائق تصريحات أخرى تعلن الإهداف الإستعمارية الحقيقية، ففي رسالة من (أنتوللي Antonili) إلى وزير الخارجية مانتشيني يقول لا بد من وقف العمل الحكومي الذي إستمر طويلاً دون جدوى وأن يستبدل العمل التجاري بما يملكه من نشاط يدر الأرباح بسبب غنى هذه البلدان.
ويؤكد (ماسيا Massia) نائب القنصل الإيطالي في مصوع ببرقيته إلى وزير الخارجية بتاريخ 1885/5/2م هذه الحقيقة عندما يقول:
كانت زيارتنا عبارة عن زيارة استكشافية لناحية الجزيرة المواجهة لمصوع لدراسة وضع صيد اللؤلؤ والسلاحف وكلاب البحر الذي يتم في أرخبيل دهلك والمجال الذى تقدمه الجزيرة لتجارنا، أري أنه تستحسن إلى نفس المناطق بحيث تكون قريبة منها ليمكننا من دراسة الوضع عن كثب، علماً أن هذه الجزيرة كانت ولا تزال حتى الآن كنزاً مدفوناً ولا أجد ثمة ضرورة لإنتظار نتائج دراستنا لغرض سيطرتنا على أرخبيل دهلك، لأن أي تأخير في إحتلالنا قد يفسح المجال أمام أحدى القوى الكبرى فتسبقنا عليها أنه عصر التسابق الخبيث من أجل تقاسم أفريقيا والعالم الثالث.
ومضى الطموح الإيطالي في السيطرة وفتح أبواب التجارة والثراء فقام الرواد بإقامة محطات تجارية في مختلف مناطق شمال شرق أفريقيا.
وبعد إحتلال إيطاليا للشاطئ الاريتري تطلعت إنظارها إلى التوسع نحو الداخل، لا في الأراضي الأريترية فحسب، بل أيضاً في مناطق هرر والصومال والحبشة.
وفي ثنايا إستعراضنا للوثائق الإيطالية، لابد أن نشير إلى الموقف الذي وقفه (عزت بك) آخر حاكم مصري للشاطئ الأريتري وإن كان موقف الذي لا يملك من الأمر شيئاً ففي برقية من القنصل الإيطالي في مصوع (مايسا) إلى وزير الخارجية بتاريخ 1885/3/31م يقول:
أنه فلاح مصري لا يقدر طبيعة الظروف وقد كان على غاية التزمت والتعنت وكانت لغة التفاهم بيننا الإشارات تقدم وجود لغة مشتركة.
ومن المفارقات العجيبة التي حدثت عند الإحتلال الإيطالي ورود مندوبين عن عدد من القبائل والمناطق من مختلف أنحاء اريتريا تطلب الحماية الإيطالية، بإستثناء منطقة الساحل التي إعترضت على الإحتلال الإيطالي لخضوعها للنفوذ الروحي والسياسي للدعوة المهدية تحت راية (عثمان دقنة) قائد شرق السودان المشهور، وهذا الأمر صحيح تاريخياً ومدده إضطراب حبل الأمن وتعرض السكان إلى حملات النهب والسبي والتقتيل من قبل القوات المهدية في غرب اريتريا والملك يوهنس في الجنوب والشرق، لقد كان شعب أريريا بموقع بلاده المحشورة كالسندوتش بين هضبة الحبشة وسهول السهول والبحر الأحمر كالايتام على موائد اللئام، فمن ناحية البحر كانت القوة الأوربية (ايطاليا، فرنسا، بريطانيا روسيا، تركيا) تتسارع لإقتسام بلادهم، بينما جحافل الحبشة ما كانت لتنتهي من غارة الآ لتشن غارة أخرى، مسترقة من يقع أسيراً لديها تنهب المواشي والأموال، ومن الغرب كانت تتدفق فرسان المهدية وتزرع الدمار في كل بقة نالت من أهلها معارضة حتى بلغت سبايا قبائل البني عامر أكثر من ألف فتاة فلعل بعض المناطق الأريترية رأت في الطليان أهون الشرين وهذا ما يشير إليه قائد السفينة (فرنجيرو) في تقريره بتاريخ 1885/6/30م عندما يقول:
تحدثنا مع وجهاء الدناكل حول أوضاعهم المؤلمة بسبب الهجمات التي يشنها الأحباش عليهم وبخاصة الهجوم الأخير الذي تعرضوا له منذ 18 شهراً والذي سلبت فيه أموالهم وقتل عدد منهم وكان سبباً في هجرتهم وعدم عودتهم إلى بلدهم وبالتالي فإنهم هم الذين يبحثون عن حمايتنا لتأمين إستقرارهم.
وقديماً كان سلطان مصوع ودهلك وتوابعها يضطر إلى دفع الإتاوة لملوك الحبشة وسلاطين مصر وأئمة اليمن إتقاء لشرهم، فقد كانوا جيرانهم الأقوياء الطامعين من الشمال والشرق والجنوب، كما دفع شيوخ قبائل البني عامر والحباب (الهدايا) لسلاطين الفونج بالسودان.
نواصل في الحلقة القادمة انشاء الله