الفنان الشعبي ود أمير صداقة ممتدة بين صوته وأذن المستمع
بقلم الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي مهتم بالتأريخ
الفن في أبسط تعريف له، هو مرآة للواقع، والمرآة لا تكذب ولا تزيف وإنما تنقل الحادث أمامها بالضبط.
وبنظرة موضوعية إلى التاريخ، ووقفة أمام النهضات الإنسانية منذ بدء الخليقة وحتى الآن، سوف نجد أن المؤرخ الوحيد الباقي هو الفن ولا سواه. فمجد أثينا نجده ممثلًا في أشعار ”هوميروس وسوفوكليس“ وفلسفات ”أبيقور وأرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط“ وغيرهم.
ود أمير الشاعر و الفنان الشعبي ١٩٢٠–١٩٦٤
الفنان الشعبي إدريس أمير المشهور بـ ( ود أمير ) يعتبر واحد من الأفذاذ الذين أثروا الشعر الغنائي بلغة التقرايت وذلك خلال مسيرة حياته العامرة بالفن والترحال والأشواق والألم.
فقد ولد شاعرنا المعروف بود أمير في بلدة "عيلت" في إقليم شمال البحر الأحمر، حيث درس في احدى الخلاوي "مدارس تعليم وحفظ القرآن" في بلدته، ومن ثم بإحدى المدارس الإيطالية في مصوع، ولم يكمل دراسته إذ قطعها بعد اجتيازه الفصل الثاني.
وخلال وجوده في مصوع في حي "امبيرمي" العريق كان يتجمع حوله الشباب ويقيمون ليالي السمر والغناء حتى الصباح وتلك الحفلات التي كانت تقام في الريف كان يرتادها الشباب والفتيات على حد سواء واشتكى سكان "أمبيرمي" لشيخ الامين وقالوا له هذا الشاب أفسد الشباب وبالغناء ليلاً وبعد ذلك انتقل لكي يعيش في حي "أماتري" وظل هنالك يغني وينثر الالحان بين محبيه من كافة الأعمار وكان يتجول في كل مدن سمهر والساحل الشمالي في رحلة الشتاء والصيف وفي مواسم الحصاد.
بدأ حياته العملية كراع للأغنام ثم التحق بالخدمة العسكرية الإجبارية ضمن البحرية الملكية الإيطالية. وكان ضمن القوة المرابطة في "مرسى تكلاي" على الساحل الشمالي لإريتريا.
بعد هزيمة دول المحور، عاد ود أمير ليعمل في ورشة "لستر ستيمو"، وفي عام ١٩٤٣م تزوج بفتاة من "عد شومة" اسمها "سعدية عثمان"، ولكنها توفيت بعد أربعة أعوام وهي في حالة المخاض. وفي عام ١٩٤٨م التقى شاعرنا ود أمير بفتاة من الساحل الشمالي اسمها "آمنة" أحبها من أول نظرة، ولكن كانت مخطوبة لغيره وتزوجت خطيبها وصدم ود أمير وتفجر شعراً، حيث بدأ رحلة الترحال والتجوال في كل أنحاء إرتريا، ينظم الشعر ويقيم الحفلات الغنائية الشعبية، ويغني متنقلاً من قرية إلى قرية ومن بلد إلى بلد.
حيث قال يتغنى بمحاسن عشيقته أمنة:-
ولا طارّات لأقعراي... إسيت قرم هادي تو
قدكا موتا لبلوكا... إقل تورسا لأسيتو
وفي عام ١٩٥٠م هاجر إلى السودان، حيث التقى هناك بالشاعر الغنائي المعروف في الساحل / عمر قنشرة الذي كان يقيم وقتها في مدينة بورتسودان.
وفي احدى الصباحات النقفاوية الجميلة في عام ٢٠٠٣م حدثني الشاعر الغنائي / عمر قنشرة عن لقائه الأول بالفنان الراحل/ ود أمير في مدينة بورتسودان بحي ديم المدينة.
وقال: كنت جالس في احدى مقاهي ديم سواكن وفجأة شاهدت الفنان ود أمير قادما نحوي، وتفاجأت حين شاهدته وقفزت من مكاني وتحركت نحوه وتعانقنا طويلا. ولمعرفتي السابقة به في إرتريا سألته عن الأصدقاء والأحباب وكل المعارف، ثم توجه معي إلى منزلي الكائن وقتها في أطراف حي ديم المدينة، حيث قضى معي عدة أشهر، وكنا نقيم الحفلات وجلسات السمر في الأحياء التي كان يقيم بها الإرتيريون في مدينة بورتسودان.
وأردف قائلا الشاعر والمغني / عمر قنشرة:
في السنوات التي قضاها ود أمير في بورتسودان كنا نلتقي باستمرار، وألف في تلك الفترة الكثير من الأغنيات، وفي بورتسودان أصيب الفنان ود أمير بمرض الملاريا وتم نقله ليقيم في حي "ديم كوريا" وأثناء فترة مرضه أحب إحدى الفتيات وقد كانت تزوره باستمرار، وكانت تجلب له بعض المشروبات والمأكولات، حيث نظم فيها الشعر، وبدأ يردد الشاعر والمغني / عمر قنشرة.
هذه الأبيات تغنى بها الشاعر الغنائي الشهير ود أمير خلال مرضه في بورتسودان:-
ديم مدينة هِليكو... ديم مدينة لأميَت
حليب مطيق قبأكوا... كروي ديبا زبديت
اقل حمووم دوا تو... واقل فاتي بعل نيت
حوكي قدم سافرا... شقيي أقلوا طاقيت
ويعتبر عصر الفنان ود أمير والذين عاصروه من الفنانين العصر الذهبي لأغنية التقرايت، وكانت الأغاني في ذاك الوقت تنتشر بقواها الذاتية فقط، فلم يكن هناك إذاعة أو سينما أو تلفزيون أو ميكروفون. صحيح أنه كانت هناك اسطوانات ”مونوغراف“ ولكن وجودها كان محدودا جداً ويقال أن الفنان ود أمير سجل بصوته أغاني كثيرة والاسطوانات التي تحوي تلك الاغاني موجودة لدى معارفه في مدينة جده. هكذا سمعت، وكم نكون سعداء لو تكرموا الذين يملكون تلك الاسطوانات بطرحها على الاسواق وتوثيقها حتي تكون في متناول الجميع لأنها تراث إرتري خالص.
وود أمير صوت عبقري وهبة إلهية، وصوته وغناؤه من العوامل الأساسية التي أدخلت على النفوس والقلب الانشراح والسرور. ولا شك أنه كان ساحر بكل ما تعنيه هذه الكلمة. والمؤكد أن هذا السحر المنطلق من كلماته كان له الأثر الكبير في إقبال الكثيرين للغناء عبر تقليد اغانيه، لأن كلماته كانت قوية ورصينة وأوصاف غاية في الدقة وشامخة مثله. وتجد اليوم كل الفنانين يتغنون بأغنياته التي تجد رواجا كبيرا لدى المستمعين ويكون اسم ود أمير وتراثه الغنائي حاضراً عندما يتحدث الناس عن الشعر الشعبي بلغة التقرايت.
يمتاز شعر ود أمير بجمال العبارة وحصافة لغة التقرايت التي يتغنى بها وهو شعر ينبع من تجربة حقيقية عايشها الشاعر وخاصة فيما يتعلق بأوصاف محبوبته ( آمنة ) والغناء بها فقد ترك زواجها من أحد الرعاة في نفسه جروحا وآلام عميقة كانت محفز قوي على تدفق هذه القريحة.
يعتبر شاعرنا وفناننا مدرسة غنائية متفردة سيظل لعقود دون منافس لأنه كان يكتب ويرتجل كلمات اغنياته في المناسبات العامة ويحفظها الشباب الذين عاصروه ويتناقلها الناس شفاهة هنا وهناك حتى عبرت الحدود، لأن الأغنية ليست صوتاً جميلًا فقط، إنها مجموعة أشياء، فالأغنية بحاجة للكلمة الجميلة والصوت القوي واللحن الجاذب، أيضاً بالهدف والرسالة. ولو اهتم الفنانون فسوف يُعاد ترتيب الأور لهدف والرسالة. ولو اهتم الفنانون فسوف يُعاد ترتيب الأوراق المخلوطة وتتم إعادة الجيد من الغناء إلى الصدارة والريادة، لابد من الإيمان بالهدف والرسالة !
وود أمير الفنان والانسان كان رسول للغناء وجسد في أغانيه العديد من المثل والقيم وعكس التراث الثقافي للمجتمع الذي كان يعيش فيه، فهو ملك الوصف البليغ وعبر عن كل شيء جميل يشاهده ووصف لنا العلاج البلدي وغنى للمدن والقرى
• قندع،
• وقرورة،
• مصوع،
• نقفة،
• وشعب،
• وبورتسودان ...الخ "،
والعادات والتقاليد وعلى قيم الاعتماد على الذات، ورحلة الشتاء والصيف التي تعرف بـ "سبك ساقم"، بل ووصف الحياة البرية وذكر أجود أنواع الاسماك الديراق "ممبا عاسا ديراقتو... صفد إكون وتونا"، لم يخفي خيباته وتعاسته حيث غني لأحلام اليقظة والاحلام التي لا تتحقق وشوقه للعيش مع محبوبته، وكان دوما يذكر دور المشايخ ورجال الدين في المجتمع والعلاج بالقرآن والطب البلدي، دوماً يردد بأن علاقته بمحبوبته ترتبط بحبال متينة من العواطف والاشواق التي لا يعرف الناس كنهها والتي لا يمكن قطعها بالأيدي.
روائع كثيرة وعديدة، تغني بها الفنان الشعبي ود أمير داخل قالب لحنه المميز "هليت ديبي إي تقوي" حيث نجد كلمات تنبع من إحساس صادق تجاه من كان يحب ويعشق ووصف دقيق لمحبوبته:-
• شفاهها،
• طول شعرها،
• عطرها،
• أناملها،
• رقتها،
• خجلها،
• خفة دمها،
• صدقها،
• نظراتها،
كما يصف حالته وعشقه وحرقته لفراق محبوبته حيث يقول:-
فتي حطين باقعتا... عاجم بَن بَن كافلوا
هرور بتا كبجي... فاتحت هليت دكاكين
بيع وشراء اقل تيدى... واقل تحكم سلاطين
ديب لبيي رسمت... بعل مشيدل قطاين
وهو العصامي الذي يعتمد على نفسه ويبوح بأسراره ويحكي عن همومه وشجونه معتمداً على نفسه، ولسان حاله يقول:-
حكو سفرا إي تكهل... كرشت سكين أدررا
ويقول:-
قندع ديبا قَبتا... مكاريتشي قويكو
شببيني وقيسي... كم بديرإي حذزيكو
قِرد إكون وقطفت... من فتوني فتيكو
سأن إكون وركب... إت عافيتشي حزيكو
ما أروع هذه الكلمات من شاعر عفيف وقلب محب صادق حين يعبر عن حبه ويذكر محبوبته وينتظر نظرة منها ثم تغادر، فتاة أحبها دون أن تكون بينهم أي صلة سوى رباط الحب والهيام ويؤكد لها بأنه أحبها ويعتمد على ذاته وقدرته.
صورة بديعة أقرب الى الخيال من شاعر وفنان محب تغني بها ود أمير كأنه سلطان زمانه في زمن سادت فيه العادات والتقاليد التي تحد من البوح بالمحبوب، وهذه الكلمات تعبر عن ما أقول:-
هول بيلا قرينا... وهرسيني من سكاب
سراي رئيكو بيليني... كمسل عالم بعل كتاب
وأيضاً حين يقول:-
ولت ساحل من قدم... مركب كورور إقَرا
جنت لهبو لاما... ديبكي تمررا
وأيضاً وصف بليغ لحالة الترحال التي كانت سائدة بين الناس في تلك الآونة وحتي اليوم:-
عدا سبك أمما... ورب بيلا وتلبوس
قيح حبر برتكان... طيناتاتا كم فروش
"وفروش" بلغة التقرايت تعني وسادة "مخدة" تكون عادة محشية بالقطن وانواع مختلف من العطور حيث تفوح منها العطور حين تنام عليها العروس أو الفتاة المدللة.
وبعد السنوات التي قضاها الشاعر والمغني الراحل/ ود أمير ببورتسودان توجه إلى السعودية التي قضى بها عدة سنوات ثم توجه إلى الكويت في عام ١٩٦٤م حيث توفى هناك في العام نفسه. والفنان ود أمير بعد رحيله عن الدنيا ترك تراثا غنائيا هائلا، حيث تغنى الكثير من الفنانين بكلماته وألحانه دون أن يكلفوا أنفسهم بالإشارة إلى اسمه، وهذا يفرض على الجهات التي تهتم بالشأن الثقافي أن تحفظ التراث الغنائي للشعراء الغنائيين الذين عطروا ربوع بلادنا بأغنياتهم وألحانهم الجميلة ومواويلهم التي حفظها الناس من أفواههم وهم يؤدون روائعهم الغنائية في الحفلات العامة وجلسات السمر في مواسم الترحال والحصاد.
الفنان الراحل ود أمير خُلِد في أذهان الاجيال التي عاصرته وحتي يومنا هذه تشكل أغنياته عشق سرمدي يختلف عن غيره وأيقونة تتردد في كل المناسبات السعيدة حيث لا تخلوا حفلة عرس من ترديد أغاني ود أمير.
أنني في الوقت الذي أقدم هذه المساهمة المتواضعة أناشد كل القراء والمهتمين بنفض الغبار عن تاريخ مبدعينا في مختلف المجالات، ولاسيما الأدب لأنه بحق مرآة الأمة والأشخاص الذين عاصروا الفنان ود أمير تقع عليهم مسئولية كبرى بتدوين كل ما يعرفون عن حياته الخاصة والعامة حتى نحفظ تاريخ وسيرة هذا الفنان المبدع، وفي هذا المجال أذكر جهود الفنان والشاعر/ محمود لوبينت وإسهاماته في حفظ التراث الغنائي للعديد من الفنانين وأولهم ود أمير.
قليلة هي الكلمات والأغاني الإرترية التي لها معنى وصدى والتي تعطيك معني عميق تجعلك تقف عندها لتتأملها استمعت إلى كل الأصوات التي شدت والتي نشزت أيضاً وعن الإسفاف والهبوط بالكلمة واللحن فحدّث ولا حرج ! فالهبوط والإسفاف أكبر وأكثر من الإجادة، والخريطة الغنائية اليوم لم تعد خريطة بل صارت هرجلة ولذا فهي في حاجة إلى فض اشتباك بعدما أختلط فيها الجاد والهزلي واللامعقول من الغناء بديلاً للغناء الجاد في الكلمة واللحن والأداء.
وإن العهد الاول للغناء، أي عهد ود أمير وعجولاي وود باشقير كان هو قمة الغناء الجاد، ثم مرحلة الفنان الراحل الامين عبداللطيف والغناء بالآلات الحديثة، ثم شهد الغناء نهضة كبرى في عهد الثورة ظهرت أصوات كثيرة مثل الفنان الكبير إدريس محمد على والفنان ابراهيم قورت.
أصوات أخرى وجدت القبول من الشعب الإرتري في ظل عنفوان الثورة وبريقها ولكن لم تستمر في الغناء وتركت الساحة لأنهم لم يقدموا أعمال جديدة وأخرون يغنون للوطن دون غيره من المجالات الغنائية. ولكني أعود وأقول انني مؤمن بالتجربة وأرجع كل شيء لها. لذا أقول ان كل هذه تجارب، ويجب أن نترك كل تجربة تعبر عن نفسها وننتظر. هل سيكتب لها الاستمرارية أم لا. وهذا لا يعني إن الساحة الغنائية لا يوجد بها فنانون متميزون، فقط يجب أن نسمع أغاني خاصة بهم تعبر عن شخصيتهم والنضج والابداع يأتي مع مرور الزمن مع كثرة الاعمال الجيدة.