تاريخ الفرقة الفنية لقوات التحرير الشعبية - الحلقة الرابعة
بقلم الفنان المناضل: عبدلله عثمان اندول
في بدايات العام 1975 تصاعدت وتيرة الخلافات داخل قيادة التنظيم (البعثة الخارجية من جهة
واللجنة الإدارية من جهة أخرى) بعد إجتماع الخرطوم الوحدوي الذي عقدته البعثة الخارجية مع جبهة التحرير الأرترية برعاية سودانية وعراقية، والذي رفضت اللجنة الإدارية نتائجه بحجة أن البعثة الخارجية لم تكن مفوضة لتمثيل التنظيم في ذلك الإجتماع وسارعت بعقد سلسلة من الإجتماعات على مستوى الكوادر المتقدمة داخل الميدان لحشد التأييد لصالح موقفها من ذلك الإجتماع، وبالمقابل، عقدت البعثة الخارجية إجتماعاتها لممثلي المكاتب الخارجية في الخارج لغرض تأييد إجتماع الخرطوم الوحدوي، وهكذا صدرت البيانات والبيانات المضادة ودخل التنظيم في مرحلة الإستقطابات وتحديد المواقف السياسية.
وفي خضم تلك التطورات، وصل الى الميدان المناضل عُمر سراج الذي كان حينها ممثلاللتنظيم في العراق وعقد إجتماعا عاما معنا كجهاز إعلام وكان المناضل محمد على عمرو قد حضر الإجتماع بصفته رئيسا للجهاز وعضوا في اللجنة الإدارية بالميدان.
إجتهد المناضل عمر سراج في شرح تفاصيل إجتماع الخرطوم لتنويرنا بمخرجاته ونتائجه، ولكن بكل أسف حدتث مشاداة كلامية يبنه وبين المناضل عمرو الذي لم يتردد في الجهر بمعارضته لعقد إجتماع الخرطوم بل أنه كال الاتهامات للبعثة الخارجية وأبدى موقفا مضادا لنتائجه. أما نحن كجزء من عضوية الفرقة فقد كُنّا نميل الى تأييد مواقف البعثة الخارجية لقناعتنا بأنها قد جاهدت من أجل لملمة الصف الوطني للوصول الي وحدة وطنية حقيقية وما نتائج اجتماع الخرطوم الّا بشائر أولية واعدة لوحدة اندماجية كاملة بين قوات التحرير الشعبية وجبهة التحرير الارترية، وكُنا نشعر في نفس الوقت أن قيادة الميدان المتمثلة في اللجنة الإدارية قد بدأت عمليا في وضع العراقيل أمام جهود البعثة الخارجية الوحدوية لأسباب سياسية وفكرية وعليه لم نكن نرغب في الأستمرار مع اللجنة الإدارية التي كانت تقود التنظيم داخل الميدان كما هو معلوم.
في تلك الفترة كان الأخ الفنان إدريس محمد على قد غادر الميدان في إجازة طارئة الى قرورة ولم يكن بالإمكان التواصل معه حينها ولكننا كُنّا نراقب تطورات الأوضاع داخل التنظيم في الميدان ونتابع مالالات الإنشقاقات والإصطفافات الناجمة عنها خاصة بعد انعقاد اجتماع شمال بحري وما انبثقت عنه من قرارات.
وبعد زيارة المناضل عمر سراج بفترة قصيرة إنتقل جهاز الإعلام إلى مقره الجديد في معسكر "زيرو" الذي وصلتنا فيه، من حيث لا يخطر على بال، رسالة من أحد مناديب البعثة الخارجية عن طريق مواطن عادي من رُعاة المنطقة الذي جاء إلى المعسكر وبعفوية لا ينقصها الحذر والإحتراس، سأل عنًا معبرا عن رغبته لرؤيتنا والسلام علينا وعند اللقاء به سلّمنا رسالة تتضمن شرحا للوضع الراهن وموقف البعثة الخارجية منه وتدعونا للحاق بها. شكرنا ذلك الرجل على أمانته ووفائه واجتهاده لإيصال الرسالة إلينا وعُدنا الى وحداتنا بداخل المعسكر لمواصلة روتين حياتنا اليومي دون أن نشعر أحدا بما جرى.
شرعنا فورا في إعداد خطة الانشقاق عن اللجنة الإدارية والإلتحاق بصفوف قوات التحرير الشعبية - البعثة الخارجية التي كانت حينئذ في طور اللملمة والتكوين، وقررنا البدء بإخراج مؤسسي الفرقة ممن يتفق مع موقفنا بهدوء وعلى مراحل وعليه تم الإتفاق بأن نقوم بإخراج المناضلة سعدية محمد سعيد ومعها المناضل قبراى كخطوة أولى وقد تم ذلك بسهولة بعد إقناع المناضل أحمد القيسي بحاجة المناضلين سعدية وإدريس قبراي الى إجازة لكي يتمكنوا من زيارة أهاليهم، فوافق القيسي على الطلب وكلف طوف من المناضلين لإصطحابهم حتى إدخالهم الى مدينة قرورة. وبعد عدة أيام، عادت المجموعة المكلفة بإيصال الفنانة المناضلة سعدية والمناضل قبراي الى المعسكر، الأمر الذي طمأننا بأن سعدية وقبراي قد وصلا إلى وجهتهم وما علينا إلّا ان نُخرج من تبقى مِنّا في المعسكر مع إدراكنا التام بأن قرار إخراج من تبقى من مؤسسي الفرقة ينطوي على مخاطر محدقة بحياتنا جميعا، أضف إلى ذلك أننا لم نكن قد وضعنا تفاصيل خطة الإنشقاق ولم نحدد أيّ طريق سنسلك للخروج من المعسكر وكيف سنتصرف في حالة فشل محاولتنا للأفلات من اللجنة الإدارية.
في نهايات العام 1976شعرنا ان ساعة الصفر قد حانت وإنه لايمكن تجاهل عامل الزمن ولم يتجاوز حينها عدد من تبقى في المعسكر من مؤسسي الفرقة الثلاثة أعضاء وهم الأخوة هُمّد محمد سعيد وإبراهيم همجاي وأنا، حيثُ إتفقنا على كتابة رسالة قبل خروجنا من المعسكر، تكون بمثابة بيان، نوضح فيها أسباب إنشقاقنا من اللجنة الإدارية، وبالفعل كتبنا الرسالة ووضعناها داخل صندوق آلة الكمنجة بحيث يمكن ملاحظتها فور فتح صندوق الكمنجة وأسرعنا بالخروج من معسكر زيرو في جنح الظلام بأسلحتنا المتمثلة في الكلاشينات وسرنا بإتجاه مواقع معسكرات جبهة التحرير الأرترية لكي نسلم أنفسنا ونطلب إلحاقنا بقوات التحرير الشعبية – البعثة الخارجية.
سِرنا بخطى متسارعة لحوالى الأربعة ساعات دون توقف ولسان حالنا يدعو الله أن نصل الى أقرب معسكر للجبهة بسلام وان لانصطدم بأخواننا المناضلين لأتهامنا بلأقدام على الإنشقاق عن اللجنة الإدارية، وفجأة هطلت أمطار غزيرة ونحن نسير بمحاذاة أحد الجبال، وتقصلت الرؤيا وأصبح مواصلة السير صعبا في تلك الظروف، ومن حسن الطالع ان سمعنا أصوات تصدر عن بهائم وكأنها ترشدنا الى بر الأمان، فتقدمنا نحو مصدر تلك الأصوات وإذ بنا نجد قرية صغيرة بجانب خور "أقرع"، فرحب بنا أهل القرية بعد أن أخبرناهم بأننا طوف تابع لجبهة التحرير (وكانت تلك كذبة بيضاء إلتجئنا إليها خشية إنكشاف أمرنا) وقلنا لهم اننا قدمنا من إقليم دنكاليا وكل ما نريده منهم هو إرشادنا الى أقرب معسكر لجبهة التحرير الأرترية فقام أهل القرية بواجب الضيافة وأعدوا لنا وجبة العشاء وأرشدونا الى معسكر "لِوى"، الذي يقع على مسيرة سبعة ساعات من خور أقرع الذي تقع بجانبه تلك القرية.
تحركنا صوب معسكر "لِوى" ووصلنا إليه صباح اليوم التالي وقابلنا قائد المعسكر وشرحنا له حقيقة أمرنا وأكدنا بأننا قد أنشققنا عن اللجنة الإدارية وأن هدفنا هو الوصول الى قوات التحرير - البعثة الخارجية عن طريق السودان. ولم يمضى على وصولنا الى المعسكر سوى عدة ساعات حتى جاءت مجموعة مسلحة تابعة للجنة الإدارية مكُلفة بالقبض علينا وإرجاعنا الى معسكر"زيرو" وطلب قائد تلك المجموعة تسليمنا إليهم فورا، ولكن رفض قائد معسكر " لِوى " ذلك الطلب فعادوا أدراجهم بخفي حنين.
إستدعانا قائد المعسكر وأخطرنا بأنه علينا ان نغادر نفس الليلة الى معسكر اخر تجنبا لإحتمال وصول قوة أكبر للقبض علينا وإرجاعنا الى اللجنة الإدارية، وعليه كلف طوف من معسكره لإيصالنا الى معسكر "تبح"، الذي وجدنا فيه ثمانية عشرة مناضلا كانوا قد إنشقوا أيضا من اللجنة الإدارية وسلموا أنفسهم الى الجبهة قبل وصولنا وأذكر منهم المناضلين محمد نور على وإدريس نارو وإدريس محمد على والأخير لم يكن الفنان إدريس محمد على بل هو شقيق الفنان حسين محمد على، وهكذا أصبح عدد الذين سلموا 21 مناضلاً وجميعهم يرغبون باللحاق بقوات التحرير الشعبية – البعثة الخارجية.
قضينا في معسكر "تبح" أسبوعاً كاملاً ومنه تم تكليف فصيلة لإيصالنا الى معسكر "عيلت"، الذي تلقينا فيه دورة سياسية مكثفة، أو دورة غسيل مخ، كما كان يسميها البعض، ومنها أرسلونا الى معسكر "رُبدة" حيث التقينا بجعفر قلايدوس وكان حينها عضو في لجنة التوجيه، وكان بمعيته المناضل حشيشاي قائد السرية المرابطة في ذلك الموقع.
إجتمع بنا جعفر قلايدوس بصفته عضو لجنة توجيه، وبكل أسف نشأ خلاف بيننا وبينه وسرعان ما تحول الى مشاداة كلامية وتعمق سوء الفهم بين الطرفين بسبب إصراره بأن نلتحق بأجهزة جبهة التحرير التي ستيم توزيعنا اليها، بينما كان طرحنا اليه هو أننا لم نأت إلى الجبهة من أجل الأنضواء تحت أجهزتها، بل جئنا اليها للإحتماء بها في طريقنا الى قوات التحرير الشعبية - البعثة الخارجية وهذا ما أعلناه منذُ وصولنا الى أول معسكر للجبهة.
ترتب على موقفنا هذا قرار بسجننا في سجن "عُوبِلتْ" لمدة شهرين إلى أن إستدعانا المناضل محمود جابر والذي كان حينها قائد المعسكر وإعتذر لما حدث لنا علنا، ودعانا لفتح صفحة جديدة عارضا علينا خيار الإلتحاق بأجهزة الجبهة وأن يتم توزيعنا في أجهزتها بقناعتنا ورضانا.
وبموجب هذا الطرح، كنتَ أول من تم عليه خيار التوزيع حيث تم تحرير رسالة توجيهي إلى جهاز الأمن في الوحدة الإدارية رقم واحد على أن يتم تسفيري الى هناك عن طريق كسلا تسهيلا للوصول الى مكان توجيهي في تكمبيا.
وبهذه الطريقة تمكنتُ من الخروج من السجن وخرجتُ من جبهة التحرير وسافرت الى كسلا تاركا ورائي رفاقي الذين لم أكن أدري ما ستؤول إليه مصائرهم.
نواصل بإذن المولى... في الـحـلـقـة الـقـادمـة