إدريس محمد علي.. حادي الفرح في سجون إرتريا
بقلم الأستاذ: حجي جابر - روائي وصحفي إريتري المصدر: العربي الجديد
رغم تغييبه القسري، قلّما نجد مناسبة إرترية دون أن يحضرها إدريس محمد علي فالمطرب والملحن والشاعر،
القابع في سجون النظام الإرتري منذ 2005، لايزال حادي الفرح الأول في دول الشتات التي لجأ إليها الإرتريون، ولايزالون.
القامة الممشوقة، والعمامة البيضاء المائلة، وتلك الابتسامة التي لا تشبهها أخرى؛ ليست إلا طرفاً مما يدلّ على إدريس، بينما تبقى أغنياته الخالدة، ومواقفه اللافتة أثناء الثورة وبعد الاستقلال أبرز ملامح الرجل وسِماته.
قرية قاجيوا بمنطقة الساحل خلّدت حضورها الجغرافي في إرتريا، حين شهدت منتصف الخمسينيات الميلادية مولد إدريس محمد علي، والذي سرعان ما سيمرُّ بمنعطف هام حين يفقد والده ولمّا يبلغ العاشرة من عمره. فينشأ في كنف حامد، أخاه الأكبر وأحد مقاتلي الرعيل الأول للثورة الإرترية. ومنه انتقل إلى رعاية أخيه الآخر عبدالرحمن، الذي كان له أعظم الأثر في تكوين إدريس الوجداني، قبل أن ينضم هو الآخر إلى قائمة طويلة من شهداء البحث عن الوطن المغيّب.
هذه النشأة طبعت إدريس بالهمّ الإرتري منذ بدايات التشكل، فالتحق بصفوف الثوار نهاية الستينيات، وهناك كان المقاتل نهاراً، والمداوي لأوجاع رفاقه ليلا، عبر أغنياته الوطنية الحماسية التي ستغدو فيما بعد أيقونات عشق لها وقع المذاق الأول في كل مرة. استهلّ إدريس مشوراه الغنائي بأغنية من كلماته تتحدث عن الفرحة العارمة بالانضمام للثورة، قبل أن تتوالى الأغنيات وهي تؤرخ ليوميات النصر والانكسار في جبهات القتال.
رسّخ إدريس عبر إنتاجه السخيّ، فكرة الوطن الحبيبة، والحبيبة الوطن. ليشكّل بذلك امتدادا لشاعر لغة التغري الأول في إرتريا "ود أمير"، وليتجاوزه بمواقف أدخلت المبدع الإرتري الملتزم لأول مرة دائرة التأثير السياسي والاجتماعي. إذ سرعان ما تحولت أغنيات إدريس محمد علي إلى سياط يسوط بها كل فكرة لا تتسق، والمبتغى الوحيد: استقلال إرتريا ووحدة الإرتريين.
"يكاد يكون الفنان الوحيد الذي سُجن من قبل كل التنظيمات الإرترية أثناء الثورة وبعدها"
هذه الحدة المتصاعدة في كلماته أوردته المتاعب. فإدريس يكاد يكون الفنان الوحيد الذي سُجن من قبل كل التنظيمات الإرترية أثناء الثورة وبعدها. ولعل ذلك يعود في جانب منه إلى عدم انتمائه المطلق إلى فصيل دون آخر. وهذا ما جعله ربما يتجنب الغناء لأي حزب، فكان أشبه بالوطن الذي يرنوه، مُلكاً لكل الإرتريين.
وظهر جلياً احتفاء إدريس باللغة العربية واعتناءه بها. إذ لا تكاد تخلو مجموعة له من أغنية أو أكثر بالعربية إلى جانب "التغري" (لغة محلية) التي طبعت معظم الأعمال. كتب إدريس معظم أغنياته العربية، إضافة لغناء كلمات الشاعرين الإرتريين "كجراي"، وأحمد سعد، ومن السودان التجاني حسين دفع الله، وجمال الدين شبيكة.
أسس إدريس محمد علي فرقة فنية أطلق عليها "فرقة عشاق الوطن"، وحرص أن تلمّ كافة أطياف المجتمع الإرتري وقومياته. كان يجوب العواصم العربية والأجنبية لإقامة الحفلات التي يذهب ريعها لدعم الثوار، دون أن يناله من تلك الأموال شيء.
وحين تحقق الاستقلال عاد إلى الوطن خاوي الوفاض، إلا من التحرّق لرؤية أحلامه وقد تجسدت واقعا. غير أنه تلقى الصدمة تلو الأخرى، وهو يرى الثورة تأكل أبناءها، حتى جاء دوره فقُبض عليه العام 2005 بشبهة محاولة قلب نظام الحكم، وأودع المعتقل دون محاكمة ودون أن تتمكن أسرته من الالتقاء به أو التواصل معه، إلى يومنا هذا. وذلك قبل أن تغادر الأسرة مكلومة إلى كسلا (السودانية) والتي تقيم فيها إلى الآن دون عائل. كان آخر همّه أن يستبقي شيئا لعائلته، على حساب الوطن!