رابطة أبناء المنخفضات المنظور والممارسة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم المناضل الأستاذ: أبوبكر فريتاي - كاتب ومفكر سياسي المصدر موقع: منخفضات دوت كوم

عاصرت ولادات متعددة لتنظيمات سياسية ونقابية ومهنية وفئوية في ساحتنا الوطنية منذ مطلع الفترة السبعينية

وحتى الآن ووعيتها تماما، فوجدت في بعضها الجدية والكمال ولمست في الاخرى الانفعال والقصور، ولكن زمننا الإرتري وفق تقويم (الشعب الصامد) حسم بفطنته ما بين الصالح والطالح فأفلت نجوم وكبت صولات وترنحت قامات، وظل الشعب بخصائصه العميقة والأصيلة القادر ابداً على منح الحياة لأي تجربة في الساحة عبر إقدامه عليها وتزكيته لها بالمقومات والدعامات الضرورية لنموها. مثلما كان ذلك في انطلاقة الثورة العملاقة بقيادة ابن الشعب البار والبطل حامد إدريس عواتي تلك التجربة التي ما زالت تبث حرارتها ودفئها في الإرتريين بمختلف اجيالهم، وظلت حية متقدة في كل النفوس قاومت بجدارة مختلف الأنواء التي سلطها عليها النظام وزمرته وخاب سعيه في جرفها او حرقها او تشويهها ولم يملك رغم كرهه لهذه التجربة العملاقة ورموزها وابطالها إلا ان يطأطئ لها صاغراً ويقر منحنياً ان التاريخ الوطني المقاوم تفجر في سبتمبر عبر بندقة القائد عواتي ولا مجال لشيئ آخر. تلك كانت وما زالت حقيقة، ولكن نظام الجبهة الشعبية الذي كان ينبغي ان يصبح منذ يومه الأول في الحكم بعد التحرير مؤسساً للدولة القومية الواحدة المعبرة عن جميع الكيانات الإرترية والمتبنِية والمحصِنة لتاريخ التجربة الوطنية الكفاحية للشعب أبت إلا ان تغوص في عقدها ونرجسيتها ومرضها وادعاءاتها الجوفاء بالعظمة وبصناعة التاريخ، وخرجت علينا من قاعها المظلم بنموذج اسوء تجربة في الحكم وضعت البلاد كلها في حالة اغتراب وضياع، وصحيح بأنها قد افلحت في خلق نموذج السلطة الفردية والمهيمنة وفرضت مطامعها وخيالاتها على الواقع عبر ممارسة الاقصاء والقسر ونهب واستلاب الآخر وارغامه على التلاشي بما في ذلك دفعه دفعاً ليخرج عن الخارطة السياسية والجغرافية والاجتماعية لوطنه، نقول ان نظام اسياسي الشوفيني والطائفي قد تمكن من فرض هيمنة نخبه السياسية وثقافته... ولكنه فرط بغباء في استثمار الزخم الوطني بعد الإستقلال وروح النهضة العظيمة ومرحلة انتشاء الروح الوطنية لعموم الشعب التي كان يمكن ان تسهم في خلق اروع دولة ناهضة ترتكز الى تاريخ مجيد من البطولات عبر اكثر من ربع قرن. ولا اغالي لو قلت بان نظام افورقي خرج بسرعة البرق من قناعة الوطنيين والاحرار ومن قناعة الشعب وعكس حكمه المتسم بالعدوانية والمتشبتث بالرضاعة من ثدي الطائفية المتمرغة في كنائس اكسوم الد عدو لمجتمعنا وخاصة أهلنا في منخفضات ارتريا الذين تعامل مع حقوقهم وارضهم وتاريخهم وثقافتهم وارثهم بمنطوق عدائي خاص كان لا بد من اداركه وتوصيفة بدقة واخضاعه لتقويم دقيق واصدار الحكم الحاسم عليه.

وقبل ان انتقل الى المنظور الذي عبرت عنه رابطة ابناء المنخفضات كولادة تاريخية في واقعنا السياسي المقاوم للظلم والقهر، لابد من التوقف على بعض الإشارات الضرورية التي تجسم حجم الكارثة المحيطة بالبلاد من الداخل والخارج وبتكثيف لا بد منه:

• واقع المعارضة السياسية بمختلف قواها السياسية القديمة والحديثة، ومندمجاً معها افرازات مؤتمر اواسا قد وضعنا جدياً ازاء مشهد تنظيمي وسياسي ممزق ليس له قدرة على توحيد خطابه السياسي ولا يمكن ان يشكل باي معيار بديل للنظام، هذا فضلاً عن ظهور التميّع في وحدة هذا الإطار وهيمنت عليه مراكز الجذب الساعية لتقريب المسافة بينه وبين قوى بعينها من النظام، وبعيداً عن الدخول في منعرجات تخوين طرف معين إلا أنني متيقن من ان مقدار الاختراق الذي عانته قوى المعارضة ما بعد مؤتمر اواسا هو كافٍ ليحوّل بوصلتها الى وجهة غير اسقاط النظام تماماً. ومما تمت ملاحظته ابان مؤتمر اواسا هو تحرك آلة اعلامية مغرضة سعت لابراز قوى طائفية معينية بمسميات متعددة ومنصات سياسية ومدنية وبروز التهافت على تسلق مؤسسات المعارضة سواء تلك التي في المركز او خارجه بعناصر معينية تم اختيارها بدقة حتى توضح بجلاء ان واقع الهيمنة الطائفية والثقافية الذي فرضه النظام في البلاد هو نفسه ما تجري محاولات استنساخه وترسيخية على مؤسسة المعارضة.

• ظهور شرائح ممن اصطفوا خلف مسميات المنتديات والشبكات والمراكز من الكتاب وغالبيتهم من المسلمين المدعين بغوغائية عبورهم لمسميات هي في الواقع من بنات مركبات نقصهم وليست من اوصاف مجتمع المسلمين : القبلية والجهوية... الخ، وراحت تظهر ادوارهم المنسقة بالريموت لترفع من منسوب التخويف (الإفتراضي) من الطائفية والإسلام والقاعدة والجهاد... الخ الى ان وقعت الواقعة باعلان تأسيس رابطة ابناء المنخفضات التي رجت البركة الإرترية رجاً هو بمثابة مخاض حقيقي لولادة فرضتها المرحلة الراهنة بجدية.

• لقد تحول بعض ممن وصفناهم بالكتاب الى قاطرات تعبوية تسوق الرأي العام الى قبول تنظيمات قومية باسمائها المحددة وتزوق مطالبها وشرعيتها في العمل بقوانين حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية... الخ، في حين ان هذه العناصر ذاتها هي من تخون تنظيمات معينة بانها قبلية وغير وطنية وتكيل لتنظيماتنا الإسلامية ما شاءت من نعوت مع تفضيل هذا على ذاك لاعتبارات لم يمررها وعي الشارع الآرتري.
هذه المؤشرات وغيرها مثلت المعطيات الصارخة لما نعانيه حقيقة من ازمة وطنية بكل معناها، فالنظام يسعى بكل جهده لطمس معالم الوطن الإرتري بعد ان احاله الى لوحة يتفنن في رسم ما شاء عليها من انس وجان، وشوه تاريخه وشرد أهله ومارس ابشع ما يمكن ان يستوعبه عقل انساني من جرائم قتل وانتهاك... الخ، وتحولت ساحة منخفضات ارتريا الى ارض مشاع معروضة للبيع لفئة النظام الذي حرص على تطويق اراضي المرتفعات بقوانين لا ينكرها الا جبان وكذاب لتظل محروسة لأهلها واصحابها. والقوانين الصادرة من هيئة الاراضي تؤكد ذلك. وأما أهل المنخفضات فقد فرضت عليهم الإقامة الجبرية في معسكرات اللجوء، التي لا يبكيها احد ولا ينظر اليها بالتساوى مع معسكرات اخرى... وللاسف حتى المنظمات الإنسانية الآرترية وهي تقدم خدماتها للاجئين قد دخلت في مسميات ( خيار وفقوس) وهي تقوم بعملها في معسكرات اللاجئين في السودان.

وانطلاقاً من تلك المؤشرات وغيرها كثير مما يعكس فداحة العملية السياسية الراهنة في ساحة المعارضة التي تسير على قدم واحدة ولا يمكن بأي حال ان تحقق استعادة الحقوق المنهوبة والمهدرة بامعان من النظام وفئاته، ناهيك عن قدرتها في تحقق تطلعاتنا المشروعة في وطن يسوده الأمن والسلام والعدل، اقول انطلاقاً من ذلك فقد جاء تشكيل رابطة ابناء المنخفضات كجواب تاريخي وعلمي وشجاع على اختلال الموازنة الوطنية، وأن الوثيقة التي تم وضعها وتأسيسها بوعي وعمق تمثل منظور فكري متقدم لقراءة:

• التدهور المريع في الداخل الإرتري وتوصيف النظام شكلا ومضموناً بوضوح وشفافية، ثم الوصول بمعادلة قانونية ومنطقية عادلة لتصنيف الخروقات الجائرة التي حدثت في على كافة المستويات : الارض، الدين، اللغة، الثقافة، الدستور، السلطة. وتسمية الحلول بمسمياتها الحقيقية دون مواربة او خشية.

• قراءة الخلل الداخلي في صف المقاومة وتوضيح عجزه عن تحقيق أي تقدم وهو يرواح في معادلته القاصرة: الكل متساوي في الظلم؟؟؟

• مخاطبة الشريحة المعنية بالوثيقة باسمها وتعريفها المحدد. والخروج من دائرة الغرق والإختناق الذي عانته صفوف المعارضة التي فقدت القدرة على التقدم لسبب بسيط جداً : كيان واحد وارادات متعدده.

• الإنطلاق من قاعدة الوطن الإرتري الواحد والحرص على مصالح شعبه المتبادلة والمساواة العادلة بين كل مكوناته، وعدم الإرتهان باي صيغة من الصيغ على أي دور اقليمي او محيطي.

لقد تابعنا الكثير من النماذج والإنماط للوحدة الداخلية لمجتمعنا على المستوى الاجتماعي و السياسي بعد الثورة ولم اجد مثل هذا الوضوح الذي عبرت عنه وثيقة لم الشمل لأبناء المنخفضات سواء على مستوى التصور العملي والفاعل للوحدة الوطنية او في توصيف الظلم والتجاوز الذي ارتكبه النظام بحق اهلنا في المنخفضات... لا في برنامج سياسي لتنظيم ولا في مطاليب حقوقية لمنظمة مدنية. كذلك فإن هذه الإنطلاقة الشجاعة قد تميزت بخطابها الحاسم والواضح الذي لا يمكن ان يقبل او يساوم على الحقوق المشروعة لابنائه، وفي الوقت الذي يقدم فيه استعداده للحوار والتعاطي مع الآخر الا انه حرص على الدوام ان لا يكون فريسة للمجاملات والمداهنات مع هذا الطرف او ذاك. وهذا ما يؤكد ان هذا المشروع لم يطرح للتجريب او انه يحتمل ان يتراجع عن الأهداف التي افصح عنها بوضوح.

وختاماً فقد جاء انبثاق الرابطة كحالة متميزة للربط بين الفكر والممارسة، وهي ميزة تعكس الجدية في هذا البناء الذي صيغ هرمه ليكون مرناً فعالاً ومتجدداً في نفس الوقت، ويتجلى ذلك نقطة الإنطلاق التي مثلت حشداً جماهيرياً واعياً لكل فقرة في وثيقة لم الشمل التي خضعت لحوار لم يشهده برنامج مماثل في عصرنا الراهن، لا بل ان الطليعة المؤسسة من المناضلين كان فيهم من العنفوان ما اضاف ابجدية ثورية غير منظورة على الورق ولكنها ستفصح عن نفسها في ميادين العمل. هذا بالإضافة الى ان رابطة المخفضات في ادائها الهيكلي لم تكن مجرد نسق صاعد (قاعدة) واخر نازل (قرارات قيادة) رغم اهمية ذلك في البناء التنظيمي المحكم ولكنها عكفت الى تأسيس فروع حقيقية مبنية على جماهير منظورة وتعمل كروافد دافعة لبرنامج العمل المركزي الذي تشرف عليه القيادة المركزية، وهذا ما من شأنه ان يجعل كل ساحة تشهد تأسيس فرع للرابطة بمثابة مقدمة للفعل الموجه للنظام الدكتاتوري وليست فرعاً ينتظر التوجيه والاوامر، وفي طني ان هذه الهيكلية التي تنتظم الرابطة ستساهم بجدية في نقل فعل هذا المكون الى أي نقطة حيوية في مسيرة ونضال رابطة ابناء المنخفضات.

Top
X

Right Click

No Right Click