مأزق دُميره
بقلم الأستاذ: عطيه عيسوى المصدر: الأهرام اليومي
لم تندمل بعدُ جراح إريتريا من حرب 1998-2000 مع إثيوبيا التى أزهقت أرواح أكثر من 80 ألف إنسان لكى تفتح جبهة قتال
جديدة مع جارتها جيبوتى باستيلائها على منطقة جبل دُميره والجزيرة الواقعة قبالتها بمجرد انسحاب قوات حفظ السلام القطرية منها قبل أيام الأمر الذى دفع الحكومة الجيبوتية إلى وضع قواتها فى مواجهة القوات الإًريترية ومطالبة مجلس الأمن الدولى والاتحاد الإفريقى بالتحرك السريع لإجبار حكومتها على سحب قواتها وسط قلق إقليمى ودولى من اندلاع حرب فى مدخل البحر الأحمر، الذى يُعدُّ من أكثر الممرات المائية حركة وازدحاماً فى العالم حيث تمر عبره 10% من حجم التجارة العالمية ونحو 40% من واردات الدول الغربية من الطاقة.
كل من البلدين يؤكد أن له حق السيادة على المنطقة وبسببها تعددت الاشتباكات بينهما خاصةً فى عام 2008 عندما أعلن الجيبوتيون أنهم تعرضوا لخديعة حيث أبلغتهم أسمرا أن أفراداً من قواتها ستدخلها لجلب رمال لاستخدامها فى إنشاء طريق ولكنهم أقاموا تحصينات وحفروا خنادق.ولم ينسحب الإريتريون منها إلاَّ عندما عرضت قطر وساطتها فاستجابا لها، ربما تحت إغراء تقديم مساعدات وتم بعد شهور من المفاوضات إبرام اتفاق يقضى بنشر 450 جندياً قطرياً فيها ومواصلة الجهود لحل الخلاف دبلوماسياً.ونظراً لتمسك كل منهما بأحقيتها فى السيادة عليها لم تستطع الدوحة إحراز أى تقدم تجاه حل سلمى وتجمَّد الوضع حتى فاجأت البلدين والعالم بسحب قواتها بقرار منفرد دون إخطار الأمم المتحدة وقبل إيجاد بديل لقواتها لمنع نشوب حرب وذلك رداً على تأييدهما للإجراءات التى اتخذتها السعودية والإمارات والبحرين ومصر ضدها لدعمها الجماعات الإرهابية.
إريتريا نفت قبل ذلك أى أطماع لها فى أراضى جيبوتى ووصفت الأمر بأنه سوء تفاهم لكنها وصفت جيبوتى بأنها حصان طروادة لتنفيذ ما وصفته بالمخططات الإثيوبية-الأمريكية ورفضت استقبال بعثة تقصى حقائق أرسلها مجلس الأمن أبلغته وقتها بأنها رفضت سحب قواتها من المنطقة بينما سحبتها جيبوتى،كما رفضت استقبال بعثة من الاتحاد الإفريقى للمساعدة على إيجاد حل سلمى.أما جيبوتى فقالت إن معاهدة 1897 بين إثيوبيا التى كانت تهيمن على الأراضى التى أصبحت إريتريا حالياً وبين فرنسا التى كانت تسيطر على أراضى ما كان يُسمى بالصومال الفرنسى (جيبوتى الآن) تنص بوضوح على أن منطقة دميره فرنسية. ويقول خبراء إن ترسيم الحدود لم يتم أبداً بشكل صحيح حيث صدر بيان فرنسى - إيطالى عام 1901(حيث كانت إيطاليا تحتل الأراضى الإريترية) ينص على عدم تبعية دميره لأحد وأن هناك مشاكل حدودية ستتم معالجتها لاحقاً.
ومع ذلك ليس احتلال المنطقة عسكرياً هو الحل الصحيح حتى لو كانت لدى إريتريا من الحجج ما يثبت تبعيتها لها وإنما الحل هو إحالة القضية إلى التحكيم الدولى، كما حدث فى نزاعها على جزر حنيش مع اليمن،فاستيلاء القوات الإريترية عام 1998 على بلدة (بادمى) المتنازع عليها وقتها مع إثيوبيا بالقوة العسكرية فجَّر حرباً مهلكة للطرفين بشرياً ومادياً استمرت عامين ورغم اتفاق السلام الذى تم توقيعه بالجزائر عام 2000 ثم حكم هيئة التحكيم الدولية بأحقيتها فى البلدة لم تنسحب منها إثيوبيا حتى الآن وعجزت إريتريا عن انتزاعها منها سلماً أو حرباً.
وسواء كانت لدى الرئيس أفورقى الحُجة على أحقية إريتريا فى السيادة على المنطقة أو أنه يثير نزاعاً على الحدود للتغطية على مشكلات داخلية ودفع المواطنين المتململين من التجنيد الإجبارى لفترات قد تصل إلى 15 عاماً والساخطين على قمع المعارضة والزج برموزها فى السجون وغياب الديمقراطية ومعاناة الشعب من صعوبات المعيشة لنسيان كل ذلك والالتفاف حول النظام فإن العالم لن يقبل بتفجر حرب جديدة يقول البعض إنها ستكون بمثابة مهمة انتحارية لإريتريا فى تلك المنطقة الحيوية أو ترك أفورقى ذى العلاقة المتوترة مع الغرب يستولى على أرض تقول جيبوتى التى ترتبط بمعاهدتى دفاع مشترك مع فرنسا والولايات المتحدة إنها جزء لا يتجزأ من أراضيها ولم يتقرر بالتحكيم الدولى تبعيتها لبلاده. ولا يظن أحد أن باريس أو واشنطن ولهما فى جيبوتى قاعدتان عسكريتان هما الأكبر فى إفريقيا ستسمحان له بذلك.
فرغم أن الميزان العسكرى مختل بشدة لصالح إريتريا حيث قدَّرت المخابرات العسكرية الأمريكية عام 2008 عدد أفراد جيشها بنحو 200 ألف جندى مقابل 18 ألفاً فقط لجيبوتى مما قد يغرى أفورقى بتحقيق انتصار سهل عليها إلاّ أن الشواهد أثبتت أن فرنسا وأمريكا لن تقفا مكتوفتى الأيدى وسيضعه أى تحرك من هذا النوع فى مواجهة معهما. ففى 2008 عندما اندلعت الاشتباكات بالمنطقة سارعت باريس بمساعدة الجيش الجيبوتى بالمعلومات الاستخبارية وبنقل الإمدادات العسكرية والطبية وأعلنت أنها ستقيم قاعدة امدادات متقدمة قرب منطقة النزاع، كما أن التوتر فى العلاقات مع واشنطن بسبب هجوم أسمرا المستمر عليها لوقوفها مع إثيوبيا وعدم ضغطها عليها لإعادة بادمى إليها سيدفع إدارة ترامب لدعم جيبوتى بكل ما تحتاجه.