أمة بين الرَّمضاء والنَار
بقلم الشيخ: محمد جمعة ابو الرشيد - كاتب وباحث وناشط حقوقي ارتري المصدر: مدونات الجزيرة
أبو فراس الحمداني الفارِسُ المهاب تخاذلَ ابنُ عمِّهِ في فكاكِ أَسْرِهِ، وذلك خوفا من طموحه في السلطة والزعامة ! فأنشد قائلا:
إنّا، إذَا اشْتَدّ الزّمَا نُ، وَنَابَ خَطْبٌ وَادْلَهَم
ألفيتَ، حولَ بيوتنا عُدَدَ الشّجَاعَة، وَالكَرَمْ
لِلِقَا العِدَى بِيضُ السّيُو فِ، وَلِلنّدَى حُمْرُ النَّعَمْ
هَذَا وَهَذَا دَأبُنَا يودى دمٌ، ويراقُ دمْ
إنّي، وَإنْ شَطّ المَزَا رُ وَلمْ تَكُنْ دَارِي أُمَمْ
أصْبُو إلى تِلْكَ الخِلا لِ، وأصطفي تلكَ الشيمْ
وألومُ عادية َ الفرا قِ، وَبَينَ أحْشَائي ألَمْ
هل أنتَ، يوماً، منصفي مِنْ ظُلمِ عَمّكَ؟ يا بنَ عَمْ.
لقد كان تفريط ابن عمه عليه بسبب الخوف منه، أمَّا تفريطنا اليوم فلا تفسير له. هل سمعتم ببلد اسمه إريتريا؟ لقد ذكرني هذا التساؤل بقصة حدثت معي ومع شيخنا العلامة / محمد عمر إسماعيل - المعتقل في إريتريا منذ عام 1993م (فك اللهُ أسرَهُ) حيث كنا في زيارة أحد المشايخ الفضلاء خارج القاهرة، وقد صادف زيارتنا وجود أحد الدكاترة الجامعيين، وفي لحظة روغان الشيخ إلى أهله ليجيئ لنا كعادته (بالفطور الريفي المصري اللذيذ) والمتضمن الفول، والفلافل، والخبز البلدي، قدم إلينا ثلاثة إخوة آخرين فتكرم السيد الدكتور بتقديمنا إليهم وأخبرهم بأنَّنَا من إريتريا كما عَرَّفَهٌ الشيخُ بنا قبل مجِيئِهم؛ فسأله أحدهم إريتريا دي فين؟ فقال الدكتور معرِّفا: هي دولة أفريقية بجانب السنيغال!
وتنبئُ هذه القصة عن مدى الحال الذي وصل إليه المثقف العربي الذي جعل حدودا مشتركة بين دولة في أقصى شرق أفريقيا بدولة في أقصى غربها! بينما العربيُّ قديماً عندما كان يركبُ الجملَ في الصحراءِ، يعرفُ إريتريا كما يعرف مدائن صالح وسوق عكاظ، حتى إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم – قال للصحابة: (إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه). قالت أم سلمة: (فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً).
أعتقدُ إذا لم نستيقظ من نومنا اليوم فإن مستقبل شعوبنا في المنطقة سوف يكون مهددا بالزوال خلال السنوات القريبة، ويكاد يحتار عقل الحليم كيف يتم محاصرة العرب من قبل الصهاينة والإيرانيين، ومعظم شبابنا عاجز، بل يغطُّ في نوم عميق.
وَصِلَةُ العَربِ بإريتريا لم تكنْ وليدةُ هذه الهجرة المباركة التي ضمت خيار الصحابة، ولكن كانت صلة رحم، وجوار وتواصل عبر جميع الحقب التاريخية، وكيف لا وهي رئةُ الوطن العربي، حيث تستحوذ على أطول ساحل في البحر الأحمر، وتتحكم على مضيق باب المندب، وتطلُّ من مرتفعات العاصمة أسمرا على الجزيرة العربية شمالا وجنوبا، من حقها أن تسأل اليوم ما سرُّ تجاهل ذوي القربي لها؟ وهو تساؤل لم ينسها وقوف الأشقاء معها في فترة الكفاح المسلح من أجل تحرير الوطن وعلى رأس هؤلاء سوريا الشهباء، وعراق الرافدين، وسودان النيلين، ومصر التاريخ والحضارة، وجزائر الثورة، وأرض الحرمين، وباكستان الإسلام، وصومال الخيرات، وغيرها من البلدان العربية والإسلامية.
ولكن للأسف اليوم قد محُيٍتْ من أجندة الساسة العرب، ومن قرطاس الصحفي، واهتمام المواطن العربي! وقد أدركا أهميتها الكيان الصهيوني، والنظام الإيراني حيث تسابقا لكسب ودها، وإيجاد موطئ قدم في أرضها، وهي تئنُّ دون أن يسمع أنينها أحد! والسبب يحكمها نظام جرَّدها من كل ما يربطها بالعالم الخارجي حيث لا إنترنت، ولا صحافة حرّة ولا مقيدة، ولا برلمان حقيقي ولا مزور، ولا أحزاب قوية ولا كرتونية، كل ما هنالك تلفزيون يتيم الأم والأب، وحكومة مؤقتة تأبي الرسمية مهما طال الزمن، ورئيس يرفض التنحي مهما كان الثمن، ومئات السجون السرية، وعشرات الآلاف من الأبرياء المختطفين، وشعب يهرب يوميا من البلد بالمئات، وقد تم إغلاق كل الأوعية السياسية، والاجتماعية، والثقافية! فحتى جامعة أسمرا تم تمزيقها إلى كليات وتشتيتها في الأقاليم، وتم غلق وطرد كل الجمعيات الإغاثية، وسجن الصحفيين، وحظر جميع وسائل الإعلام، حتى الحصول على الشريحة للمواطن من أصعب الأشياء، وللزائر ممنوع البتَّة، والسفر إلى الخارج غير مسموح به أصلا، ولا يتم التنقل في الداخل إلا عبر تصريح مرور أمني بالرغم من عدم وجود أي إخلال أمني، أو عملي إرهابي أو تخريبي.
وفي إريتريا يجلس الطالب لامتحان الشهادة الثانوية في معسكر شبه عسكري ومن لم يجتز الاختبار يتم توجيهه مباشرة إلى التجنيد في الجيش ليقضي فيه بقية عمره. وفي إريتريا توجد لغتان رسميتان تم إقرارهما في البرلمان الإرتري في الخمسينيات، وظلتا معمولا بهما حتى الاستقلال، ولكن اليوم تم محاربتها، وتهميشها، وفرضت على الشعب لغة محلية تسمى (التقرنية)! بينما كانت في الأربعينيات العربية هي لغة الثقافة والفنون والصحافة والإذاعة في كثير من المدن الإرترية، وكانت في داخل الثورة لغة التثقيف والتدريب والتعليم والمحادثة بجانب التقرنية، ولكن النظام الحاكم جاء بمشروع تطوير اللغات حتي يحارب اللغة العربية.
ولو عدنا إلى موضوعنا الأصلي وهو تجاهل (قضايانا الملحة والدفاع عن شعوبنا المنكوبة)، وعلقنا كلُّ المصائب في أعناق الحكام المجرمين، والمستبدين؛ فما عذرنا نحن كشعوب يربطها الدين والجوار والرحم؟ وأنا أعتقدُ إذا لم نستيقظ من نومنا اليوم فإن مستقبل شعوبنا في المنطقة سوف يكون مهددا بالزوال خلال السنوات القريبة، ويكاد يحتار عقل الحليم كيف يتم محاصرة العرب من قبل الصهاينة والإيرانيين، ومعظم شبابنا عاجز، بل يغطُّ في نوم عميق عن مواجهة الحرائق التي تحيط ببلدانهم من كل جانب؟
أعتذر لأني نسيت أنَّ هموم العربى تمطت وأصبحت فوقه كالغمامة، وظلا يصاحبه طول النهار، ويرتخي معه ليلا ليشاركه الفراش. نسيت أن الثورات عَدَى عليها الثيران، وأن المال أصبح حلما للغلابة، وأن الصديق تغلق دونه الأبواب.
وقبل الوداع أُقدِّمٌ اعتذاري، أقدمه عن كل ما ذكرت لكم آنفا لأنني أفقتُ الآن من أحلام اليقظة التي انتابتني عندما كنت أسطر تلك الكلمات! حيث تخيلت أني في زمن الملك فيصل وهو يهدر كالضرغام، وعبد الناصر في قاهرة المعز يدافع عن قضايا الشعوب، وصدام يهز سيف المعتصم في بغداد، وفي أرض الياسمين بورقيبة يستقبل قادة الثوار، وبومدين متربعا في مجسله، ونميري يتجول في أفريقيا، وملوك الخليج يحتضون في إخوانهم المسلمين من كل مكان.
أقدم اعتذاري لأنني شردتُ بعيدا إلى زمن البطولات والثقافة، والعلم، والفنون ، والانسجام يوم كان شبابنا يتزاحم في مجلس العقاد، ويرتشف من كتاب وحي القلم، وينهل من الطيِّبَيْنِ في السودان، والعمراني في اليمن، والصواف في العراق، أو الغزالي في مصر، أو يتناغم طربا مع الجوهري في أرض الرافدين، أو درويش في أكناف الأقصى، أو الدنبجة في أرض شنقيط، أو الأميري في المغرب، أو الشابي في تونس الخضراء يزهو في القمم، أو الفيتوري يزين أفريقيا كعقد مرصوعا بالدرر، أو ربما في الأردن يقوي عزائمه مع العظم، أوربما يرتدون لهيب الثورة من شعر سكاب، أو كجراي، أو مدني، أو أحمد سعد.
أعتذر لأني نسيت أنَّ هموم العربى تمطت وأصبحت فوقه كالغمامة، وظلا يصاحبه طول النهار، ويرتخي معه ليلا ليشاركه الفراش. نسيت أن الثورات عَدَى عليها الثيران، وأن المال أصبح حلما للغلابة، وأن الصديق تغلق دونه الأبواب، وأن العربي تبددت أحلامه، وأن سيفه سكن الأغماد. لن أنكر أنَّ في قنديل العربي ما زال وهج البريق، وفي معصمه شارات البطولة، وفي أخلاقه جمال الذوق، وفي عزيمته قوة الشباب ولربما محن كانت منن، وابتلاءات ممحصة لتنقية الوطن.