مبادرة الانخفاضات ووطن لا يقبل القسمة على اثنين

بقلم الإعلامي الأستاذ: فتحي عثمان - ديبلوماسي سابق

بداية لم تدهشني الارهاصات التي سبقت لقاء لندن في 29 مارس الماضي، ولكنني صدمت

حد الألم بما صدر عنه. أرغب صادقا، رغم مرارة الكتابة حول هذا الموضوع أن أنأى بنفسي عن الخوض في سفاسف الأمور والترهات أو حتى الانجرار إلى حد الكتابة المسيئة التي تقطر إهانة وشتما.

لأن الأمر شأن "وطني"، وأضع الكلمة بين حاصرتين للتأكيد. نعم الأمر يعني الوطن حقا وليس يتعلق بالمنخفضات أو كبسا أو أي بقعة في ارتريا دون أخرى.

الأمر يتعلق أولا وآخرا بالوطن بقائه واستمراره كما أشارت وثيقة المبادرة المعروفة ما يهمني من أمر هذه التجمع هو موضوع الوحدة الوطنية. ففيما يخص الوحدة الوطنية وسياق التفاعل السياسي الارتري، اجتهدت قدر طاقتي أن أقدم رؤية بنيوية لها في الكتاب الذي صدر مؤخرا تحت عنوان "ارتريا من حلم التحرر إلى كابوس الدكتاتور" حيث يشير الكتاب إلى أن التفاعل السياسي الارتري منذ الاربعينات وحتى اليوم أفرز سياقا باثولوجيا / مرضيا فيما يتعلق بعلاقة الأنا بالآخر في ارتريا. وهذه الظاهرة التي شهدتها لندن لا تخرج عن كونها أحدي مخرجات التفاعل الارتري السقيم.

نقول مؤكدين بداية بأن ما تدعيه الجبهة الشعبية بأنها وخلال فترة الكفاح المسلح خلقت بوتقة واحدة انصهرت فيها كل "القوميات" الارترية في وحدة وطنية، طرح لا أساس له من الصحة، ولنا الوف المبررات التي تدعم رأينا بهذا الخصوص.

ونسوق هنا المبرر الأساسي وهو أن الوحدة الوطنية التي ينشدها الشعب الارتري هي وحدة ضمن تنوع أولا، وثانيا هي وحدة طوعية لا قسر فيها وأخيرا هي لا تتصدع أمام معاول التحديات. فهل ينطبق أي من هذه الشروط الجوهرية على ما تدعيه الجبهة الشعبية؟ بالطبع لا، فلو كانت الوحدة الوطنية المدعاة استوفت هذه الشروط لما ظهرت مبادرة المنخفضات إلى الوجود من الأساس.

بما الجبهة الشعبية فشلت في تحقيق الوحدة الوطنية المبتغاة فليس ذلك بأي حال من الأحوال مسوغا "لهدم البيت من أساسه" وذلك تحت ذريعة أن جزء من سكان البيت وقع تحت طائلة مظالم تاريخية جسيمة ولا تحتمل. ثانيا، أن وجود جزء كبير أو صغير داخل المعارضة من ناحية أخرى يدعو إلى بقاء نظام الجبهة الشعبية بعد قطع رأسه المتمثل في الرئيس اسياس أو حتى وجود كيانات تدعو إلى الوحدة مع اثيوبيا ليس هذا بنظري مبررا |أيضا "لهدم البيت".

الحقيقة هي أن الشعب الارتري كله يرزح تحت نير حكم ظالم وجائر، وأن التعسف الذي طال كل من بطرس سلمون أو عقبي أبرها، مثلا لا حصرا، لم يكن، وكما نعرف كلنا جميعا لأنهما كانا من المنخفضات. البطش والتعسف الذي تعرضت له وتتعرض له طائفة شهود يهوه لم يكن بسبب أن هذه الطائفة "مسلمة" "سنية" منشأها أغردات أو منصورة أو أن لها علاقة بتنظيم القاعدة. إننا نحتاج إلى مجلدات لنسرد المظالم التي تعرض لها الشعب الارتري في كل بقاع ارتريا.

أومن وبكل شجاعة بأن إنسان المخفضات الارترية له الحق في ارتريا المستقبل أن ينشد خطا للتنمية يضع إقليمه وإنسانه على رأس الأولويات الوطنية، لأن هذه المناطق هي الأكثر تضررا من ويلات الحروب والمآسي التي شهدتها البلاد عبر تاريخها المؤلم. هذا حق مشروع ولكن السؤال هو ما هي أسس وحدود هذه المطالب؟

لنتصفح معا أسطر الوثيقة أو السطر الأكثر خطورة في وثيقة لندن والتي يرى كاتبوها "...أنه حان الاوان لإنسان هذا المجتمع أن يفطن لحجم المخاطر التي تحدق به وتهدد حقه في الوجود... وتستمر لتقول... وأن لا تخصم فاتورة بقاء الوطن ووحدته واستمراريته من رصيد مجتمع المنخفضات"

اسمحوا لي بالقراءة بين السطور، يقول الكاتب دون لبس أو غموض بأن إنسان المنخفضات يجب أن لا يغفل عن حجم المخاطر التي تحدق به، ولكأن هذا الإنسان لم يكن طرفا في تردي أوضاع ارتريا الأمر الذي نتحمل مسئوليته على قدم المساواة. وهذه المخاطر الحقيقة والمتوهمة تتمثل في في سياسات التوطين ونزع الاراضي التي تمارسها الجبهة الشعبية، ومخاطر وجود مليشيات اثيوبية في ارتريا قد تلجأ لها الجبهة الشعبية في حرب مستقبلية بين كبسا والمنخفضات على طريقة مجازر الهوتو والتوتسي ! أو المخاطر الحقيقة المتمثلة في منع اللأجئ الارتري من العودة إلى وطنه تحقيقا لسياسة تغيير ديموغرافي غير مصرح به.

وأخيرا التصريح الأخطر الذي لا يهتم ببقاء الوطن أو وحدته أو استمراريته إذا كانت على حساب "أبن المنخفضات"

ليس وطنا ذلك يقنن ويطيل استعباد مواطنيه |أي كانت المبررات. ولكن الوثيقة تقول إذا كان بقاء الوطن ووحدته واستمراريته "خصما" من رصيد هذا المجتمع فليذهب الوطن إلى الجحيم! ألم ينضب معين كل عين جارية في البلاد سبب الطغيان الجاثم على صدر البلاد؟.

ولا تقول ولا تصرح الوثيقة عن " الوطن البديل" الذي لا تكون فيه البقاء أو الاستمرار أو الوحدة "خصما" من رصيد مجتمع المنخفضات! قد يملك بعض الأخوة العفر إجابة على سؤال الوطن البديل ولكن الإبهام والتعمية لا زالت تضرب إطنابها في أركان الوثيقة.

مما يثير الدهشة هو عدم قيام التلفزيون الارتري في اسمرا بتغطية فعاليات هذا اللقاء "التاريخي" في لندن، لأن هذا الاجتماع هو الوثيقة التي يريد الطاغية أن يعرضها على الشعب الارتري المغلوب عل أمره ويصرخ بأعلى صوته هاتفا وبنشوة الفوز "هؤلاء من تنتظرونهم أن يحكموا من بعدي، كانتونات وعشائر" لا أطيل عليكم.

ارتريا اليوم لا تقبل القسمة على اثنين او اكثر بحجة المظالم التاريخية أو أي حجة أخرى.

الجبهة الشعبية عجزت عن تحقيق وحدة الشعب الارتري والدليل على ذلك هو "يقظة مجتمع المنخفضات التاريخية"، إن المخاوف من قيام الآخر وتكرر حلف شعبية /وياني غير المقدس لا يبرران بأي حال هدم البين الارتري. نريد لكل ارتري في ارتريا المستقبل أن يرفع صوته مناديا بكل حقوقه، ولكن كيف تسمع هذه المطالب وبقاء الوطن واستمراريته ووحدته كلها ذهبت أدراج الرياح.

البطولة أن تموت من الظمأ ليس البطولة أن تعب الماء.

البطولة هي أن نناضل ونموت حفاظا على وحدة وبقاء واستمرارية الوطن، وأن لا تثنينا "المظالم" من أن ننتزع حقوقنا رغم أنف الطغاة. النضال هو البطولة وليس الهدم.

Top
X

Right Click

No Right Click