حديث العقل والمنطق
بقلم الأستاذ: حجي جابر - روائي وصحفي إريتري
المداخلة الأولي: بالمناسبة، الجدل الدائر حول رابطة أبناء المنخفضات هو أمر صحي وإيجابي آخر المطاف،
و... بعيدا عن قبول أو رفض الفكرة، لابد من الاعتراف أنها أماطت اللثام عن وجع فئة كبيرة وأصيلة في النسيج الإرتري عانت ولاتزال من كافة أشكال انسداد الأفق والتهميش والإقصاء الثقافي والسياسي. إذا اتفقنا على هذا الأمر ابتداء قد نجد طريقة ما لإعادة الحق إلى أصحابه بطريقة أو بأخرى، مع الاعتراف أيضا أن كافة فئات الشعب وقع عليها ظلم بيّن، لكن مع تفاوت في الظلم.
• خروج هذه الفكرة على شكل بيان وعرضها للنقاش (الآن) أمر مهم، لأن تأجيلها لما بعد سقوط النظام سيجعل إعلانها يأخذ شكلا مختلفا لا يُحمد عقباه في الغالب.
• خروج هذه الفكرة إلى العلن تظهر في إحدى سماتها حالة اليأس التي اعترت قطاعا عريضا من أبناء الوطن، سُلبت هويتهم، وممتلكاتهم، ونالهم من الضيم أعظمه، ومن الإجحاف أكثره.
• دعونا نتجاوز الفكرة إلى مسبباتها، ما الذي دعا مجموعة ما إلى هذا الإعلان عالي النبرة و"المتطرف" بعض الشيء وفق البعض؟ إنه ولا شك عدم الثقة في شركاء المستقبل، والخشية من استمرار المظالم مع تغير وجوه النظام، وهنا ومع منطقية طلب التوضيحات من مطلقي المبادرة، فإن الآخرين الرافضين بشدة لها مطالبون أيضاً بتقديم إجابات وحلول عملية لهذه الهواجس بعيداً عن الكلام الإنشائي العام حول اللحمة الوطنية.
وحتى لا أدور أنا أيضاً حول الكلام الإنشائي سأدخل في صلب فكرتي:
• اسياس - الذي تبرأ منه الجميع (الآن) - ينتمي إلى فئة ثقافية واجتماعية عزيزة من هذا الوطن، وعلى هذه الفئة دون غيرها أن تقدم الضمانات للآخرين بأن المظالم لن تتكرر بعد غياب أفورقي، وأن يبددوا المخاوف من استمرار تحكم فئة -لاتمثل الأغلبية- في رقاب الشعب سياسيا وثقافيا.
• لو كنتُ منتميا لهذه الفئة لأعلنت دون مواربة وبوضوح أنني مع إعادة الحقوق لأصحابها بدءاً بالأراضي وليس انتهاء عند إعادة الاعتبار للغة والثقافة العربية والإسلامية، ولذهبت أبعد في إبداء حسن النية لأقول إن حاكم إرتريا القادم يجب أن يكون قادما من هذا النسيج المغيب طوال حكم اسياس، وليس امتدادا له بأي حال من الأحوال.
• قبل أن تطالبوا المسحوقين بالكفّ عن الصراخ - حتى لو كان مزعجا ونشازا - جربوا مداواة أوجاعهم، والالتفات لهواجسهم ومخاوفهم.
• تراب الوطن ليس أهم من إنسانه، لذا ليكن هدفنا جميعا حياة الجميع بكرامة وعدالة، فهذا وحده يعطي الوطن معناه، عدا ذلك لن نبارح شعارات "الشعبية" طوال عقدين، ويكفي طرافة أن من يديرون البلد اسمهم الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة!!
• من المهم أن نناقش هواجسنا بهذه النبرة العالية، فهذا وحده كفيل بالاقتراب من "الحلول الممكنة" من أجل صالح الجميع في وطن واحد غير مجزأ ولا مقسّم ولا يتبع أي جهة خارجية.
المداخلة الثانية:
الأصدقاء جميعا... أشكر لكم مداخلاتكم وتفاعلكم مع كتبت، بخصوص رابطة أبناء المنخفضات، والشكر على وجه الخصوص للذين كتبوا بشكل مطول وذلك حتما محل تقديري. أشكركم لأني على يقين أن إرتريا التي نحب هي دافعكم لكل حرف أيا كان اتجاهه، وهذه فرصة إضافية أمام واضعي الوثيقة للإفادة من كل ماجاء هنا لتجويد الوثيقة وتقريبها من تطلعات الناس.
• أنا لم أقل إني مع الوثيقة، كما لم أقل إني ضدها، لأننا هنا لسنا في مدرج كروي يلزمنا فيه الانحياز لتشجيع فريق ضد الآخر، ولسنا مضطرين دوما للاصطفاف مع أو ضد. بل يسعنا دوما أن نتفق ونختلف في الوقت عينه بمقدار مايلزم، لأننا في النهاية إزاء منتج بشري. كما أني أيضا لم أزعم مناقشة الوثيقة، ولعل لهذا موضعا آخر.
• ما أقوله أني أثق تماما في وطنية من طرحوا المبادرة ولا أشكك أو أقلل من حبهم لإرتريا، وبالمقابل أؤمن أن الرافضين لها ينطلقون من نفس المنطلقات الوطنية. وهنا نحن إزاء أحد أمرين: إما أن الوثيقة سيئة بالكامل، وهنا لاحاجة لمناقشتها أصلا، بل دعوها لتموت بهدوء، حالها حال كل الأفكار التي تولد ممتلئة بالعوار، أو أنها خلطت عملا صالحا وآخر سيئا، وهنا يأتي دورنا للإشادة بما أحسنه واضعوها ولتقويم ما اعوج من عمل إخواننا بكل تجرد ورغبة صادقة في البلوغ لخير الجميع.
• على واضعي الوثيقة - وهذا أملي - أن يكونوا أكثر مرونة مع الملاحظات والانتقادات التي تردهم للوصول إلى نقطة سواء، وألا يعتبروا الانتقادات انتقادات شخصية، حتى وإن بدت كذلك، فكل شأن عام محل أخذ ورد.
• وعلى منتقدي الوثيقة في المقابل - وهذا أملي - أن يرأفوا بإخوانهم وألا تختلط انتقاداتهم الصادقة بالتشكيك والتخوين، وأن يبحثوا عن المشترك قبل نقاط الاختلاف، فلا يُعقل في النهاية أن نقسو على إخوتنا أكثر - أو مثل - مانفعل مع النطام.
• أخيراً وهذه أهم نقطة أُريد إيصالها بكل وضوح: لا يوجد على هذا الكوكب مايمكن تسميته بالوحدة بين مكونات متمايزة حتى في الوطن الواحد... تلك كذبة كبرى وأسطورة غير مطروقة. هناك دائما "إدارة خلافات" وهذه يحكمها القانون والعدالة تماما كما نرى في كل دول العالم المتحضر، فلا الأمريكان على قلب رجل واحد ولا الأوروبيين كذلك، وإنما هم يصلون باختلافاتهم لأخف الضرر وأعظم المنافع الممكنة.
الشاهد الوحيد!
في علم الجريمة، لا يستطيع قاتل مغادرة مسرح جريمته قبل التأكد تماماً من خلوّه من الشهود.
الأمر هذا كان وراء العديد من الجرائم الإضافية، التي لم تكن لتقع لولا وجود شهود على الجريمة الأصل، أضيفوا لاحقاً لسجل الضحايا.
هذه الفكرة - الهاجس، تتجاوز علم الجريمة، لتفسّر كثيرا من التشابك في العلاقات الإنسانية. فكل شاهد على عجز ما أو تقصير أو ضعف، مطلوب التخلص منه، وتغييبه، وقتله معنوياً.
لهذا حين يبرز ناجح بين أُناس لم يتمكنوا من اللحاق به، ينبري عدد منهم لتشويهه وسلبه هذا النجاح، أو التقليل منه على أقل تقدير، لأنه بكل بساطة الشاهد الوحيد على حالة الفشل التي يتسربلون بها. ورغم كون هذا المثال بسيطا وسطحيا ربما، فإنه يصلح كمدخل لفهم سلوك هام يتغذى على فكرة الشاهد الوحيد.
لماذا يُحارَب المصلحون منذ فجر التاريخ من قبل السواد الأعظم في مجتمعاتهم؟
لماذا يصطفُّ المقهورون إلى جانب جلاديهم في مواجهة من يحاولون تخليصهم؟
وقبل هذا كله، لماذا لم يجد الطغاة سوطاً أكثر إيلاما من ألسنة المغلوبين حين تُسلّط على دعاة الحرية والكرامة الإنسانية؟
في كل ما سبق، فتّش عن فكرة الشاهد الوحيد، فهي تفسّر، إضافة إلى عوامل أخرى، لماذا نختار أحيانا وبملء إرادتنا أن نقف إلى جوار الطغاة، ونطيل من عمر الديكتاتوريات، ونخذل من يسلكون أشد الطرق وعورة من أجل خلاصنا. نحن هنا نكره الأنقياء، حين يكونون دليلا دامغا على حجم التلوث الذي يجتاح أرواحنا.
ولعل تاريخ الأفارقة السود في جنوب إفريقيا أفضل مثال على هذا، فلم يكن الراحل العظيم نيلسون مانديلا يناضل فقط ضد البيض الذين سلبوه وقومه الحرية والكرامة الإنسانية، بل كان في مواجهة العديد من أبناء قومه الذين رأوا فيه الشاهد الوحيد على عجزهم، فعملوا بكل ما يستطيعون على تشويهه، والطعن في شخصه في محاولة مستميتة لتغييبه، رغم أنه لم يكن يسعى لأكثر من وضعهم على طريق الحرية والخلاص.
ويذكر التاريخ أن المستعمر الأبيض في جنوب إفريقيا استخدم السود في حربه ضد دعاة التحرر ومقاومي التفرقة العنصرية، ولم يقتصر الأمر هنا على الأميين منهم، بل تعداه إلى القساوسة والمتعلمين حائزي أعلى الشهادات، الذين ارتضوا أن يكونوا رأس حربة العدو في صدر إخوانهم. وقديماً تطرق الكواكبي في كتابه القيّم «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» لوصف هذه الحالة حين قال: «فيكون مثلهم في انقيادهم الأعمى للاستبداد، ومقاومتهم للرشد والإرشاد، مثل تلك الهوام التي تترامى على النار، وكم هي تُغالب من يريد حجزها على الهلاك».