وثيقة ابناء المنخفضات وجدلية الاصل والعصر
بقلم الأستاذ: ود طوعز
بسم الله الرحمن الرحيم
في البدء احب ان اشير الى ان هذه المقالة رؤية نقدية ليس الهدف منها المساس بكرامة احد، او الاساءة اليه، كما اؤكد على ان هذه
الفكرة هي ليست رؤية يتبناها كل ابناء المنخفضات، ولكنه طرح من بعض ابنائها، كما اقر على ان نظرية الضعف المتوازن التي اصابت الحراك السياسي الارتري (حكومة ومعارضة) القت بظلالها على نشؤ واقع فكري مشوه.
ان اتخاذ سياسة خاصة بمنطقة ما دون غيرها فكرة ليست وليدة هذه اللحظة، ولكنها قديمة بقدم التاريخ لكن العجيب في الامر ان هكذا انواع من السياسات كانت من قبل المستعمر، ولم يثبت في سجل التاريخ ان مكون اجتماعي معين في دولة ما سعى الى المطالبة باستحقاقته السياسية (ثروة - سلطة).
فذاكرة التاريخ تحفل بالعديد من هكذا سياسات التي اتخذتها الدول المستعمرة، فمثلاً كانت فرنسا تفخر بعلاقتها الخاصة مع طائفة الموارنة حينما دافعت عنهم عام 1860م، فهذه السياسة الخاصة التي اتعبعتها فرنسا مع الموارنة كان لها الاثر المباشر عليهم،فحينما اجمع ابناء الشعب اللبناني على الاستقلال ابدى ابناء الماورنة والكاثوليك للجنة كنج كرين (لجنة تقصي حقائق) ابقاء فرنسا منتدبة على سوريا ولبنان.
كما ان بريطانيا اصدرت قانون التطهير في مناطق البربر عام 1931م وكان الهدف خلق البون بين العرب والبربر، وقد نص قانون التطهير على الغاء المحاكم الشرعية واستبدالها بمحاكم البربر العرفية، واستئناف احكام محاكم البربر العرفية في المحاكم الفرنسية، ومنع تدريس اللغة العربية في مدارس ومناطق البربر، كما حاربت الاسلام في مناطق البربر وفتحت الباب امام التبشسير المسيحي.
كما ان بريطانيا اتخذت سياسة خاصة في جنوب السودان وذلك اذا اضطرتها الظروف لاخلاء الشمال فيمكن ان تحتفظ بالجنوب، ولقد مرت هذه السيساسة عبر ثلاثة حلقات متباينة الاهداف 1899م - 1955م.
هذه السياسات الخاصة التي اتبعها المستعمر، كانت من اهم الاسباب التي ادت الا عدم تماسك اللحمة المجتمعية، وسبباً مباشراً في عدم الاستقرار السياسي، وابلغ مثال على ذلك عندما تم توقيع اتفاقية الحكم الذات عام 1953م طالب الجنوبيين بالفدرالية، فالسياسة التي اتبعتها الدول المستعمرة القت بظلال من الشك وعدم الثقة بين ابناء الوطن الواحد، وادت الى خلق التباعد بينهم، فكانت عقبة كأداء، ومعوق اساسي لعجلة التنمية والتقدم، على اكافة الاصعدة والمستويات ن (السياسية - اقتصادية - اجتماعية - فكرية - ثقافية).
وكان من حظ ارتريا ان الدول التي استعمرتها لم تمارس سياسات خاصة، تجاه منطقة ما، حتى ان مصطلح المنخفضات والمرتفعات للجغرافيا اثر كبير في ظهوره فهذه التقسيمات هي على اساس الجغرافيا وليس التاريخ.
فهنالك سؤال محوري، لماذا لم تمارس الدول المستعمرة لارتريا (تركيا - ايطاليا - بريطانيا - اثيوبيا) سياسات خاصة؟
كانت كل الابواب موصدة لتنفيذ هكذا سياسات، لان ارتريا دولة صغيرة المساحة، وهنالك تداخل وتقاطع كبير بين العناصر الاجتماعية المكونة لهذه الدولة، كما ان السبب المباشر لاستعمار ارتريا هو العامل الاستراتيجي، فكان هدف الدول المستعمرة هو الا تكون اثيوبيا دولة حبسية (اسفين)، فالدافع الاقتصادي والذي مثل العمود الفقري لدوافع الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر الميلادي كان اقل حضورا من غيره في ارتريا.
لكن ثلة من ابناء ارتريا ابت نفسها الا ان تخلق واقعاً سياسياً عجز عن ايجاده المستعمر، بطرح وثيقة ابناء المنخفضات لبحث الاستحقاقات الذاتية، وتغيب العقل الجمعي، واذكاء روح الفردانية، ولهم العذر في ذلك لان واقع ابضعف المتوازن اورث الساحة السياسية الارترية حالة عدم الاتزان الانفعالي، فكانت هذه مسائل حتمية.
فقد برزت في الساحة السياسية الارترية تنظيمات قبلية، فكل تنظيم يطالب باستحقاقات قبيلته السياسية، فهكذاواقع يدخلنا في متاهات الصرعات الاقليمية، والمناطقية، والدينية، فتنقسم بذلك ارتريا الى عدة نبتات شيطانية، وتروح دماء الشهداء هدراً.
وهنالك سؤال يفرض نفسه، كيف نتجاوز هذا الواقع المرير؟
والاجابة عن هذا السؤال يتطلب القيام بعدة خطوات اجرائية منها:
1. بناء عقل جمعي، الذي يبحث في استحقاقات كافة المواطنين على اساس المواطنة، وبذلك تغيب كل الفرضيات، والمعطيات، ويكون ذلك عبر الثقف المختص، كل في ميدان تخصصه.
2. ان يكون المثقف (الموسوعي والمختص) همزة وصل بين القيادة والشعب، فينتقد اخطاء القيادة نقداً بناءً، بهدف تجويد العمل وليس تدميراً للاخر، ويكون رقيباً على السلطة، وينور المجتمع بحقوقه، وواجباته، وبذلك يخرج من عباءة السياسي والبحث عن المكاسب الذاتية الممجوجة.
3. ادراك كل ابناء الدوائر الجغرافيا الارترية، لا سيما ابناء المخفضات ان هذا النظام قد فرض الظلم على كل المكونات الاجتماعية، دون تحديد اثني او مناطقي او ديني، وخير شاهد على ذلك ان القادمين الى معسكر الشجراب بشرق السودان، هم كل فسيفساء المجتمع الارتري، فهذا يعني عدم جدوى خروج وثيقة تطالب باستحقاقات ابناء المنخفضات، والتصوير على ان الظلم قد وقع عليهم بمفردهم.
4. السعي الى خلق حوار جاد بين المثقفين، وقدامى المناضلين ذوي الخبرة والاقتدار، لحسم قضايا مصيرية كثيرة، حتى لا تكون تحدياً جديداً للدولة الارترية الوليدة بعد انهيار النظام الديكتاتوري.
5. الاعتقاد الجازم ان قيام الثورة واندلاع شرارتها الاولى في القاش بركة، لم يكن نتاج لمعرفة ابناء المنخفضات دون غيرهم المسؤولية الوطنية، ورغبتهم في تخليص الارتريين من الظلم والاستبداد، ولكنه كان لعامل جيوبولتكس، لان الثورة يمكن ان تجد دعماً مادياً ولوجستياً من السودان، القريب من المنخفضات وبعد المنخفضات عن مركز الدولة الاثيوبية، وبذلك تكون الفكرة الحقيقية ان لابناء المنخفضات الريادة في الثورة، ولكن تضامن معهم الجميع، منذ الوهلة الاولى، فكانت ثورة عامة، يجري دمائها في شريان كل ارتري.
6. وضع لائحة دستورية يتواضع عليها الجميع، ورسم صورة مقطعية لشكل الدولة التي ينشدها الجميع، ومحاربات التنظيمات القومية عالمياً ومحلياً، وذلك بعدم منحها العضوية في الهيئات والهايكل المحلية (التحالف الوطني - المجلس الوطني) وبذل الجهود الدبلوماسية بالسعي لدى الدول بعدم الاعتراف بهكذا احزاب وهيئات لانها تضر بالوطن، فتكرس الى الفردانية والذاتية.
7. بناء فلسلفة القبيلة على اساس انها اطار للتعارف، اي منظومة ثقافية وليست اطاراً سياسياً يترتب على اثره الاستحقاقات السياسية لهذه القبائل.
8. ضرورة ايمان ابناء المنخفضات بانهم جزء من وطن حدادي مدادي، يمكن ان يتعايشوا فيه مع الاخر في اطار دولة تعاقدية - ضرورية - ثقافية، والكل يقر على ان ابناء المنخفضات جزء اصيل من كل متين.
واخيراً اتمنى ان يكون ابناء المنخفضات مظلة، يستظل تحتها الكل من الهجير، ورافعة حديدية لبناء العقل الجمعي، ومساهم اساسي في بناء دولة القانون، والحرية، والعدل، والمسأوة، كما كان عهدنا بهم دوماً.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.