للوثيقة... والحوار المُتَمَدِّن
بقلم الأستاذ: زكي رباط المصدر: النهضة
1. الحوار غاية سامية يجب أن تظل صفحته بيضاء نقية: شائعة موت الطاغية الأولى... شائعة موته الثانية...
أحداث فورتو... وغيرها الكثير من الأحداث التي مرت بالمجموعة المقاومة لنظام الكبت القابع في إرتريا، وذلك خلال الثلاث سنوات الفائتة، و في تلك المرات الطارئة ـ التي تخللت أعمالا حثيثة ودؤبة أولاها القوم إهتماما و رعاية في مقارعة الطغيان ـ أصبح التعبير عن الرأي يشبه أو كاد يُعَدَّ في ”ثكنات“ الحرب ولتضحي الكلمات ”رصاصات“ تمدها مشاعر تفيض أسى ومرارة، وبدلا من أن يكون المنطق سلاحا غدت اللامبالاة سلطانا و القتال لزاما على الخائضون في بعض المنابر أو هكذا يريد بِضْع نَفَر أن تصير مآلات الأمور، وهم لا من هؤلاء ولا من أولئك، يحملون أقلاما ظُن أن مدادها قد نضب بعد حين، و أصاب قريحتهم الجفاف بسبب إختفاء موضوعات الشقاق، ليعادوهم مؤخرا النشاط مع الوثيقة التي وُسِمَت بـ ”وثيقة مبادرة جمع شمل أبناء المنخفاضات“.
وفي كل مرة من المرات السابقة ما تلبث الأقلام الشريفة إلا وتعود الى عملها الدائم وتنسى شقاقها أيا كانت توجهاتها، المهم أنها في المكان الواضح الواقف مع الحق المناهض للظلم، ولربما تأخُر النصر وعدم بروز مقاومة قوية تمسك بزمام الأمور هو أحد افرازات هذه الحالة التي تُعَاوِد المعسكر المقاوم للعصابة القهرية بإرتريا، ومع أن الأمر لا يعد مستفحلا، وقد يعد حادثة عابرة، مهما إستمر نفر في التغريد ”فيسبوكيا“ على مدار الساعة بشكل غير لائق وخاصة من رفض الوثيقة ولكن الأمر مرفوض من قبل هذا الطرف أو ذاك، ولكن يجب كذلك إدانة الأسلوب الذي تناولت به الوثيقة آنفة الذكر من قبل أناس لهم قصب السبق والقدر المعلى لمكانتهم حتى افسحت تعبيراتهم التي أقل ما يقال فيها أنها لا تؤسس لحوار بناء، أفسحت المجال لأناس يمضوا حثيثا في تشويه الأفراد وإستمراء السب، لنغدوا في حالة من الإرهاب الفكري والوعيد الذي شابه في أحيانا عدة الإتهام بالخروج عن الجماعة الوطنية.
ويجب أن يكون المثقف مسؤولا، سواء في هذه الحالة التي نحن بصددها أو الحالات الأخريات التي مرت، وأن يهتم بالتصريحات التي تصدر عنه، وتكون مهمته هي البحث عن الحق وإرشاد الناس الى مصادر الحقيقة بدلا من تتبع تغريدات آحاد الناس، وأن يكون ممن يتلقون التعبير إجمالا ”كله على بعضه“، بدلا من إعطاء جل الأحكام بناء على شخصية مصدر التعبير وحسب. فالعين تقرأ والأذن تسمع، ليتلقفها العقل ومن قبله القلب، فحصا وإلماما وإستيعابا، فيقذفها اللسان، أو يرسمها المداد على الورق، أو يطبعها على حائط ص حاسوبه.
وليكون الحوار غاية سامية فلا يفترض البتة إنطباق الآراء أو توحد التوجهات، ولا الأفكار، ولكن المنطق والعقل، والهدف الأسمى، والخطر الذي يتهدد الجميع، يحتم الهدوء والتأني وسعة الصدر وإفساح المجال للفكر أن يشتغل والعقل أن يتدبر، فلا يصح قول: ”أنا ومن ورائي الطوفان“ لان أعلى درجات الإنتصار تكون بتجويد الأعمال والمشاريع التي تخصك، لا بالتنكيل بالأخرين، وهدم مشاريعهم، وتسفيه أحلامهم، ومحاولة حرقها، لأن الرياح قد تجلب لهيب النيران... بما لا يشتهي مضرموها!. ولا يستقيم هنا إنكار النقد الذي يتأسس على قاعدة الإحترام المتبادل وإعطاء المخالف قدره.
2. الوثيقة مالها وما عليها:
أ. ما يفهم من الوثيقة : فئة من هذا الوطن تعاني من الظلم والحيف. إرْتأت وجوب ترتيب بيتها ورص صفوف مجتمعها حتى تواجه الظلم الواقع عليها، لتواجه الطغيان مع غيرها من الفئات المهمشة. وأنها عندما تجمع شملها لا تستهدف سوى العصابة القهرية المتحكمة بالبلاد والعباد، وأن الذي حدى بها إلى هذا الطريق هو تحملها لمسؤولياتها في الدفاع عن الحق في ظل مصير يتهددها بأن تمحى من الخارطة.
تعد الوثيقة أحد وسائل التفكير المشروع الذي يحاول فيه أبناء هذا الوطن لإدراك ذواتهم في إطار الوطن الجامع الذي يشمل العديد من العناصر التي تتشكل داخله، وهي محاولة لتلمس أبناء المنطقة ـ التي عنتها الوثيقةـ لحالهم، وإعداد أنفسهم للنضال حتى إسترداد كرامتهم مع شركاءهم، ولكن هذه المرة بالتأكيد على المظالم الذي تعرضوا لها في حقب الإستعمار المتسلسلة إلى فترة الدولة التي إستمرت معاناتهم بل أصبحت بشكل منهجي منظم، وذلك لإستنهاض شريحة مهمة، من أبناء هذه البلاد حتى تتقلد حظها في الصف الوطني بادئة بمعرفة حقوقها وواجباتها، والوثيقة في صياغتها هي كاشفة وليست مقررة، للمشاعر التي تنتاب إنسان المنطقة، في إحساسه بأنه يعاني من الظلم أعظمه، ومن التهجير أفظعه، ومن سلب الأرض وعدم تقدير ثقافته أمره. وأن الكل سيعود إلى داره ان عادت الأمور إلى طبيعتها وإنسان منطقتها سيعود إلى خراب يباب، عسيرا عليه إصلاحه، لكونه كان يرزح في التهميش أزمانا عديدة.
ب. إهتمت الوثيقة بالمبادرة في تطمين ”الغير“ كل أبناء الوطن الذين لم تضمنهم الوثيقة ضمن أبناء المنطقة التي عنتها، وكان الرابط الأوحد في كل ما قيل في هذا الجانب هو عبارة عن التأكيد و الإعتراف بأفضال هذه الفئات وتمترسها لإستقلال إرتريا ونضالها المشرف من أجل التحرير .
ج. ورد بالوثيقة عدة نصوص يبدوا عليها التناقض ولكن تفهم من السياق العام بأنها تعني إشارات محددة، وهم النص الخاص الذي يعطي إنطباعا بأن هناك دعوة للإنفصال الذي أفسحت الوثيقة مجالا في تعريف المنطقة التي عنتها بالرعاية، وهذا فيما ورد بأن هذا الإقليم لن يدفع ضريبة الوطن بمفرده، أو تلك المتعلقة بالإمتدادات مع دول الجوار. وهناك نص يقول:
”وأن لا تخصم فاتورة بقاء الوطن ووحدته واستمراره من رصيد مجتمع المنخفضات بمفرده، باعتبار أن ذلك مسئولية مشتركة لجميع مكونات الوطن“.
ولكن لنتأمل النصوص التالية بدقة ثم لنخرج بحكم:ـ
(1) ”عليه نتقدم بهذه المبادرة لجمع شمل أطياف هذا المجتمع ليتمكن من الدفاع عن حقوقه ومصالحه ولعب دوره التاريخي المعهود في المساهمة مع بقية المكونات الارترية التي تناضل في سبيل التغيير الديمقراطي الحقيقي بإقامة دولة العدل والمساواة والحرية والديمقراطية وحكم القانون، وذلك من خلال التنسيق اللصيق والمستمر في القضايا المجتمعية المصيرية بين كل أطراف هذا المجتمع والعمل مع حلفائه من المكونات الإرترية المهمشة في القضايا الوطنية المشتركة“.
(2) ”لذا فإن هدف هذه الدعوة هو لم الشمل وتوحيد الصفوف وتعزيز قوة ودور هذا المجتمع، وذلك من أجل الدفاع المشروع عن الوجود والحقوق والمصالح الحيوية، والعمل من أجل استرداد الكرامة والحرية لمجتمع المنخفضات خاصة وكل المكونات المناهضة والمناضلة ضد الهيمنة والتسلط بصفة عامة، وهي ليست دعوة للتعنصر والإنعزال السلبي“.
(3) ”وعليه فإن من مصلحة كافة القوى المناضلة ضد الظلم والهيمنة والتسلط العنصري من قبل نظام الحكم القائم في إرتريا منذ تحرير التراب الإرتري، ومن أجل استتباب الأمن والإستقرار في الوطن وإعادة الحقوق المسلوبة لأصحابها وتحقيق الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والوحدة في إطار التعدد“.
إنني أفهم من تلك النصوص السابقة والتي يبدوا في ظاهرها التضاد، أن إرتريا ”الوطن“ كانت حاضرة أثناء سياقة تلك الوثيقة وأن وحدة الأمة الإرترية، التي أريقت في سبيلها دماء ذكية مرعية ومصانة. ويبدوا وعلى حسب ما يفهم من السياق وتسلسل الأفكار والمبادء داخل الوثيقة، من (عدم دفع أبناء المنطقة الضريبة مستقلين عن ما عاداهم)، أو ما إندرج في هذا الباب، كان الهدف منه إطلاق زلزالا قويا في وجه شركاء الوطن الذين يناضلون ضد طاغية (الذي تجمعهم به صلة وقربى) ولكنهم مستفيدون من التهميش الذي أحدثه للفئات الأخرى كما وأنهم وعلى حسب وصف الوثيقة ”يتماهو“ مع خطط العصابة القهرية بالبلاد التي تنظم تهميش دور المنطقة التي اهتمت الوثيقة برعايتها. ولكنني أرى انه كان من الممكن الإستعادة عن تلك العباربات بجمل أخرى تفاديا للبس.
د. ومع أن فقرات الوثيقة يبدوا أنها شملت معظم الإشكالات التي حاولت إجمالها إلا أنها لم ترعى بعض القضايا الإهتمام الواجب ومن أهمها دور الشباب الذي جاء في الوثيقة بما لا يستقيم مع ما يجب أن تقوم به هذه الفئة المهمة في المجتمع، وأن تغييبها سابقا كان أحد عوامل تأخر النضال الوطني، خاصة ما يتعلق منه بعد التحرير خلال العقدين السابقين من عمر الدولة.
3. في الختام الوثيقة، بشكل عامل جيدة، وهي ضمن المحاولات الدؤوبة التي يقوم بها المجتمع الإرتري في إدراك عوامل القوة والضعف داخله، كما ان سياقتها كانت في غاية الروعة، لخصت الكثير من المشكلات، وإبتدعت وسائل لحلها، وسنت مبادئ قيمة كفيلة بذلك، والوثيقة مجهودا غير مألوفا هذه الأيام في الحياة السياسية الإرترية، وذلك فيما تنم عن بذلا غير اعتياديا حتى تخرج بهذه الصورة فيه الكثير من الإهتمام والرعاية والفحص والتدقيق، هذا بغض النظر عن ما توصلت إليها من نتائج وأحكام. وهو الأمر الذي أرى وجوب أن يسود ويعم محل التغريدات العجولة والتي في غالبها يعتريها الضعف والوهن، ليس هذا بسبب أن تلك هي طبيعة التكنولوجيا ولكن لأن أصحابها أروحوا أنفسهم عن الكد والتعب والنصب. وكم هو مفيد أن تناقش قضايا الوطن في قاعات المدارسة والفحص والتدقيق والتجويد، وأن يسود المشاريع الصفة الجماعية في اخراجها وروح الفريق في نتائجها، بدلا من الفردية، وتعجل الثمرات، لأن الإستبداد ليس في رأس ”أفورقي“ فقط ولكنه قد بث سمومه في كل أرجال الوطن، ولن يزول هذا بجرة قلم، وانما هي أعمالا طِوالا عِراضا، ومجهودات وبحوث ودراسات، عبر سنين، على الجماعة الوطنية، التذاكر من الآن للتهجهيز لها، حتى معالجة علل المجتمع وفك شفراتها، لا بتجاهلها، ولنعلي من علماء إجتماعنا، ونعطي هذا الحقل الأهمية القصوى، بسبب أن أي مجتمع كثر علماء اجتماعه قلت مشاكله الإجتماعية. ولأننا نعاني من مشاكل إجتماعية كثيرة. ومادمنا نحن في سير، سنصل إلى الحقيقة، وما دام هناك نفس سيكون هناك خطوط متقاطعة وكلما أعلينا من شأن الحوار بيننا واعطيناه قدره ومكانته.