في السياسة دائما المثل والحلم والتمني شيء والواقع السياسي شيء أخر
بقلم الأستاذ: الحسين علي كرار
كل شخص في ارتريا عند استقلالها كان يتمنى أن يعيش في دولة مستقرة، ويرتاح من عناء سنين النضال الشاق والطويل، وكان يحلم
أن تؤمن له الدولة العيش الكريم، والأمن في المال والنفس والولد، وتؤمن له الطعام ومياه الشراب، وكان يتمنى ويحلم بالتقدم والتطور في جميع مناحي حياته اليومية والصحية والتعليمة وبقية أوجه الحياة الخدمية مثله مثل بقية شعوب العالم، ولكن سقطت كل تلك الأماني والأحلام، قبل نشوء الدولة وفي مهدها بفعل عقلية القيادة التي تديرالدولة، فلو وضع وقتها دستور يهيكل الدولة، ويضع أسس لنظام الحكم، ويعترف بثنائية الثقافة، وسيادة العدل الإجتماعي، وعودة اللاجئين المشردين بسبب حرب التحرير إلى ديارهم، لما وصلت الأوضاع إلى ما وصلت إليه، فالساحة محتقنة بل محترقة، من نظام فاشل كرّس التطرف، من أجل الهيمنة وإقصاء الآخر، ومعارضة فاشلة تحبو وعاشقة لسن الرضاعة منذ عشرين عاما، وقانون القوميات المدمر، والتمزق الديني الذي يعم كل الطوائف، ومصطلح المرتفعات والنمخفضات الذي يتوجس منه البعض خيفة، كلها مسائل شائكة ومتراكمة يصعب فيها إيجاد الحلول بالبساطة والسهولة وأن تتم فيها الحلول بالمثل والأحلام والتمني من طرف واحد أصبح الضحية، كما يحلم الحالمون البسطاء أوالعارفون المجاملون، أو أصحاب المصالح، لأن الوضع في أرتريا أصبح خارج دائرة المنطق والتاريخ، وأردت من هذه المقدمة معرفة الأسبا ب الحقيقية التي دفعت القائمون على ميثاق المنخفضات الذي أحدث ضجة كبيرة وأصبح له مناصروه، وله معارضوه، وقد رأينا هذه الضجة والتخوين عندما أسس عفر البحر الأحمر تنظيمهم القومي وأشاروا فيه بحق تقرير المصير، كذلك عندما تأسس حزب النهضة الذي اعتبره البعض حزب جهوي وشنوا عليه هجوما عنيفا، كل ذلك يعبر عن واقع الخوف وتناقض المصالح في ظل نظام لا يعرف إلا مصلحة فئة واحدة ويعمل لخدمة مصالحها، فالصراخ إذن موجود في المجتمع من الوضع البائس الذي يعيشه الفرد، والصراخ موجود في النظام المفلس والعاجز الذي سلك بالدولة طريق الانتحار، والصراخ موجود في المعارضة المصابة بعوارض الملاريا القاتلة، هذه هي حقيقة الحياة السياسية بكل تناقضتها والبعيد كل البعد عن المثل والتمنيات والأحلام وتتحكم فيه مصالح الدولة الطائفية ومصالح الجماعات الجهوية والاقليمية ومصالح الفصائل المتشرذمة ومنظمات المجتمع المدني التي لا تميز نهارها عن ليلها، وفي الحقيقة هذا الوضع المأساوي الكل ينبذه ويتبرأ منه ويدعي أنه المخلص الأمين لحماية الدولة من الانهار ويرمي بكل نعوت التخاذل على الآخرين، وفي نفس الوقت الكل يحب هذا الوضع المأساوى لحماية ما يراءه من مصالحه التي يحميها من إعتداء الآخرين، فسياسة الدولة الهدامة وتناقضات مصالح المجتمع، حقيقة أصبحت تتجاوز مفهوم الدولة الفاشلة إلي الدولة القابلة للإنهيار، ولكن كيف أوصل النظام الأوضاع في أرتريا إلى هذا المأزق الحقيقي من أجل السيطرة والهيمنة، فأمامنا خريطتان الأولى هي لتقسيم النظام المجتمع الأرترى إلى قوميات، وحدد فيه لكل قومية موقعها، والخريطة الأخرى هي للتقسيم الإداري الذى أنشأه بعد إلغاء التقسيم الإداري السابق الموروث عن الإستعمار الغربي.
الخريطة (1) تقسيم القوميات:
أول ملاحظة على الخريطة أن مصوع لقومية التجرنية وكامل شواطىء البحر الأحمر لقومية الرشايدة وقومية التجري أصحاب الأرض في البحر هم على أبواب الرحمن، والقوميات الموضحة على الخريطة في الواقع لا تملك على الأرض إلا فن الغناء الراقص، سبعة منها يسودها الاسلام إلا قلة مسيحية، وقومية تسودها ديانات الاسلام والمسيحية والوثنية، والأخيرة تسودها المسيحية مع نسبة كبيرة معتبرة من المسلمون الجبرته وعاصمتهم مندفرا لم يعترفوا بهم كقومية، وبضم مصوع لقومية التجرنية ونكران قومية الجبرته (واضح العملية كتر كومك والتقسيم مصمم لمصلحتهم في التوسع)، القوميات الاسلامية السبعة حسب الخريطة، تبنى فيها الكنائس ويمنع فيها بناء المساجد، تكتب فيها التجرنية ويمنع فيها العربي، أصحاب الأرض لا يحكمون ولا يملكون، التجرنية المهاجرون هم الحاكمون وهم المالكون، ولاجئون حرب التحرير المسلمون في السودان واليمن مرفوضون. والفتنة المؤجلة غدا ليثيروها هي حرب الحدود بين القوميات كما رسموها.
الخريطة (2) التقسيم الاداري:
هي عبارة عن مسمار جحا الذي قضوا به على خريطة توزيع القوميات، كما هو واضح في الخريطة، أدخلوا أجزاء صغيرة من أراضي التجرنية في كل من إقليم بركة القاش وإقليم سنحيت وإقليم شمال البحر الأحمر وبحكم أن أبناء التجرنية جزء من الأقاليم يحق لهم التملك والهجرة حتى آخر كركبت وأخر قلوج وآخر قارورة، قارنوا بين جحم خريطة التجرنية في القوميات وخريطتهم في التقسيم الإداري في الأولى الحجم كبير وفي الثانية الحجم أقل من نصف الأولى.
وضعوا الخريطتان حسب زعمهم : الأولى من أجل رفع الظلم عن القوميات التسعة، وليمنحوها كافة حقوقها السياسية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية، والثانية من أجل محاربة القبلية والإقليمية والطائفية، وفي الحقيقة هذه المباديء القيمة وأهدافها النبيلة لا يعترض عليها أحد ولا يختلف حولها إثنان، وبموجب خريطة القوميات كان يجب: أن تكون مثلا عاصمة لقومية الحدارب ويقوموا بتعميرها، وأن تكون عاصمة للرشايدة ويقوموا بتعميرها، وبادمي عاصمة لقومية الكوناما، وبارنتو عاصمة لقومية النارا، وكرن عاصمة لقومية البلين، وعصب عاصمة لقومية العفر، وصنعفي عاصمة لقومية الساهو، وكل من أغردات ونقفة وأفعبت وتسني عواصم لقومية التجري، واسمرا وعدي قيح وعدي وقري عواصم للتجرنية ولكنهم أضافوا عليها مصوع، هذا ما يقوله المنطق القويم حسب الهدف الموضوع لخريطة القوميات، ولكن في الممارسة الفعلية تم العمل عكس ما طرحوه، وأنهوا بذلك كل ما يترتب بموجب الخرائط من حقوق، وجعلوا وجودها لخلق التشرذم والتفتيت للسيطرة والهيمنة، وكانت خريطة التقسيم الإداري اللاحقة بحق مسمار جحا المضروب في جدران الحيطة، لقد أضافوا بموجب هذا التقسيم كما اسلفت جزء بسيط من إقليم سراي إلى إقليم بركة القاش، وجزء بسيط من حماسين إلى إقليم سنحت، وكذلك أقاليم البحر الأحمر، وبهذه الأجزاء الصغيرة تدفقت التجرنية بأعداد هائلة بحكم أنهم من أبناء الأقاليم وغيروا بهذه الهجرات الكبيرة من معالم المدن والقرى والبادية وامتلكوا الأراضي والمساكن وأصبحوا هم الأكثرية بهذه الهجرات المنظمة والممولة والمعززة أمنيا، فأصبحت كل مدن القوميات المذكورة عواصمهم بالإضافة على عواصمهم وقراهم وبواديهم الأصلية، وأصبحوا الحاكمون والآمرون، وبذا نجد أن افورقي أتي بمفهوم وفكرة القوميات ولكنه إمتنع عن هيكلتها وتطبيقها على الواقع بذكاء، وحصرها فقط في جانب فن الغناء الذي كان أصلا موجودا، ولكن فكرة القوميات قد عجبت بعض المعارضين وساعدتهم المعارضة في ذلك، ومع إحترامي لشعور الآخرين فالقوميات في واقعها هي قبائل بملابس القوميات إلا إذا إستثنينا القليل، وهي عملية أشبه بحبة الفول التي يتم تغطيتها برقائق الشكلاته التي لا تغير من جوهر حبة الفول.
وفي الأربعينات بحكم قوة الرجال في التوازن السياسي والاجتماعي كانت الغلبة فيها لجانب الدين، ولكن تغير الزمن، وتغير الرجال، وتفرق رجال الدين المسلمين، فأصبحت الغلبة للمصالح والمناطق، بل وبعامل القوميات المدعوم تعمق مفهوم القبلية والعشائرية والإثنيات، وهو كوباء قاتل يشتعل من حولنا وتغذيه القوي الأجنبية الخارجية، وسقطت دول كانت فيها الأحزاب بالمهنية والحرفية كالسودان وسوريا والعراق فاليوم لايعلو فيها إلا أصوات القبائل والعشائر وتنذر أدخنتها في كل من مصر والجزائر، وذلك بعد أن تمزق الصومال، وفي ارتريا منح أفورقي المنخفضات سبعة قوميات إذا أضفنا اليها دنكاليا، أما المرتفعات فقد منحها قوميتان واعتبر القومية العاشرة من ضمن كشوف حسابات التجرنية، والقومية الوحيدة هذه تشاجر حولها القوم فقالوا أشطروها، وفي مؤتمر أواسا في اثيوبية طرح الأثيوبيون موضوع قومية التجري وأن يتم لها تشكيل قيادة، والأثيوبيون كذلك مثل أفورقي مهتمون بموضوع القوميات في أرتريا، ولكن كل منهما يغني لليلاه، والمشكلة الكبرى والمعضلة هي في الناطقين بالتجري والمشتتين والمتفرقين، والذين يحكمهم قانون الأنانية البائس الذي محتواه (أنا الزعيم ولا أقبل بزعامة النذير) فتبرز كل قبيلة أميرها وزعيمها لإستحواذ المواقع القيادية، وتحدث الكوارث منذ الرابطة الاسلامية وفي القيادة العامة وجبهة التحريرالارترية وقوات التحرير الشعبية الأولى والثانية وداخل الجبهة الشعبية ولما ضعفوا وهانوا ضعفت الساحة وهانت، بحكم أنهم قوة إجتماعية بشرية كبيرة، وكانوا هم صيدا سهلا وضحايا، وفي الواقع يتحملون مسئولية تأريخية كبيرة لما وصلت إليه الأمور، ومن الأخطاء المزمنة أن الرابطة الاسلامية إعترفت بلغة التجرنية من باب المثل والوطنية التي يزايد بها اليوم البعض من المسلمين على المسلمين، ولكن التجرنية أعتبروها مكسب سياسي جاهزة وأزاحوا المثل والوطنية إلى جانب، فرفضوا اللغة العربية، هذا هو الحصاد المر خلال الأعوام السابقة، أليس من الأفضل والأرقى من هذا التمزق القبلي العشائري الإثني والفصائل المغطاه برقائق الشكلاته، أن يكون هناك تكتل إقليمي لمصلحة الوطن ومصلحة المواطن بعيدا عن الإثنيات والعشائر والقبائل هذا ما يقوله المنطق؟
عندي رسالتان:
الرسالة الأولى: إلى الكاتب والروائي الأخ/ ابوبكر كهال في الواقع لا توجد بيننا معرفة شخصية ولكن الأخ/ ابوبكر بكتاباته ورواياته معروف لكافة أبناء الشعب الأرتري وهو محل تقدير واحترام، وما استوقفني ما ورد في مقاله المعنون - السمنار الخديعة وتفريق الشمل (من أراد أن يتبرأ من مبادرة ما بات يعرف بوثيقة جمع أبناء المنخضات من الذين ساهموا فيها وفي ظنهم أنهم يخدمون الوطن وقضيته فليفعلوا الآن وقبل فوات الأوان... ومن يشعر أنه تم تضليله فليتبرأ... والفرصة مواتية لينفضوا عنهم ماعلق من ملوثات) هذا الأسلوب صراحة أمني يستخدم في وزارات الداخلية لمن تراهم الدولة خارجين عن القانون، وأنا شخصيا لا أعرف السلطة التي تملكها إلا القلم، ومن حقك أن تعبر عن رأيك وتنتقد وهو حق مكفول للجميع أن يقولوا ويكتبوا ما يرونه بحرية، ولكن هذه العبارات لم نسمعها منذ رحيل الإمبراطور هيلي سلاسي ومنغستو هيلي ماريام، لأن النظام الحالي لا يعترف بوجود الآخرين لهذا يقتل ويسجن ولا يتوعد، وأنت قد رميت في مقالك من قاموا بمبادرة جمع أبناء المنخضات بالعمالة والخيانة تارة للسودان وتارة لأثيوبيا، وهي تهمة كبيرة، فإذا كانت لديك معلومات موثقة تثبت ذالك فقدمها للقراء حتى يعرفوا الحقيقة، أما إذا كانت تهمة مبنية على معلومات شفهية عشوائية وإنفعالية، فعليك الإعتذار لمصداقيتك، أعتقد أنه غير لائق بمقامك وخاصة أنت ممن يمثلون الأدباء والكتاب الأرتريين في المحافل الدولية، أن ترمي جزافا بمثل هذه الإتهامات الخارجة عن إطار النقد.
الرسالة الثانية: للاستاذ/ حامد عمر ازاز أنت أيها الأستاذ تربّت على يديك أجيال في مدارس التعليم، ووالدك إستشهد في الميدان وتركك وأنت صبي يتيم، وترك الجيش السوداني مع الكوكبة التي تركت الجيش السوداني و ضحت بمصالحها ووضعت أساس النضال الأرتري، وعندما خرج هؤلاء لم يخرجوا ليفصلوا المنخفضات الارترية وانما خرجوا لتحرير أرتريا، وأنا أبصم لك على شيك على البياض وبالأصابع العشرة إن الذين يتهمونكم اليوم بالإنفصال والإنضمام إلى السودان، غدا إذا نجحتم وأصبح لكم التأثير سوف تتهمكم نفس هذه الأقلام بأنكم دفعتم التجرينية إلى أثيوبيا وإلى التطرف، ومن المضحك في التهم أن يتهموكم أنكم تعملون لضم المنخفضات إلى السودان، ومن المضحك أن يقبل السودان الذي يئن بمشاكله الكثيرة ومنها مشاكل شرق السودان أن يضم إليه المنخضات الارترية لتزيد من مشاكله، وكذلك ليس من المنظور أن يحلم التجرنية أنفسهم بأن يضموا إقليهم إلى اثيوبيا بعد دماء إخوانهم التجراى التي سفكوها، ولا في ظل التوازنات الداخلية الاثيوبية التي رسمت بعد إستقلال ارترية وتوافقاتهم الداخلية، وسوف لا تسمح بذلك القوى الخارجية المتحكمة في مصائر الشعوب، وكل ما سيفعلونه ستكون إثارة النعرات القبلية والعشائرية والطائفية كما حصل في الصومال ويحصل في السودان ومصر وليبيا وسوريا والعراق وبلاد الأفغان والباكستان، ولا يسمحوا أن ينتصر فيها طرف على الآخر، سوى حطام البيوت وأشلاء البشر، وديمومة مصالحهم، إن ما قمتم به هو الذي سيمنع برك الدماء لأنه سيجمع الكيانات التي خلقها النظام على رأي واحد، وسيعيد التوازن في المجتمع الأرتري المصاب بخلل التوازن، لأن دماء الشهداء سوف لن تذهب هباء فلا للتقسيم بعد التحرير، ولا للهيمنة الطائفية على مقدرات الشعب، ولا للعيش تحت هاجس خوف المترددين والمرجفين، وإنما سكبت تلك الدماء وأرواح الشهداء ليسود أرتريا العدل والأمن والإستقرار والحياة الكريمة.
وأخيرا مجمل القول بأن من أدخل الساحة في هذا النفق المظلم و هذه الأوضاع الأليمة هو النظام بتجبره، والمعارضة بضعفها، وأولئك المعارضون من التجرنية الذين يحملون رسالة النظام ويريدون تنفيذها عبر ظهورنا ليسطوا على كرسي السلطان، أنتم يا شباب أياديكم نظيفة، ورؤيتكم جديدة، والكثيرون يحاولون تحطيم معنوياتكم، ولكل أهدافه، فتحملوا وأصبروا، إن مواقع التجرنية لم تشتعل كما أشعلها هذا الميثاق، لأنه وضع اليد على الجرح الحقيقي الذي يرفض التشرذم الذي وضعوه، وختاما أقول عندما تختفي الأضواء في فصائل المعارضة، يظهر أبناء البدور.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.