ثقوب في الجلباب الابيض
بقلم الأستاذ: ابو زهرة
في غمرة الذهول من ما ألت وأوشكت آن تنتهي إليه مرحلة الكفاح المسلح من إحداث ومن من كان لهم رأي أخر ولا يروق لهم أن يرو
السفينة تتأرجح بين مد وجزر و لاسيما بعد سيطرة وهيمنة الجبهة الشعبية علي الساحة الارترية وإمكانية انفرادها بكتابة الكلمة الأخيرة و بعد أن بات واضحا ضعف الأداء السياسي للتنظيمات المعارضة الأخرى ومن ثم هشاشة النتائج والعوائد السياسية المتوخاة بالنسبة للمسلمين من صراع عسكري قاسي و مرير استمر قرابة ثلاثين عاما شارك فيه الجميع كل تلك المتغيرات التي ظهرت علي الأرض جعلت الوضع اكثرقتامة و تعقيدا عن ذي قبل و خاصة لمن كان لهم شرف السبق بكتابة الكلمة الأولى (الكفاح المسلح).
و في عام 1989 م تم الإعلان عن ميلاد حركة جهادية مسلحة ذات بعد أيديولوجي إسلامي من جماعات إسلامية والنخب الاريترية ذات التوجه الإسلامي. و في اعتقادي كانت حركة وطنية خالصة ولها خصوصيتها و دلالاتها وملعبها لم يكن إقليميا أو دوليا بقدر ما كان وطنيا.
و فكرة الجهاد في تقديري كانت حالة ظرفية وليدة اللحظة أملتها الظروف التي صاحبت خروج جبهة التحرير الاريترية كقوة عسكرية فاعلة ووازنة من المعادلة السياسية برمتها من جهة و هشاشة التنظيمات والهياكل السياسية الأخرى من جهة، كل ذالك التحول في مسيرة النضال الوطني شكل ضغطا معنويا في الوعي الجمعي لمسلمون عامة و علي النخب ذات التوجه الإسلامي خاصة والتي كانت تقيم في كل من السودان ومنطقة الخليج العربي. وفي مايبدو كانت تسعي لتقويض هيمنة وانفراد الجبهة الشعبية بالساحة الاريترية و ما يمكن إن يحدثه هذا الانفراد لاحقا من أثار سلبية في البعدين الثقافي ولاجتماعي ناهيك عن الديموغرافي لاشك من ان هذه الخطوة كانت نقلة نوعية في ادبيات مجتمعنا لا سيما الشباب منهم لم نألفها من قبل وأيضا مبنية غلي تصورات و قراءة للإحداث الماضية خلصت إلى نتائج مفادها:
1. ان اخفاقنا وفشلنا يعود الى السيولة السياسية التي رافقت مرحلة النضال وانخراطنا في القوالب السياسية المعلبة منها، البعثي، والشيوعي، والعروبي و تخلينا عن ديننا الاسلامي الحنيف.
2. التماهي الذي ابداه المغيبون و ادعياء التقدم المهوسون بالنظريات الفاسدة مع اطروحة افورقي تحن و اهدافنا ووجدوا او حشروا انفسهم في مفردة (نحن) وهي مفردة ضمير استخدمت للتضليل.
3. رفض فكرة الوحدة المزعومة الذي يتشدق بها الاخر و هي في حقيقتها وحدة القوميات لا وحدة الشعب من اجل تمرير مشا ريع سياسية مشبوهة وغير مقبولة ومبنية على المغالبة والخداع ولاستغفال.
4. محاولة جمع وتأطير الفسيفساء للمكون المسلم في قالب واحد على كلمة سواء باستدعاء الدين كمحفز و اطار جامع ولو كحل مرحلي.
5. محاولة التأثير على المحيط العربي والاسلامي للحصول على الدعم المالي والسياسي.
6. الاستفادة من المزاج السياسي العام في السودان في ظل وجود الانقاذ في المسرح السياسي.
فكرة استدعاء الدين ليست بدعة سياسية جديدة بل هي حالة من الحالات التي تتزامن مع كل هزيمة سياسية او اقتصادية كبرى او وهن يصيب الانسان المسلم وحاجته للمؤازرة والدعم تدفعه للجوء الى خيار الملاذ بالدين كركن شديد يأوي اليه.
واجزم بأنها كانت فكرة موفقة ومواتية لجهة توقيتها حين قدمت نفسها كمخلص وبديل لتلك التنظيمات البائسة مستفيدة من الفراغ السياسي الذى لاح ففي الافق نتيجة الاقصاء العسكري للقوة المحسوبة على المسلمين من الساحة الاريترية، ولأنها لامست المشاعر ومكنونات النفس التواقة للحرية والعدالة و فقدان الامل من تلك التنظيمات العبثية لربما كان هذا سببا كافيا للاندفاع و الحماس الذى ابداه الشباب المسلم وسرعة انخراطهم في العمل الميداني للحركة الوليدة.
وللحقيقة لاقت الفكرة رواجا واستحسانا منقطع النظير في بدايتها ليس من الشباب فحسب بل حتى من كبار السن وكان من السهولة بمكان ملاحظة الثقة والاطمئنان بادية في وجوه الكل ربما لانهم يستمعون الى لغة ومفردات يفهمونها جيدا ويدركون ابعادها وكأنهم يقولون (تاهت ولقيناها).
ارعب هذا التطور والموقف الجديد ( لكم دينكم ولنا دين) وهو موقف ينذر بالمصادمة لا المهادنة الطرف الاخر ورأت الشعبية في هذا التطور ايذانا بتغير قواعد اللعبة واخلال بالوضع القائم ومن هنا كان تسريع وتيرة الضغط العسكري على كل الجبهات على العدو الاثيوبي لحسم الوضع عسكريا وقبل ان ينفرط العقد الاجتماعي بين افراد جيشها والمؤسس اصلا على النظرية الماركسية وتعتبره عماد وحدتها وتماسك افرادها وحقا مكتسبا لا يجوز التفريط فيه. وبعد هزيمة الجيش الاثيوبي وبسط الشعبية سيادتها الكاملة على البلاد وفي لحظة تلاقي وتقاطع المشاعر المختلطة والمتناقضة، وبين ضجيج الانتصار ومرارة التخلف عن الركب يقوم البعض بتوضيب حقائبه للرحيل الى المجهول الى نقطة الصفر وبعضهم يتحدث عن الكونفدرالية وقبلهم من حاول تسويق مشروع عرف بالمنخفضات.
وفي خضم هذه الاحداث المتسارعة ظلت حركة الجهاد هي الامل الوحيد لجهة تصويب الوضع المختل او هكذا تصورنا ولكن وقبل ان نرى تأثير الحركة الجهادية في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية وما يمكن ان تتركه من أثر سلبا او ايجابا حتى اعلن القوم عن انشقاقات و تشرذم جديد بين اصحاب العقيدة الواحدة والمصير المشترك بمسوقات وحجج غير مبررة ولا مقبولة على الاطلاق، لم نفاجأ بهذا الانقسام لأننا اكتسبنا المناعة ونعلم بأن العقلية التي ادارت العمل السياسي للحركة لا تختلف في جوهرها فكرا و ثقافة عن تلك التي ادارت العمل السياسي للتنظيمات المنكوبة وبالتالي انضمام الحركة الى نادي التنظيمات الفاشلة كان امرا حتميا لا مناص منه مهما اختلف الشعار والشخوص. نحن قوم نجيد صناعة الخلاف والاختلاف و نختلف حتى فيما اتفقنا عليه و فبل ان يجف الحبر ويبدو انه تراثنا الثقافي ومقولة التراث هذه لعلها فلسفة تريح اعصابنا قليلا من مغبة الانهيار المعنوي التام بالرغم من تكلفتها الباهظة الثمن والله المستعان. غير ان ما ازعجنا حينها ان يزج بمصطلح الجهاد فيما لا علاقة له بالجهاد ثم يفشل ليكتمل المشهد السيئ الذى عانينا منه وتجرعنا مرارته كثيرا.
هناك من يرى ويبرر بأن أياد خفية تسللت لإجهاض المشروع الجهادي عبر زرع الفتن بين أعضائه و شق صفوفه وتقطيع اوصاله عسكريا لإضعافه في المرحلة الاولى والقضاء عليه سياسيا ومنهجيا في مراحل لاحقة من خلال ابعاده عن قواعده الحقيقة في ارض السودان.
السودان العمق الاستراتيجي والجيوسياسي لارتريا وصاحب المشروع الحضاري هو ذاته الحلقة الاضعف في مسيرة النضال الاريتري عبر العقود الماضية ولم يكن لاعبا سياسيا قويا و مؤثرا في الاحداث بالرغم مما كانت تعج به المدن السودانية بالثوار و قادة الثوار، وكانت منطلقا لتحركاتهم السياسية والعسكرية وكان مفهوما حينها الحياد السوداني لحساسية موقع السودان من كلا طرفي النزاع اريتريا واثيوبيا ولكونه لم يكن لديه مشروعا سياسيا حضاريا آنذاك ولكن ما الذي جعل السودان ينساق خلف النظام الاريتري ويغلق ابوابه في وجه من ظنوا به خيرا؟
هل هي تقاطع المصالح واية مصالح للسودان في نظام خاو ومفلس سياسيا و اقتصاديا أم هي ورقة الشرق التي لوح بها افورقي ؟ ام ضاق السودان ذرعا بالثورة والثوار. كلنا نذكر ضجيج الاعلام العربي الذى صاحب الحملة العسكرية الغريبة و العجيبة في توقيتها و مضامينها والتي قيل عنها ثورة (البجة) فى الشرق السوداني ليكشف لنا عمق الازمة السياسية التي كان يعيشها نظام البشير داخليا و خارجيا و في محيطه العربي والدولي ايضا ولا شك بأن نظام البشير يعلم تماما من كان يدعم ويقف خلف ثورة البجة المزعومة ويدرك بأن الشرق اذا اشتعلت نيرانه بفعل العوامل الذاتية عندئذ لن تكون نيرانها محصورة في الداخل السوداني بل ربما قد تمتد لأبعد من ذلك ولن تكون في صالح افورقي و نظامه الموهوم بقدراته العسكرية الا ان البشير المتعب والمثقل بهمومه السياسية والشخصية والمتهم دوليا بجرائم حرب لم يكن في وضع يسمح له بملاعبة افورقي الذي اعتاد ان يلعب بالنار بالرغم من الاوراق الكثيرة التي كانت بحوزة البشير لو أحسن استخدامها لتغير المشهد بأكمله بيد انه اختار الحل الاسهل وانتهى الامر بعقد صفقة سياسية رخيصة انتقل بموجبها زعماء ثورة (البجة) من البلاط الرئاسي في اسمرا الى البلاط الرئاسي في الخرطوم كمستشارين لرئيس البشير وهي وظيفة لمن لا وظيفة له. ولا حرج اذن أن يرفع البشير القبعة أمام افورقي الذى اهداه مولودا مشوها غير قابل للحياة ليتباهى به كإنجاز سياسي أمام خصومه السياسيين ولم تحصل حركات المعارضة الاريترية ولو على وظيفة حارس باب الرئيس في اسمرا لأنه لم يكن في الطاولة مبدأ هات وخذ بل كانت إملاءات من طرف واحد ولم يكن في حقيبة البشير الا كلمة واحدة مكتوبة بالقلم العريض "أمرك نافذ سيدى".
افورقي رجل يجيد التحالفات والتقاط الاوراق المبعثرة و ما اكثر الاوراق المبعثرة في السودان الشقيق.
لاشك اننا بحاجة الى دراسة معمقة لتجاربنا السياسة لاستخلاص العبر والوقوف على اسباب الاخفاقات المتكررة بدءا من مرحلة الرابطة الاسلامية الى مشروع الثورة المسلحة مرورا بمشروع المنخفضات الى مشروع الاتجاه الاسلامي المعاصر وان تعثرت كلها الا انها تهدف فى نهاية المطاف الى حماية حقوق اصحاب الحق و مصالحهم والمعنين الحقيقيين بمشروع الهوية الوطنية للوطن المختطف من زمرة صغيرة قوتها في ضعفنا بسبب خلافاتنا الكثيرة وعدم انضباطنا.
واننا بحاجة الى وقفة حقيقية وصادقة مع ذاتنا والتخلص من نوازعنا وموروثاتنا الثقافية القديمة قبلية كانت ام مناطقية والتخلي عن بواعث الانقسام مهما كان: العمل السياسي مسئولية و امانة لكل من يستشعر حجم و مقدار التضحيات الجسيمة ودماء الشباب التي سفكت و ما زالت على الاودية والتلال وسفوح الجبال على امتداد الوطن الغالي وعلى مدى ثلاثة عقود من اجل الحرية والكرامة فضلا عن عمق المأساة و حالة اليأس الذى وصل اليها شعبنا الابي المغلوب على امره ويؤسفني القول اننا تركنا خلفنا ارثا ثقيلا للأجيال القادمة كأن لم تغني تضحياتنا بالأمس شيئاً ووضعناهم أمام خيارات صعبة إما البقاء في ازقة وحواري مدن المهجر او السجن الكبير اسمه الوطن.
وفى الختام اقول لست من هواة جلد الذات ولكنها صرخة عالية النبرة لعلها تثير فينا النخوة و المروءة وتحرك فينا المياه الراكدة.