قراءة نقدية في واقع المعارضة الارترية

بقلم المهندس الأستاذ: سليمان دارشح

بسم الله الرحمن الرحيم

يختلف مفهوم المعارضة السياسية بين طرف وأخر تبعاً لإطاره السياسي أو للمرجعية الايديولوجية

التي يستمد منها منظومته المعرفية، وهذا فسح المجال امام تعدد وتنوع تعريف المعارضة، فنظر اليها البعض من قناة معناها اللغوي وادرج تحت اسمها كل من عارض أو اعترض علي الواقع القائم، دون النظر إلي محتوي هذه المعارضة أو بنيتها الي حد أنه لصق صفة "معارضة" علي تلك الجماعات البشرية التي تنأي بنفسها عن انماط التكيف مع المجتمع وتأنف عن المشاركة في انشطته المختلفة.

في حين رفض آخرون تحويل هذا المصطلح الي عباءة فضفاضة ينزوي تحتها كل من هب ودب، واعتمدوا مفهوماً يقتصر علي القوي التي تحمل مشروعاً جذرياً قلب المجتمع وبناء نموذجها البديل علي انقاضه، دون هذا الفهم لا يرون معارضة ولا من يحزنون.

وبين هذا وذاك نهض رأي ثالث يرفض تعبير المعارضة بشكل عام يؤكد علي ضرورة قرنها بصفة تنسجم مع حدود ومحتوي البرنامج السياسي واشكال النضال الذي علي اساسه تعارض ما هو قائم، فنهاك معارضة وطنية وآخرى قومية أو ليبرالية أو اسلامية أو يسارية ومنها المسلح أو السلمي أو الإصلاحي ...الخ.

واحسب هذا التعريف هو الاقدر علي فهم واقع المعارضة في ارتريا، وتحته تندرج قوى المعارضة الارترية بمسمياتها والوانها المتعددة.

والحديث عن واقع المعارضة الارترية ما آلت اليه يسوقنا الي الحديث عن دور النظام الحاكم في ارتريا وطبيعة المناخ الذي فرضه طيلة عقود علي الحياة السياسي في البلاد؟!

منتصف العام الماضي أكمل النظام في ارتريا حسابياً أكثر من عقدين من الزمان وبذات القدر اكملت قوى المعارضة الارترية نفس السنوات في معارضتها للنظام! عمل هذا النظام الدموي الاستبدادي من الوهلة الأولى لتوليه مقاليد الحكم في البلاد علي نفي الاخرين واقصائهم ومصادرة حرياتهم، بل الازدراء بهم واعتبر كل معارض وطني لممارسات نظامه الشمولي فرداً خائناً وبوق لانظمة خارجية يمكن حسمه بالتصفية الجسدية أكثر من الاصقاء لصوته ومحاورته. فضلاً الي مصادرته الحريات العامة وبنائه اسوا نظام دكتاتوري شمولي عرفه تاريخ المنطقة.

وظل هذا النظام طيلة هذه العقود يردد شعارات غوغائية وممارسات فوضوية غير مبررة ومسبوقة بحق الوطن وشعبه، رافق ذلك حالة من التخبط من جانب قوى المعارضة الارترية فهي لم يتبخل علي النظام تشتتها وضعفها، لذلك سفهها النظام واستهان بها، فشن في هذا الفراغ حروبه العبسية ضد الابرياء وبلغت الامور الي حد يعجز عنه الوصف، السجون أمتلأت بالمناضلين الشرفاء لا محاكمات ولا يسئل عنهم ولا يعرف لهم مصير أو مكان، اجبر الكثيرون من مختلف الاعمار علي الهروب واللجؤ ليكونوا عرضة للموت في الصحاري والبحار أو ضحية للممارسات اللانسانية من تعذيب واغتصاب وبيع اعضاء الجسم علي يد شبكات الاتجار بالبشر التي تضم عناصر من اركان النظام وبعض المنبوذين من دول الحوار وعصابات عالمية مجرمة أخرى.

وعاش من تبقى من الشعب في الداخل حياة الفقر بسبب عسكرة المجتمع بأسره لتعطيل كل الانشطة الحياتية وتسع بشكل فاضح الفقر والحرمان والامراض القاتلة والاكراه علي معيشة الفساد والممارسات اللاخلاقية وانتشر ايضاً علي نطاق واسع في البلاد والمضايقات والمطاردات الامنية مما تسبب في خلق حالة من الرعب والخوف والهلع وعدم الاستقرار والامان.

وهذا الوضع المتردي أكده تقرير لجنة التحقيق الاممية الذي صدر بتاريخ 2015/6/8م والذي جاء فيه:

وجدت اللجنة انتهاكات منهجية وجسيمة وواسعة النطاق ارتكبت ولا مازالت ترتكب بإفلات من العقاب في ارتريا تحت سلطة الحكومة، نادراً ما نرى نطاق ومدى الانتهاكات التي نراها في ارتريا اليوم.

وليس مفاجئاً أن نجد أن عدداً كثيراً من الافراد الذين يعبرون البحر المتوسط أو طرق أخرى للوصول الي أوروبا من الإرترين، إنهم يفرون من بلد يحكمها الخوف لا القانون.

اضف الي ذلك تدهور الوضع الاقتصادي في ارتريا بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في ايقاف التدهور، ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية مما زاد حدة التضخم وارتفعت الاسعار واستحال علي المواطنين الحصول علي ضروراتهم اما لانعدامها أو لإرتفاع اسعارها، مما جعل الكثير من ابناء ارتريا يعيشون علي حافة المجاعة والفقر والمرض وقد ادى التدهور الاقتصادي المتواصل ألي خراب المؤسسات العامة وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها ونتيجة ذلك برزت بشكل فاضح ظاهرة الرشوة والفساد والاخلاقي والاداري في اوساط مؤسسات الدولة، وارتفاع معدلات البطالة، وتنامي وفيات الاطفال والامهات بسبب غياب الرعاية الصحية الاولية وانعدام الدواء وانخفاض ميزانية القطاع الصحي لصالح قطاعات الامنية.

تلك نماذج من فشل النظام الحاكم في ارتريا الذي امتد حكمه الدكتاتوري لأكثر من عقدين من الزمان ولا يدري احد الي متى يستمر، وبالتأكيد هذا الزمن هو خصماً من مسيرة التطور الوطني الذي كان ينبغي أن يكون قطع مراحل متقدمة.

ولعل سؤلاً هاما يبرز هنا مفاده: لو كانت المعارضة الارترية قوية موحدة يقظة لكان النظام يتجرأ أن يقدمُ لإرتكاب تلك الجرائم بحق السعب الارتري؟!

أن مما يؤسف له ويحز في النفس ويؤلم الروح ويدعو الحسرة أن تلك الجرائم ارتكابها النظام تحت سمع وبصر المعارضة بجميع فصائلها طوال هذه العقود وهي لا تحرك ساكناً!! فقط كانت تكتفي باصدار أثر كل جريمة من جرائم النظام بيانات الشجب والاستنكار والادانة والتنديد والقليل من الفعل الذي لا يذكر!!

ومن المعروف، ان الشجب والادانة والتنديد واللجوء الي هيئة الامم المتحدة ومجلس الخوف –مجلس الامن- لا يجدي شيئاً في رد العدوان والجرائم وايقاف النظام عند حده، والكل يتوقف معي لا يجدي في ذلك إلا الردع بالقوة.

والادهي والأمر أن بعض فصائل المعارضة وقياداتها كانت ولا زالت تنتظر ان يأتيها الفرج بقرارات مجلس الامن وعقوبات الولايات المتحدة الامريكية وادانات مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة!!!

في رأي مثل هذه القيادات هي قيادات ضعيفة لا تستاهل ثقة الشعب الارتري لانها في الاساس لا تشبه الشعب الارتري لأبي لأن هذا الشعب العظيم من ايام القائد الشهيد عواتي لم يقود ثورته وسطاء دولين ومناديب باريس وجنيف ولندن وواشنطن، قائدها - الثورة - الشعب الارتري بنفسه وبقيادته الوطنية الحرة حتي حقق باقتدار النصر المؤزر ونال مبتغاه وفرض خياره الوطني ليكون الاستقلال التام دون كل الخيارات التي حاول المعتدون الاشرار في العالم فرضها.

وواحدة من أهم علامات ضعف المعارضة الارترية الانسلاخ والانقسام التي طالت صفوفها خلال تلك السنوات العجاف، حتى تجاوز عددها المائة ولازال التفريخ مستمر، ولم يتوقف الامر عند هذا الحد، بل اصبحت تأكل بعضها من الداخل بأيدي عضويتها او بتدخلات أياد خفية وبالتالي عصفت بها رياح الخلافات فأدخلتها في متاهات لا أول لها ولا آخر فأصبحت بهذه الوضعية غير مؤهلة لتكون البديل عند سقوط النظام لأنها في الاساس معارضة ممزقة غير موحدة، مختلفة كاختلاف الألوان!!

يضاف الي ذلك اختراق النظام للمعارضة الارترية امنياً وتنيظيماً مما تسبب في الكثير من الخسائر من خلال تسريب المعلومات والخطط، وكثرة ايضاً بعض المجموعات "المدسوسة" من قبل النظام في صفوف المعارضة والتي تدعي انها معارضة وهذا اعطى صورة سيئة عن المعارضة ككل وفقد المجتمع الدولي الثقة بها.

الكل يحس بوجع البلد من الوضع الحالي، والكل يتمنى اسقاط نظام الهقدف اليوم قبل الغد، ولكن الشعب الإرتيري مقلوب علي أمره، لا يمكن ان يتحرك بدون قيادة واعية ومسؤولة تقوده الي بر الامان، فأين القيادة وأين ذوي الرأي الحصيف؟!!

ولكي لا يبقى الجواب في خانة العموميات، نسأل السؤال التالي:

إذا كانت جميع اطراف المعارضة الاترية متفقة علي مبدأ تغيير النظام القائم من نظام استبدادي شمولي الي نظام تعددي ديمقراطي يلتزم باحترام حقوق الانسان، يلتزم باللجوء الي صناديق الانتخاب، بفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضاة...الخ.

اذا كان هذا هو الفهم المشترك لمبدأ اسقاط النظام ما الذي يمنع عقد لقاء جامع شامل لكل احزاب ومنظمات المعارضة الارترية الوطنية، يتم فيه تقريب وجهات النظر وتعديل البرامج لكي تستوعب رؤية الجميع، وبكلام أخر البحث عن القوسم المشتركة لجميع القوي المعنية باسقاط النظام وجمعها في جبهة معارضة شاملة، وتحييد أو تأجيل الاختلافات والتناقضات بين هذه القوى ذات الأصول الفكرية - العقائدية - والسياسية المختلفة الي ما بعد الخلاص من النظام!!

غير أن ما جري علي ارض الواقع هو للأسف في واد آخر!! فشلت كل المحاولات للبحث عن ايجاد ارضية مشتركة لبناء معارضة تطيح بالنظام وترسله إلي مزبلة التاريخ غير مأسوفاً عليه، وتفتح الباب واسعاً امام الشعب الارتري لترسيخ خياره الديمقراطي ورسم معالم مستقبله السياسي عبر الديمقراطية والتعددية المنيعة بعيداً عن لغة العنف والحروب.

لقد اثبتت التجربة المريرة لحكم نظام الهقدف بأن العامل الأول والاساسي في ان يظل جاثماً علي صدر الشعب الارتري لما يزيد علي العقدين من الزمان، هو تفتيت وتشتت وقوى المعارضة الارترية، لقد ادرك النظام لهذه الحقيقة منذ بداية عهد. لذلك فقد اعتمد اسلوب زرع عملائه في اوساط المعارضة الارترية لتعميق الخلافات والانقسامات بين مكوناتها بهدف اضعافها والقعود بها عن اداء مهامها وبالتالي الوصول الي اهدافه المتمثلة في المحافظة علي نظامه الاستبدادي لأطول فترة من الزمن!!

أذن: فقد فطن نظام الهقدف سر السلاح الذي يمكن ان يطيح به، إلا هو توحد قوى المعارضة الارترية لذلك سعي النظام من خلال عملائه المندسين في اوساط المعارضة بتقسيم وشرذمة المعارضة الارترية الي اجزاء عدة ونسف أي محاولة لألتقائها أو توحدها في أية تحالف للعمل المعارض وهذا ما ظهر جلياً في تجربة تحالفات المعارضة الارترية التي عقد الكثير من

الارترين الآمال عليها، ولكن سرعان ما خبأ هذا الأمل مع تصاعد وتيرة التراشق الاعلامي ببين مكوناتها والخروج البعض منها، أحسب أن تلك التحالفات لم تستند إلي ارضية وحدوية قوية فإزداد في كثير من الاحيان الخلاف داخلها فأصبحت لا تلبي الحاجة المحلة لتكوين تحالف وطني عريض يجمع كل أطراف المعارضة الارترية.

ونرجع ونقول لو كانت قوى المعارضة الارترية توحدت بحق وحقيقة علي ارضية صلبة وعملت بأسلوب القيادة الجماعية الفعالة وفي تجرد تام مترفعة عن المكاسب الحزبية والتنظيمية والمنافع الشخصية لما تمكن نظام الهقدف من الاستمرار في الحكم طيلة هذه العقود!!

نترك كلمة لو لأنها لا تنفع بعد فوات الأوان ونقول : ليس هنالك من سبيل آخر لأسقاط نظام الهقدف الاستبدادي سوى العمل الجاد من الآن لتوحيد الاحزاب والتنظيمات الارترية الوطنية كلها في تحالف وطني قوي عريض متحد وفق خطة مدروسة ومتفق عليها من كل الاطراف.

ونقطة البداية لنجاح هذه الخطة في تقديري، يبدأ بوضع خط فاصل، يجب أن تعتبره تلك الاحزاب والمنظمات الوطنية الارترية بمثابة خط احمر لا يسمح لأي كائن من كان من بتجاوزه ذلك الخط هو توحدها علي هدف واحد وهو اسقاط النظام الذي يتطلب أول ما يتطلب العمل علي إعادة توحيد صفوفها بروح جديدة وأكثر واقعية واستنباط المهمات المناسبة لتعديل ميزان القوى في مصلحة اسقاط النظام.

اما إذا فقدت المعارضة الارترية بوصلة وحدتها وأفلست وسائلها في اسقاط النظام، سيكون مستقبل ارتريا مفتوحاً علي مخاطر عديدة لا سيما في ظل استمرار هذا النظام الدموي الذي لم يعد لديه ما يقدم سوى مزيد من القتل والخراب والدمار.

وكلمة أود أن أذكر بها قبل هذه القراءة النقدية وهي، عدم تجديد المعارضة الارترية لقياداتها حيث اغلب قياداتها تكرر من مؤتمر الي مؤتمر نفس الاسماء ونفس "الكليشة" ولا سيما رؤساءها.

وفي رأي للخروج من هذه المعضلة يتطلب الامر الخروج ولو قليلاً من تحت عباءة القيادات والزعامات التقليدية المتكررة منذ أكثر من عقدين وضخ دماء شبابية جديد لتستلم القيادة.

نحن نعيش الان في زمن المتغيرات السريعة والمتلاحقة فلم تعد النظريات التقليدية في ادارة العمل التي اتبعها تلك القيادات سنوات طويلة تجدي في هذا العصر، عصر الملاحقات والتجديد فلا بد من أدب الإيثار واعطاء فرصة للقيادات الشبابية الواعية المثقفة لأنهم يحق الاقدر لفهم سيرورة المرحلة ومتطلباتها، وخاصة ان غالبية التركيبة السكانية في ارتريا هم من الشباب، فلابد ان تتفهم قيادات اطراف المعارضة الارترية هذه التركيبة وتكون في تواصل معها وافساح المجال امامها لأن الشباب هم شرارة كل نهضة وعمادها وصانعوا التحولات والحضارات في التاريخ.

وهذا لا يعني بحال من الاحوال التقليل من دور القيادات القديمة –دورها النضالي المشرف محفوظ ومقدر- ولكنه ضرورات المرحلة تتطلب تغير النمط التقليدي في الادارة الارساء قواعد صلبة راسخة تتماشي مع متطلبات المرحلة.

وبقى أن أذكر أني لم اقصد فيما سبق وذكرت أن اوجه طعنة في خاصرة المعارضة أو التقليل من شأنها أو اتهامها، بقدر ما اردت ان اشير الي حالة مرضية في الاداء وفي الفعل السياسي، كان من نتائجها افقاد المعارضة جزءاً من مصداقيتها وفعلها علي الأقل، ومنح النظام هدنة دائمة استمر أكثر من عقدين بلا مقابل لأنشغال اطراف المعارضة بالصراع البيني الي حد ما،

وقد جعل هذا الوضع العديد من ابتاع المعارضة في حيرة أو في وضع لا يتيح لهم ممارسة دور فعال ضمن إطار منهجي منظم لتحقيق غاية اسقاط النظام.

باختصار شديد يمكنني القول: ان المعارضة اضاعت مجموعة من الفرص لتحقيق تراكمات كمية في مصلحة التغيير النوعي المنشود في ارتريا، فهل الآن تتدارك الازمة وتتقلب علي الكبوة؟!

Top
X

Right Click

No Right Click