ثلاث عقود من الحرب العبثية المدمرة شكلت هاجس المواطن الارتري والسؤال ماذال قائما لماذا؟
بقلم الأستاذ: محمود محمد نور فرج (أبو رهف) - كاتب وناشط سياسي ارتري
ظل شعبنا يناضل ويضحي بكل ما يملك في سبيل كرامته الإنسانية وسيادته الوطنية
واقفا خلف ثورته الوطنية داعما ومؤازرا لها وسندا حقيقيا لصمود ابنائه المناضلين حتي تحرير كامل تراب الوطن الذي لم يكن ليتحقق لولا تضافر وتضحيات الجميع مناضلين ومواطنين والذي توج بإعلان الاستقلال التام في الاستفتاء الذي شارك فيه جميع أبناء الشعب الارتري في الداخل والخارج بتسبة 99.79% لتكون بذلك ارتريا دولة مستقلة ذات سيادة علي كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية وعضوا رسميا في منظمة الأمم المتحدة.
وبهذا توجه شعبنا بنفس روح البذل والعطاء والتضحية لإعادة بناء ما دمرته ثلاثون عاما من حرب الاستقلال ظنا منه انها قد وضعت أوزارها وان مرحلة جديدة من الاستقرار والبناء والتعمير قد أقبلت وتحتاج الي سواعد أبنائها. وبدأ المواطنون بالعودة الي ديارهم واضعين نصب أعينهم المساهمة في بناء وطن الاحلام بالعلم والعمل والمال والجهد والعرق جنبا الي جنب مع أبنائهم المقاتلين.
ولكن لطاغية العصر كان رأي آخر إذ حول الفرحة الي نقمة والأحلام الي سراب والوطن الي سجن كبير يضيق بنزلائه والشعب الي مجرد أدوات طيعة بيده من خلال تسليط أجهزته الأمنية والعسكرية التي يعلوا صوتها علي جميع مؤسسات الدولة الخدمية التي لا وجود لها علي الأرض سوي اسمها. حيث بدأ أولي خطواته بشن حملة اعتقالات واسعة علي مرحلتين ضد المواطنين شملت في بدايتها العلماء والمعلمين من المعاهد الدينية ومدارس اللغة العربية في جميع أنحاء الوطن.
تلتها الوجبة الثالثة من الاعتقالات شملت كبار الموظفين في الخدمة المدنية ممن ينتمون الي التنظيمات الارترية وكل من له علاقة بالثقافة العربية. الي جانب عسكرة الجميع من سن الثامنة عشرة وحتي عمر السبعين من الرجال والنساء في خدمة السخرة الإلزامية غير المحدودة ما حول الوطن علي امتداد مساحته الجغرافية الصغيرة الي ثكنة عسكرية ضخمة. ليتم الزج بهم في المعارك العبثية هنا وهناك علي امتداد الحدود مع دول الجوار السودان، اليمن، جيبوتي.
ثم الحرب الأطول مع اثيوبيا التي مضي علي اندلاعها ربع قرن من الزمان ومازالت تداعياتها تتفاقم وتستنزف موارد وطاقات الوطن المحدودة. البشرية والاقتصادية.
اسباب ومبررات الحرب:
ايا كانت مبررات النظام للدخول في هذه الحرب العبثية بحجة الدفاع عن السيادة الوطنية واستعادة منطقة بادمي التي سلمها بنفسه للوياني تقراي ابان فترة حرب التحرير في ثمانينيات القرن الماضي والحرب الاقتصادية المفروضة عليه من اثيوبيا كل هذه الادعاءات إنما كانت من بنات أفكاره الشيطانية لخلق عدو خارجي يهدد السيادة الوطنية والهاء الناس وصرفهم عن المطالبة بالاستحقاقات الوطنية.
والتغطية علي الأسباب الحقيقية لدخول هذه الحرب وهو الصراع بين الشعبيتين في اسمرا واديس اببا وعلي وجه الخصوص بين كل من اسياس افورقي/وملس زيناوي حول من يقود المرحلة واتهام كل طرف للآخر بخرق الاتفاقيات السرية بينهم واحتدام الصراع والوصول الي حرب انتقامية طاحنة وتصفية حساباتهم علي حساب أرواح الأبرياء من هنا وهناك.
نتائج الحرب وآثارها المدمرة علي الوطن والمواطن:
نتيجة هذه الحرب العبثية في الواقع كانت مدمرة وكارثية علي الشعب والوطن حيث استنفذت كل المقومات البشرية والاقتصادية وأصابت المواطن البسيط في كل مفاصل حياته اليومية الإنسانية والمعيشة والأمنية. عشرات الآلاف من الضحاية والمعاقين. فقر وجوع ومرض.
وانهيار المؤسسات التعليمية وفي مقدمتها إغلاق الجامعة الوحيدة في البلد ومصادرة او منع التعليم الخاص وشلل تام اصاب جميع المؤسسات الخدمية في الدولة والتي لم يتبقي منها سوي اسمها. ولم تعد بادمي الي السيادة الوطنية ولم يتعافي الاقتصاد المريض بل زاد مرضا علي مرضه. والنتيجة دولة مارقة وخارجة عن القانون الدولي ونظام ملاحق بتهمة الفساد ورعاية الإرهاب وملفات حقوق الإنسان.
وكانت ردة فعل الطاغية علي هذه النتائج المخيبة للآمال الغلو في الطغيان الاستبداد عندما انقلب علي ما يسمي بالشرعية الثورية ورفاق السلاح أعضاء الحكومة المؤقتة وبطش بهم واودعهم السجون والمعتقلات في عملية عرفت ب G15 ليس لسبب سوي لانهم طالبوا بمراجعة أداء الحكومة بعد الحرب وتفعيل مسودة الدستور والاتجاه نحو إقامة دولة المؤسسات القانونية وقد مضي علي اعتقالهم أكثر من عشرين عاما وكغيرهم من آلاف المغيبين ظلما لا يعرف مصيرهم ان كانوا احياء ام اموات.
ومازال تفاقم الأزمة مستمرا الي الأسوأ في الداخل والخارج:
توقفت المدافع علي جبهات القتال وبقيت حالة اللا حرب واللا سلم طاغية علي حياة المواطن اليومية. الحصار الاقتصادي المفروض علي الدولة. واستمرار حملات التجنيد الإجباري وملاحقة الشباب وتضيق الخناق علي حياة المواطنين المعيشية بابتكار ابشع أنواع العقوبات الجماعية بحق الشعب من تجويع وترويع واغلاق البيوت في وجه ساكنيها من النساء والأطفال عقابا علي تخلف او هروب أبنائهم من حملة التجنيد الإجباري.
وأحداث اخري كثيرة سياسية وأمنية مرت تحت الجسر اهمها العملية البطولية للقائد الشهيد البطل سعيد حجاي وما صاحبها من اعتقالات عشوائية شملت كبار المسؤولين عسكريين ومدنيين ثم احداث مدرسة الضياء والوقفة البطولية الشامخة للشيخ الوقور الشهيد البطل موسي محمد نور في تصديه ومقاومته قرار العصابة مصادرة المدرسة. كل هذه الأحداث المزرية اقتصاديا وامنيا جعلت من الدولة كيانا منبوذا من المجتمع الدولي وجسما طاردا لابنائه حتي أصبحت سمة اللجوء ملازمة تلاحق المواطن الارتري وقد سجلت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في السنوات العشرة الماضية ما لم تسجله خلال الثلاث عقود من حرب التحرير.
كانت نتيجتها ان اصبح الشباب الارتري عرضة للموت قتلا برصاص زبانية الحدود وسلعة رائجة يتلقفها سماسرة الاتجار بالبشر في الصحاري والمحيطات وما حادثة (لامبيدوزا) المأساوية ببعيدة عن أذهان المكلومين بفقد أبنائهم. ظل الوضع في الداخل في حالة ترقب واستنفار دائم لما قد يحدث عند بزوغ كل فجر جديد علي جبهات القتال واستمرار تدهور الوضع الاقتصادي للمواطن. بينما السياسة الخارجية للنظام في تخبط دائم وفشل ذريع في خلق وبناء علاقات دولية متوازنة ومستقرة تدعم الاقتصاد الوطني وتتيح الفرص امام الاستثمارات الخارجية بما يمكن أن يعود بالنفع علي الوطن والمواطن.
وفي المقابل نجد أنه قد رهن العديد من المواقع الاستراتيجية علي سواحلنا وجزرنا البحرية كقواعد عسكرية لمن يدفع اكثر لحسابه الخاص. بالإضافة الي عائدات الذهب التي لا يعرف قيمتها السنوية او حساباتها السرية غير رجل الدولة الأوحد. وهكذا ظل منبوذا حتي تم تغيير نظام الحكم في اثيوبيا بخروج الوياني تقراي واستلام ابي احمد مقاليد السلطة الذي سجل في بداية عهده السياسي العديد من الخطوات الإيجابية اكسبته شعبية عارمة في الداخل واحترام وتقدير العديد من الهيئات الدولية التي رشحته لنيل جائزة نوبل للسلام.
واهم هذه الخطوات كانت القبول بقرار المحكمة الدولية واحقية ارتريا قي منطقة بادمي الحدودية واستعداده طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة تقوم علي الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة بين الشعبين. ولم يصدق حبيس (عدي هالو) ما سمعه من اديس اببا وارسل فورا وزير خارجيته ومستشاره السياسي الذين أُسْتُقبِلا من قبل رئيس الوزراء نفسه علي ارض المطار وهنا بدأت تُطبخ سياسة جديدة للتعامل مع اثيوبيا ابي احمد وبدون جبهة تحرير تقراي في مطبخ افورقي والتي اعتبرها طوقا لنجاته وفرصة لخروجه من العزلة من جهة والتخلص من خصومه من جهة اخري.
من جانبه بدأ ابي احمد تدريجيا في أحكام سيطرته علي مقاليد السلطة في اثيوبيا وإبعاد مجموعة الوياني تقراي عن مواقع القرار. بدورها لم تتقبل جبهة تحرير تقراي تنحيتها وإستبعادها عن السلطة وامتيازاتها الضخمة التي جنتها خلال 27 عاما من التحكم علي مقدرات الدولة وحاولت جاهدة مقاومة سياسة ابي احمد بما لها من نفوذ علي المؤسسات الدستورية والبرلمانية والقانونية لكنها قوبلت بالرفض التام والمقاومة الشرسة من الشعب الأثيوبي الذي انحاز بالكامل الي جانب ابي احمد وسياسته الانفتاحية نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي ما اضطر جبهة تحرير تقراي الي الاحتجاج بالانسحاب من مؤسسات الحكم الفيدرالي والاتجاه نحو عاصمة الاقليم مقلي والتهديد من هناك بالضغط عليه عسكريا من خلال سيطرتها الكاملة علي الموسسة العسكرية والأمنية ومقرات المناطق العسكرية لوزارة الدفاع لكن ابي احمد وفي خطوة استباقية سريعة قام بإجراء تغيير كامل علي اصطاف المؤسسة العسكرية والأمنية ولم يتبقي امام جبهة تحرير تقراي سوي الاستيلاء علي ثاني اكبر قاعدة عسكرية للجيش الفيدرالي الأثيوبي والتي تعتبر قاعدة الارتكاز في مواجهة الجيش الارتري المتواجدة في إقليم تقراي. وهي القشة التي قصمت ظهر البعير واُعْتُبِرَت انقلابا وتمردا علي الشرعية واعتبار الجبهة منظمة إرهابية.
وهنا وجد الديكتاتور اسياس افورقي ضالته التي قُدٍمَت له علي طبق من ذهب للانتقام من خصومه التقليديين الذين خرجوا عن طوعه وأشهروا في وجهه السلاح متناسين انه هو من اوصلهم الي سدة الحكم وانه قادر علي ان يعيدهم من حيث أتوا كما يقول لسان حال افورقي. وقد تم التنسيق بين كل من ابي احمد واسياس افورقي لتتفيذ هذه المهمة والقضاء علي جبهة تحرير تقراي كليا.اولا بمحاصرتها سياسيا واقتصاديا ثم إدخالها في وضع كماشة عسكرية والقضاء عليها نهائيا واخراجها من المسرح السياسي.
ولكن لم تكن المهمة سهلة كما تصورها الحلفاء بل كانت تكلفتها باهظة علي الطرفين سياسيا وعسكريا واقتصاديا فقد خصر ابي احمد جائزته للسلام إذ أُعتبر رجل حرب وليس رجل سلام وتمت إدانته وحليفه اسياس من المجتمع الدولي علي اثر الفظائع التي ارتكبت ضد المواطنين الأبرياء وقد استغلت جبهة تقراي الآلة الإعلامية التي تملكها علي وسائل التواصل الاجتماعي لإقناع المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان بأنهم يتعرضون الي حرب إبادة جماعية ونجحوا في حشد الرأي العام العالمي لصالحهم علي الاقل معنويا وسياسيا واتخاذ بعض العقوبات الطفيفة ضد كل من ابي احمد واسياس افورقي التي لم تثنيهم عن هدفهم المعلن وهو تحييد الوياني تقراي وفرض الحكومة الفيدرالية سيطرتها الكاملة علي الإقليم مهما كلف ذلك من تضحيات وكان لهم ذلك.
وكانت بالمقابل التضحيات الضخمة فما هي؟
اثيوبيا: خسائر بشرية فاضحة تمثلت في سقوط آلاف القتلي وتشريد ملايين المواطنين، وأكثر من 2 مليون مواطن تحت خط الفقر، تدمير البنية التحتية في معظم الأقاليم الشمالية تقراي وامحرا، توقف عجلة النمو الاقتصادي وتراجع المعدل الي 2%، استنفاذ مليار دولار من ميزانية الدولة لتغطية نفقات الحرب.
خروج الاستثمارات الأجنبية من البلاد وتفاقم الأوضاع الاقتصادية. تدهور صرف العملة المحلية امام الدولار، تراجع الصادرات المحلية وتجميد المساعدات الدولية تدهور العلاقات مع معظم الدول المانحة.
ارتريا وهذا هو المهم: منذ بدايتها هذه المعركة لم تكن معركة الشعب الارتري إنما كانت معركة الطاغية اسياس افورقي بامتياز. والتي خطط لها بعناية فائقة لإلهاء وصرف المواطن عن مصالحه وحقوقه الوطنية وتحسين أوضاعه المعيشية. واستخدامها درعا واقيا يحتمي به امام المطالبة بتفعيل المؤسسات الدستورية والاستحقاقات الوطنية بحجة الاولوية للدفاع عن السيادة الوطنية اولا. كما واستغلها استغلالا سيئا للتخلص من خصومه ومنافسيه السياسين بالقتل والسجن والتشريد وافراغ الوطن من أبنائه والتربع علي عرش السلطة متدثرا بغطاء الحرب لأكثر من ربع قرن. هذا اقل ما يقال عن هذه الحرب العبثية الملعونة حتي الان وبتوقيع اتفاق السلام او استسلام جبهة تحرير تقراي الأخير هل سقطت ورقة التوت من يد الطاغية افورقي وانكشف ظهره امام المطالبة بالاستحقاقات الوطنية؟ ام يظل السؤال قائما ماذا بعد؟