سياسة الانتقام وصلت إلي هدم المنازل
بقلم الأستاذ: الحسين علي كرار
لم استطع من أين أبدأ في الإنتقام السياسي الممنهج والممارس علي الشعب الارتري، فاضطررت أن استنجد بفقرتين من النيت الأولي
لخلود عبدالله خميس والثانية للبناني نصوح المجالي، فتقول خلود في وسائل الانتقام (للانتقام السياسي وسائل، فقد يكون بالقتل المباشر للخصم بلا تقديم أي مبررات للمجتمع الدولي وهذا عندما تكون الدولة متخلفة وخاضعة لقوانين القبائل والفئات والمافيا العائلية ونظرة للمحيط كفيلة بتوضيح الفكرة، وقد تكون الإغتيالات سرية بالرغم من أن القاتل معروف ولكن لا أحد يجرأ في المجتمع علي توجيه الإتهام إليه حتي لا يلحق بالمقتول، ومن الوسائل التي تذكرها التدمير العائلي واستهداف السمعة والشرف والاضطهاد الوظيفي والحصار الاقتصادي والإقامة الجبرية...الخ).
ويقول نصوح المجالي (ن جريدة الرأي) (بخصوص سجل الانتقام السياسي في لبنان، الإغتيال السياسي وراءه عقلية تؤمن بتصفية الاخر من خلال القتل ولا يمارسها الا من اتخذ قرار بتفتيت الصف الوطني والتضحية بالسلم الاهلي واجبار الخصم علي الركوع والخضوع لمطالبه السياسية سواء بالحوار أو الإرهاب وهذا اشد انواع التسلط والاستبداد في العمل السياسي).
وإذا تتبعنا دساتير ونظم كل الدكتاتوريات تجدها تنص علي العدل والمساواة والحرية والرفاهية وحقوق الإنسان وأن الشعب هو سيد الجميع وأن النصر للجماهير وهكذا شعارات مغناطيسية فارغة بلا مضمون.
والأمثلة عن رؤساء الاستبداد السياسي في أفريقيا كثيرة وأول ما يتبادر إلي الذهن هوالماريشال بوكاسا ريئس جمهورية افريقيا الوسطي حيث كان معجبا بالإمبرطور الفرنسي نابليون، فحولها إلي امبراطورية، وعلق النياشين الذهبية الملكية في صدره، وبدأ ببناء القصور الفخمة التي يحاكي بها قصور نابليون حتي أفلست الدولة وأعلن إسلامه أمام القذافي لأيام محدودة حتي يؤمن الدولارات التي يحتاجها ورزق المجانين علي الهبل كما يقول المثل، وحصل عليه الإنقلاب العسكري، كان بوكاسا ينتقم من المعارضين ولم يتورع حتي أن يأكل لحومهم، وبعد الإنقلاب عليه وجدوا رؤوس خصومه في ثلاجات القصر، وتشارلز تايلور رئيس ليبيريا حيث كان يقدم معارضيه وجبة للأسود وهم أحياء، وهيلي سلاسي الذي أحرق القري الارترية ليستحوذ علي الأرض دون البشر، ووريثه وربيب قصره منغستو هيلي ماريام الذي كسر الزجاجة المملوءة بالدم أمام الشعب في ميدان بأديس أبابا لترهيب المعارضين والثوار وفي مقدمتهم الثورة الارترية، وأخيرا أفرقي الذي حوّل أرتريا بالانتقام إلي هذا الخراب، حتي جعلها من بداية إستقلالها تحمل في طياتها عناصر الفناء وليس عناصرالبقاء.
ونحن عندما نبحث عن الإنتقام بهدم المنازل لا بد أن نتطرق إلي الإتنقامات السابقة التي كان المعارضون والأبرياء ضحاياها، فعندما تمكن أفورقي من قوات التحرير الشعبية بدأ إنتقامه السياسي بالتدريج وعلي مراحل حيث بدأه أولا بالشخصية السياسية البارزة في الساحة الأرترية وهو الزعيم عثمان صالح سبي أحد أعمدت النضال، وصاحب التوجه العربي الإسلامي الذي لم يطيقه أفورقي فثار عليه ثم صب جام غضبه الإنتقامي في مؤتمره عام 1976 علي اللغة العربية التي كان يكنّ لها الكراهية، فعندما كان عضوا في القيادة العامة قبل الإنشقاقات حكي بعض أعضائها كان يحتج ان يكون تدريب الجنود باللغة العربية فاستبدلها بلغة التجرنية.
وهنا لابد أن نتوقف قليلا علي تلك الفترة إذ كانت القيادة العامة والمجلس الثوري وقبلهم القيادة الثورية وحتي قوات التحرير الشعبية فيما بعد هم من عوّّدوا هؤلاء بالدلال والدلع في النضال، وفي تلك الفترة العصيبة والتي كانت فيها الثورة في عنق الزجاجة كانوا يعطون الجندي المسلم خمسة قروش سوداني في اليوم للمصاريف، بينما كان الواحد منهم يأخذ يوميا خمسة وعشرون قرشا لجذبه للنضال، كذلك إستثنوهم في الحروب الأهلية خشية منهم ألا يتحول الصراع معهم إلي طائفي، ولكن هؤلاء افتعلوا الطائفية بعد أن تمكوا، وأصبحوا يبكون ويندبون لإغتيال شخصين منهم في كسلا واعتبروه استهدافا طائفيا، وانتقموا بعد التحرير انتقاما لهما من الكثير من قيادات الجبهة لتلك الفترة والتي عادت إلي ارتريا بعد التحرير، وعلي سبيل المثال (عثمان داير) الذي اختطفوه من الفندق، وفي تلك الفترة التي بنيت فيها الثورة بخليط من الدماء والدموع لم يتحملوا ذلك فكانوا يسلمون أنفسهم الي القنصلية الأثيوبية في مدينة كسلا يوميا بمجموعات ويهربون من جيش التحرير بأعداد كبيرة إلي مدينة تسني وفي اليوم التالي كانوا يصبحون في اسمرا يحملون معهم أسرار الثورة ووثائقها، وقد يتسائل البعض لماذا هذه الإثارات العصبية الماضية؟ ولكن هم من يثيرون عصبيات الماضي بالقول والفعل، ونذكّرهنا أن أحد المسلمين سلم نفسه للقنصلية الأثيوبية في كسلا وهو شخص معروف ومن أسرة معروفة، وكانت القنصلية تريد تسفيره الي ارتريا، ولكن أحد الفدائين من عائلته قتله بالخنجر وهو في حماية الشرطة السودانية في وسط مدينة كسلا، ما ذا تتصور لو كان هذا الشخص مسيحيا ؟ ومع هذا يكنون الإنتقام ويعتقدون كانوا هم المستهدفين، فدماء هؤلاء لم تكن الرخيصة، ودمائهم لم تكن الغالية، فهذا تأريخ يجب أن يعرفه الجميع ويتم الحكم عليه بعد ذلك، وقد تكون هناك أخطاء ولكن أكثرضحايا الأخطاء كانوا من المسلمين.
ثم جاء دورالإنتقام بالإغتيالات السياسية بدأوها بالمناضل هيلي قرزا مسئول الإغاثة في الجبهة بالخرطوم والذي كان علي معرفة بالمنظمات الدولية الإغاثية فأزاحوه عن طريقهم، و بعد ذلك اغتالوا القائدعثمان عجيب رئيس اللجنة الثورية الذي رأوا فيه فكر العروبة الذي يخشون خطورته، ثم توالت التصفيات الجسدية في السودان وفي الميدان هدفت القيادات الميدانية العسكرية القوية التي رأوا أنها تشكل الخطورة علي مستقبلهم واستمرت التصفية بتصفية الجبهة مع التجراي حتي أفقدوا الساحة توازنها وأصبحت تسير بهذه الأجنحة المكسورة ثم تحول الدور داخلهم لتوحيد الصفوف، فقاموا بتصفية من سموهم بالمنقع وهم كوادر مثقفة في أغلبها من اقليم أكلي قوزاي، لتحتكر السلطة هذه الفئة المسلطة علي الرقاب.
وبعد الإستقلال بدأ الإنتقام بتصفية جناحي الجبهة واللجنة الثورية الذين آثروا العمل السياسي المعارض من الداخل بعد التحرير، ثم ألحقوا بهم رجال الدين الإسلامي ومعلمين المعاهد الدينية، والمثقفين والصحفيين والكتاب والمفكرين وتم خطف الكثيرين من المجهولين الذين يقبعون في السجون، كل هذه الحروب والتصفيات الإنتقامية كانت تستهدف إضعاف المسلمين وليس غيرهم إلا في حساباتهم الخاصة فيما بينهم.
وبعد حرب بادمي تمت تصفية من يمسون ب مجموعة (15)وهم من القيادات العليا في التنظيم.
ثم جاءت حركة 21 فبراير من داخل النظام فقتل من قتل ووضع في السجون من وضع بعد أن تعرضت للخيانة، وتضم معظم القيادات الفاعلة من المسلمين داخل ما يسمي بمجموعة الحكم، وهي الحركة الفعلية الوحيدة التي إستخدمت العنف لتغيير النظام الطائفي من الداخل بالقوة.
وكان الإنتقام الأشد تأثيرا علي الشعب هو مبدأ العبودية والإجبار الكامل للمجتمع بالسخرة لمدي الحياة والعمل دون مقابل في انشاء الحفريات والطرق وعمل المرافق العامة ومساكن القيادات العليا عندهم، وبالرغم لم تظهر أي نتائج فعلية تعتبركمنجزات لهذا العبث يفتخر بها النظام، إستمروا في إذلال الشعب.
ونتج عن هذه الممارسات والتراكمات الإنتقامية هروب الأعداد الكبيرة من قياداتهم وهروب الشباب الجماعي خلال السنين الماضية والذي نتج عنه إفراغا كاملا لقوي العمل والطبقة المتوسطة من البلاد.
وبهذه التصفيات والإنتقامات إنهار ما كان يسمي شكليا حزبا وانهار ما كان يسمي شكليا الوزراء وانهارت كافة أعمدت الدولة تحت الإفلاس وحصل الإنهيار الكامل في المجتمع الذي قسم من باب تعزيز الحكم إلي قوميات، فتحولت هذه إلي بعبع يقتلع ركائزالنظام ويدمر الدولة.
إن هدم المنازل مرتبط بعقيدة الإنتقام للنظام، وهو أيضا مرتبط ارتباطا وثيقا بعاملين انتقاميين أخريين هما تغيير العملة ومصادرة أموال المواطنين وجعلها في البنوك حتي يكون التصرف فيها تحت الأعين وتكون حركتها تحت رقابة أفورقي شخصيا وبامكنه التصرف فيها.
والسؤال هو لماذا عمد النظام علي هدم المنازل وبهذا الإنتقام الإستبدادي الجديد في فكره وممارساته وهي كظاهرة غير معهودة في انظمة البطش وبهذا الشكل إلا عند الإسرائيليين؟
السبب الأساسي يعود للإفلاس الفكري والسياسي والنفسي والأخلاقي والمادي والإقتصادي والإجتماعي وهو نتاج لممارسات العوامل السابق ذكرها والتي كانت نتائجها إفلاس الدولة وإنهيارها.
وإذا تم التدقيق في سياسة هدم المنازل تجدهم قد سلكوا في الهدم مسلكين، المسلك الأول هو الهدف الأساسي والمبيّت والمبني علي سياستهم، وهو إفراغ مناطق معينة من سكانها وهي مناطق المسلمين واستبدالها بالتجرنية بعد أن دمروا الأحياء الإسلامية في المدن ودمروا القري المسلمة في مناطق خصوبة الأرض من أجل تجرنة الدولة، كما هو مشاهد حاليا في منطقة جندع وجبال قدم، والمسلك الأخر في الهدم كان الانتقام الشامل من الجميع و الذي تأذي منه أكثر أعوانهم بالدرجة الأولي ومن صفقوا لهم وارتبطوا بهم عضويا، فأفورقي عندما حسّ بأن هؤلاء عندما وصلوا بغياهم خانوه وتركوه في العراء فجعل اللعبة معهم كلمة (شت) أنتم فعلت كذا وسترون ماذا سأفعل بكم؟
ومن المعلوم في تطور أي دولة أن تكون هناك تنمية اقتصادية في كافة مرافق الدولة ومشاريعها تستوعب العاطلين عن العمل والخريجين والباحثين عن الأمل والحياة الجديدة من الشباب، وهذه تتطلب أن تتوفرلها شروط معينة كمصادر للتمويل للنهوض بالتنمية، منها مصادر الإنتاج والتصدير والسماح لرأسالمال الوطني بالإستثمار وجذب الإستثمار الأجنبي للقيام بمشروعات التنمية الكبري التي لا تقوي الدولة القيام بها، بالإضافة إلي ذلك علي الدولة أن تضخ عائدات الأموال في السوق لتنشيط حركة الطلب والعرض ولتسيير حياة العمل ومعاش الناس لتصبح أنشطة التنمية طبيعية، كل ذلك تم إغلاقه وتم سده في وجه الداخل والخارج، فشحت الإيرادات فأصبح العبئ الكبير يتحمله الأفراد سواء بفرض النسب المئوية أوالغرامات أوالمصادرات أوبتبرعات الإكراه دون مقابل وغيره من الممارسات التعسفية، ولكن هذا البطش لم يكن بمقدوره تغطية العجز والمحافظة علي نفقات الضرورة بالنسبة لهم، لأنهم لم يملكوا أساسا فكرا و تصورا للمالية العامة للدولة، فلا موازنة ولا ميزانية ولا ميزان تجاري و لا ميزان مدفوعات ولا مراجع عام، فأصبحت ميزانية الدولة علي البلاط، وخزينتها أنظف من قزاز المرايا التي يكتشف فيها الإنسان عن عيوبه.
ولهذه الأسباب كان الإرتباط وثيقا مع قوي التهريب والمهربين التي كانت تدر بعض العائدات وقد جفت هذه لعوامل كثيرة، وكان المأمول الأكبر من الهاربين أن يضخوا بتحويلاتهم إلي البنوك وينعشوا هذا الإقتصاد الذي يعتمد علي دخول الأفراد والغرامات وأن الهاربين كانوا من عمق النظام والمؤمنين بنهجه وفكره وخاصة الهاربين من العاصمة أسمرا الذين كانوا يدفعون بالدولارات الطائلة للمهربين وبعلم النظام، وكان أمل ألنظام معقودا عليهم وخاصة الهاربين إلي اسرائيل لأنه كان يتوقع مليارات عائداتهم في البنوك التي ستحل مشاكل العملة الصعبة التي يعاني منها، وبما أن أساس النظام عدمي قائم علي مقولة أفدني ولا ترجو مني الإفادة، انتعش السوق الأسود الموازي فتحطمت آماله وفقد كل آماله وأحلامه بعد أن هجره أبنائه الذين كان يتوقع منهم العائد، فبنشوء هذه البنوك السرية في السوق الأسود في الداخل والخارج أفلس البنك المركزي وأفلست بقية البنوك التي أصبحت حركة الأموال خارجها، ولم تستطيع أن تغطي المعاشات القليلة للموظفين، وقاموا يبحثون في اسمرا عن هؤلاء التجار ولم يتركوا في التفتيش حتي الملابس المعروضة للبيع في المحلات عسي يجدون قصاصة صغيرة في أحد جيوب المعروضات.
وشاهد أفورقي حركة العمران تنتعش في المدن الأرتيرية وخاصة في مناطق التجرنية، سواء من المغتربين أو غيرهم من تجار الشنط من الذين ذهبوا إلي اسرائيل والولاياة المتحدة وهو يعلم أن هذه الأموال التي تبني وتعمر لم تمرتحويلاتها ببنوكه، فبدأ الإنتقام ولم يجد اسلوبا أفضل من اسلوب هدم المنازل المبنية، وجاء بإنتقام كلمة (شت) أنتم فعلتم كذا، فأنظروا ماذا فعلت بكم، وعم بهذا الانتقام الجميع وزاد ما كان من خرابه بخراب أخر أسوء منه، وهكذا تجد الإنتقام مستمر، وهكذا الإبداع في الإنتقام مستمر، وكلما نفدت أوراق الإنتقام تم ابتكار أوراق جديدة لا يتوقعها العقل، وسيستمرهذا الإنتقام ما دام هذا النظام بفكره الطائفي الإستبدادي المتخلف مستمر، وسيطوّر كذلك أصحاب السوق الأسود اسلوبهم، ويكون النظام الرابح المؤقت والخاسر الدائم، والسؤال أين ومتي وفيماذا سيكون الإنتقام القادم؟.