قراءة في لقاء أسياس من رؤية علم النفس السياسي

بقلم الأستاذ: محمد نور صالح كراني - نائب رئيس الحزب الوطن الديمقراطي الارتري ومسؤول العلاقات الخارجية  المصدر: حزب الوطن الديمقراطي الارتري

تاريخياً وٌضع الشعب الاريتري أمام خيارات وضعت له من قبل الآخرين في أربعينات القرن الماضي،

التقسيم، الانضمام وتيغراي تيغرنية، لكن الشعب الارتري كان له خياره ورؤيته الوطنية الخاصة التي فرضها على الجميع عبر وسائل عدة بدءً من العمل السياسي السلمي، ثم حركة التحرير عبر الثورة الانقلابية، وعندما لم تحقق تلك الوسائل أهدافه فجر ثورة الفاتح من سبتمبر ببنادق صدئه معدودة، ولكنها كانت كافية ليفرض خياره وإرادته على الجميع من خلال الواقع السياسي والميداني.

وها نحن اليوم وكأن الزمن يعود بنا للخلف ليكرر التاريخ نفسه ويضع الشعب الارتري أمام نفس الخيارات تقريباً، إما القبول بالديكتاتور العجوز، أو خيارات الأعلام الارترية التي ترفرف بجانب العلم الأثيوبي في المظاهرات في الدول الغربية كظاهرة وكأنها تبدي الحنين لأيام حزب الوحدة، أو خيار تجراي الكبرى وغيرها من أضغاث أحلام.

لكنه ليس مجبرا على كل ذلك، فهو ناضل من اجل بناء وطن حر تتعايش فيه كل مكوناته، وطن المواطنة والمؤسسات والقانون، وكما يقول الفيلسوف جان جاك روسو في إجابته عن الوطن، عندما سئل ما هو الوطن، فأجاب ليس الوطن أرضا فقط، ولكنه الأرض والحق معا وبالتالي السيادة فيه للشعب وهو صاحب القرار وحامي الوحدة والسيادة الوطنية، وليس اسياس كما يريد أن يصور لنا البعض ذلك.

وهذا الخيار الوطني الذي يمثل نبض الشارع الارتري بمختلف ألوان طيفه، وعبرت عنه مكونات عدة سياسية ومنظمات مدنية وشبابية ونخب مستقلة، لكنه مع الأسف لم يستطيع أن يبلور نفسه كتيار وفئة مدركة تضع خيارات الوطن وإرادة الشعب في مسارها الوطني الصحيح.

يعتبر علم النفس السياسي من أهم المباحث المعاصرة التي لها أهمية لفهم القرارات السياسية وتفاعل الجماهير والأفراد مع هذه القرارات في جوانبها النفسية والتأثيرات النفسية على قرارات القادة.

وأن علم النفس السياسي هو علم يطبق مفاهيم ودراسة علم النفس في دراسة الحالة السياسية لكل المتفاعلين مع المجال السياسي والقرارات السياسية، آليات اتخاذها والعلاقة بين مواقف الأفراد والجماعات وسلوك كل منهما اتجاه الفعل السياسي والقرارات المتخذة حوله.

هو أيضا علم له أهمية لفهم الظاهرة السياسية عبر تطبيقات المعرفة النفسية، ويمكن القول بأنه الحالة التي يستخدم فيها العلماء علم النفس كمرآة لفهم العملية السياسية وعلم النفس لفهم القرار السياسي، لأن علم النفس السياسي كحقل معرفي يستفيد من المنجزات المعرفية التي تحققت في علم النفس على المستوى الفردي والجماعي، لفهم السلوك السياسي لكل منهما.

وهو أيضا علم يدرس السيرة الذاتية للأفراد بالذات في المستويات القيادية لفهم العوامل، والأبعاد والدوافع النفسية التي ينطلقون منها عندما يتخذون القرارات السياسية، وبدون معرفة هذه السيرة والتنشئة والثقافة السياسية، والنظم، والأحزاب والأيديولوجيات والتي لها دور مؤثر في السلوك السياسي للأفراد وبالذات القادة فلا يمكن الفهم والتحليل للقرار السياسي الذي اتخذ فهما صحيحا ودقيقا دونه، لان هذا الفهم يتأتى عبر دراسة الأبعاد الشخصية والنفسية لمتخذ القرار.

لهذا يهتم علم النفس السياسي بشكل خاص بأنماط الشخصيات القيادية، حيث تنعكس هذه الأنماط الشخصية في الفعل السياسي الذي تتخذه هذه الشخصية المحورية صاحبة القرار من حيث التخطيط والتنفيذ، لذا عندما نحلل نمط هذه الشخصية يمكن لنا معرفة الكيفية التي استجابت أو تستجيب بها هذه الشخصية عندما تتخذ القرار وانعكاس ذلك على الجماهير والأتباع.

تهيئة المسرح الجماهيري قبل اللقاء:

رأينا كيف تم ترتيب المسرح من الناحية النفسية ليصور لنا الزعيم الملهم قاهر الأعداء وحامي حمى الوطن وإرادته المستقلة من كيد الأعداء كأمريكا وعملائها، حيث عجت وسائل التواصل الاجتماعي، بحملة موجهة لتحريض الجماهير نفسيا للخيارات التي يريد نظام اسياس توجيه الجمهور إليها عبر الهندسة الذهنية بمختلف الوسائل، مثل الأغاني الوطنية، الشباب والشابات الموشحين بالعلم الارتري، وصور ومقاطع فيديو مختارة بعناية التي تظهر لنا اسياس بأناقة وكرجل دولة.

وشخصية قيادية ملهمة ولها كاريزما عالية، وفي مراحل تاريخية حرجة يمر بها الوطن، لا يمكن له أن يستغنى عن الدور المحوري لأسياس، بحيث استهدفت التعبئة إقناع الجماهير بالأهداف والأحلام التي يريد القائد تحقيقها وتم تصوير هذه الأحلام والتطلعات هي أحلامها وتطلعاتها وهو تجاوب معها، لذلك هو قائدها الأسطوري، وبهذه العوامل وغيرها يحاول اسياس ومخابراته تعبئة وتحريض الشعب الارتري، حيث وصلنا لمرحلة نندهش فيها لفهم وتحليل مواقف بعض الأفراد والكيانات، لكن الفيلسوف الفرنسي لبون عبر نظريته سيكولوجية الجماهير يفسر لنا ذلك.

حيث يقول لبون في نظريته روح الجماهير أو نفسية الجمهور، بأن التجربة أثبتت أن الفرد وسط الحشد الجماهيري الموجه يفقد خصائصه الفردية المميزة ويتأثر بروح الجمهور ونفسيته وليس بالضرورة هذا الحشد بأن يكون متواجداً في مكانا معينا، بل التوجه النفسي أيضا يكسبه روح الجمهور حسب لبون، وأن ذكاء هذه الجماهير الموجهة نفسيا أقل مستوى من ذكاء الفرد، وأنها في الغالب تتحرك عبر العواطف ونتيجة لمحرضات، ولا تعمل حساباً لعواقب تصرفاتها وسلوكها الجمعي، لذا الفرد وسط مثل هذا الجمهور يكتسب كل تلك الخصائص، وإذا أردنا فهم تصرفاته وسلوكه لابد من استيعاب سلوك الجمهور ونفسيته، وهذا الأمر يتم من خلال دراسة علم النفس السياسي إذ أن التحليل السياسي وحده لا يعطي تفسيراً للظاهرة والحدث.

من أنماط الشخصية القيادية النمط النرجسي، حيث نجد صاحب هذه الشخصية يرى لنفسه العظمة والأهمية وقدرات هائلة، وتضخيم الذات حيث تكون هي نقطة التمركز، وتطغى الأنانية المفرطة والفوقية والنظرة الدونية وتسفيه الرأي الأخر والأتباع، لفهم قرارات هذه الشخصية السياسية لا يكفي التحليل السياسي وحده، بل لابد من استخدام علم النفس السياسي، لأن من طبيعة الشخصية النرجسية المبالغة في قيمة المواهب والقدرات والإنجازات والمكانة الشخصية، لذا يتطلب مقدرات خاصة للتعامل معه وفهم قراراته، لأنه في الغالب يكون مصاب بجنون العظمة.

ومعالم الشخصية النرجسية لأسياس ليس خفيا على الجماهير الارترية، لذا يجب أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار لفهم قراراته وتحليلها وفق هذه المعطيات، لأن في ظني اسياس ليس فقط ديكتاتوراً، بل شخصية تتنازعها الكثير من التعقيدات النفسية المتراكمة على مدى زمن طويل منذ الطفولة.

ولأنه في الأنظمة الدكتاتورية القرارات والسياسات فردية، بالتالي هي انعكاس لشخصية القائد ولبروفايل سيرته الذاتية ونمط شخصيته النرجسية وطموحه الشخصي، ولكل ذلك تأثيره المباشر على القرارات وأسلوب الحكم والتصرف في السلطات، لذا بأن مصير المجتمع في الحرب والسلم الأهلي مرهون بنمط وشخصية هذا القائد ولهذا السبب كل الأمور ممكنة ومتوقعة لأنها مرهونة بنفسيته وتأثير سلوكه وتفاعله مع الأحداث عند اتخاذ القرار وهذا ما نراه في واقعنا الإرتري.

معظم السياسات وقرار الحرب والسلم هو انعكاس لنفسية اسياس وعقده النفسية وخصوماته وتنافسه الشخصي مع الأقران، ليس فيه أي مصلحة للوطن والشعب، وكما يقول أبو القاسم حاج حمد: ”ارتريا بالنسبة لأسياس لوحة فنية خاصة لا يريد أن يشاركه فيها أحد” أنانية مفرطة ولكن من أعطاه هذا الحق؟ ارتريا فعلا لوحة فنية جميلة شوهها اسياس بعقده النفسية.

وفي قراءة لمقابلة اسياس الأخيرة،هذا ثاني لقاء له خلال عامين يحدثنا فيه اسياس عن تلك الفقرة الملعونة المادة (39) في الدستور الأثيوبي التي هدت كيان إثيوبيا، حسب قناعة الزعيم الملهم وكيف أنه قرأ بحرص شديد هذا الدستور أربع مرات، هذا الحديث يعطينا مؤشر لنفهم طبيعة الشخصية النرجسية الطاغية فيه، حتى يرسخ لدي الجمهور، عظمة هذه الشخصية وكيف أنها تستشار من قبل الآخرين لأهميتها ومكانتها ودورها في المنطقة، في إشارة واضحة لتضخيم الذات وعظمتها، وإلا لما كرر علينا هذا الأمر الذي قاله في العام الماضي، حيث قال في هذه المقابلة بأن هذه الاستشارة هي فخر له وتعطيه مكانة، وفي المقابل لو حللنا هذا الحديث من الناحية النفسية بالرسائل الموجهة منه للشعب الارتري، وهي إذا كنت اقرأ الأمور التي تخص دول الجوار أربع مرات إذاً بالضرورة قضايا الوطن انظر إليها بعناية وحرص كبيرين.

وأيضا نرى آثار ونمط هذه الشخصية عند تحليله أوضاع المنطقة، وهو نفس التحليل كالعام الماضي لا تفرق في شيء، الصومال الممزق، السودان الذي يقاد من قبل الفاسدين، وكيف أنه ناقش هذه المسألة مع د. الترابي، في إشارة نفسية أخرى لإبراز مكانة ودور هذه الشخصية النرجسية وموقعها بين الكبار، و التي تقلل من شأن الآخر وفي المقابل ابراز الذات مقارنة به، وهى رسائل موجهة أيضا للجمهور النفسي الذي هُيّئ في المسرح عبر الهندسة الذهنية ليستقبل هذه الرسائل من الزعيم الأسطوري العارف بخبايا الأمور، وبالتالي لا يحاسب في قضايا الوطن لأنه من باب الأولى له الدراية بها.

لهذا نرى الانعكاس السلبي والخطير المباشر لسلوك هذه الشخصية على مستوى الوطن، حيث نجد الشعب منقسم بين مؤيد مخدوع بنظام أو صاحب مصلحة مع النظام، ومعارض يستخدم كل الوسائل للتخلص منه، وبالتالي تحدث أزمة ثقة بين مكونات المجتمع المختلفة وتظهر الصراعات على أسس الهوية والأفكار والمعتقدات، مما يترك أثار في الذاكرة الجمعية وفي بعض الأحيان يصعب معالجتها، وتكلف المجتمعات الزمن والثمن حتى تتخلص منها وتحقق السلم المجتمعي، وتعبر إلى مرحلة الديمقراطية والاستقرار ودولة المواطنة، يقول المفكر المغربي محمد أركون ”إن العصبيات تقيم دولا ولكنها لا تستطيع بناء أوطان لذا كل هذه الإشكالات التي تواجه الأوطان، هي نتاج لتراكمات من السلوك غير سوي من القادة المستبدين لقرون وعقود، وكما يقول ابن خلدون الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وأن الإنسان إذا ما طال به التهميش يصبح كالبهيمة لا يهمه سوى الأكل والشرب والغريزة وبالذات في ظل الأنظمة القمعية المستبدة التي تعمل بشكل ممنهج وعبر كل الوسائل الممكنة في تنشئة الشعوب على ثقافة الاستعباد والتبعية، حيث تعتبر هذه الشعوب هي ملك لهذه الحكومات وليس العكس، الدولة هي السيد وهي الشرعية والقانون، تحتكر كل شيء، الثروة والسلطة، والتاريخ وتفسيره والحاضر وتصويره والمستقبل والتخطيط له بما يحقق مصالحها ويعزز سلطاتها، بل بما يشبع غرائز الديكتاتور وطموحاته.

وبالتالي كل الأنظمة الديكتاتورية بغض النظر عن الوسيلة التي وصلت بها إلى السلطة، فإنها لا يمكن أن تحقق سلماً واستقراراً سياسياً، ولا تحقق الصالح العام على المدى الطويل، حتى وإن كان البعض منها حقق أمن ظاهري وازدهار اقتصادي مؤقت، لكن كل ذلك يكون على حساب حقوق الإنسان ومستحقات المواطنة والحريات العامة، وهذا الكبت والظلم إذا ما تراكم مع الوقت يكون دافعا لتفجير الأوضاع ليؤثر في كل كيان الوطن.

لأنه في الأساس الشرعية مفقودة والعقد الاجتماعي ومؤسساته الدستورية غير موجودة، والمرحلة الانتقالية بعد زوال مثل هذه الشخصيات النرجسية هي أخطر المراحل، لفقدان هذه المؤسسات الوطنية،وغلبة العاطفة ومشاعر اللاوعي لدى عامة الجمهور على حساب المنطق والعقل والحكمة.

ومن أنماط الشخصية الظاهرة في الفعل والقرار السياسي، نمط الشخصية الاستبدادية، وهو سلوك نفسي تميل إليه بعض الشخصيات القيادية نتيجة لعوامل وتأثيرات التركيبة النفسية وبالتالي يتأثر به القرار السياسي بشكل مباشر، حيث يكون سلوك هذا القائد في كل تعاملاته ومواقفه استبدادية، بل في بعض الأحيان تصل إلى مرحلة السادية، والتي يعرفها العلماء باختصار باللذة بإيقاع الألم على الآخرين سواء كان لفظيًا أو جسديًا، فالشخص السادي هو شخص متسلط، عديم الرحمة، عديم المسامحة لمن أخطأ بحقه بقصد أو دون قصد، يسعى بكل الطرق لتحقير وإهانة وإذلال الآخرين، وسحق آدميتهم، ويتلذذ بذلك، ولا يشعر بالذنب عند ارتكابه الأخطاء أبدًا، ويتصف بعدم الثقة بمن حوله، والشك الدائم بالآخرين، وعقاب من ينتقده.

وهذه الصفات كلها خبرها الشعب الارتري على مدى الطويل لمسيرة وتاريخ اسياس، منذ التحاقه بالثورة، وكيف غدر بعدد من القيادات والرفاق لمجرد الشك بأن لهم إمكانات لمنافسته أو مخالفته في الرأي،لذا رأينا كيف تخلص من المجموعة التي كانت تعرف “بمنكع” داخل التنظيم ثم مجموعة الـ15 بعد الاستقلال، بل رفضه إعادة جثامين البعض من القيادات التي اختلف معها من التنظيم وهم كانوا من الأتباع الخلص، لذا لا ينتظر أي خير أو مستقبل للوطن مع اسياس.

وسمعنا في لقاءات عدة لعدد من شهادات المناضلين السابقين في الجبهة الشعبية كيف كان اسياس يضرب ويعذب بعض من القيادات وليس جنود عاديين، وكل الجرائم من الاختفاء القسري والتعذيب في السجون وتهجير الشباب، ورفض إعادة اللاجئين، كل هذه المعاناة لا يتحدث عنها اسياس في مقابلاته الطويلة والمملة، حتى مأساة لامبيدوزا التي نكست لها أعلام أوروبا، أسياس وإعلامه قالوا عنهم بأنهم مهاجرون من أفريقيا، في حالة من السادية والتلذذ بالألم الذي يعاني منه الشعب، مما جعل الشباب الارتري يفضل الهجرة والتعرض لمخاطر الموت عطشا في الصحراء أو غرقا في البحار بدل العيش في وطن يحكمه اسياس بعقده النفسية وجنون عظمته.

الزعيم الملهم المستبد لا يتحدث عن هذه المآسي في كل لقاءاته، بل يستمتع بها في حالة نفسية مرضية، مسترخٍ في جلسته وأجوبته الطويلة والمملة التي تتحدث عن التاريخ وتحليل أوضاع الآخرين، مغيب تماما عن الواقع نفسيا وبعيدا عن الوطن ومآسيه.

وعندما يتحدث عن الإخفاقات يتحدث بصيغة الجمع، لم نستطيع تعبيد الطرقات، بناء المطارات، وحتى السمك لم نستطيع الاستفادة منه حتى بنسبة عشرة في المائة، لِمَ لم نستطع الاستفادة من ثروتنا السمكية أيها الزعيم الملهم؟ ببساطة لأن أهل السمك والبحر في مصوع وعصب هجّرتهم، وأبرز مثال على ذلك المناضل الشهيد الكابتن أحمد شيخ فرس بالرغم من نضاله وعطائه الوطني وعمره حيث عاد إلى الوطن ليسهم في بنائه كما ساهم في نضاله التحرري، وأسس مشروعاَ لصيد الأسماك فماذا فعلت له؟ أودعته السجن، فقط لأنه من الشخصيات الوطنية التي تعرف تأريخك وتستطيع أن تقول لك لا، وشخصيتك النرجسية المستبدة لا تقبل ذلك.

لو كان هناك صحافة حرة لطرحت عليه كل تلك الأسئلة، لقيل له من يتحمل المسؤولية؟ ولِمَ أنت باق لثلاثة عقود في الحكم بعد كل هذا الفشل؟ لماذا تحملنا مسؤولية فشلك “لم نستطيع” وأنت تقرر لوحدك؟ وكما يقول المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي” لا يوجد شيء اسمه بلد فقير، يوجد فقط نظام فاشل في إدارة موارد الدولة” ولا أدري لم شخصان لإجراء هذا اللقاء، إلا لإظهار العظمة وإشباع الرغبات، ويقول لنا لم نفعل هذا وذاك ليحمّل الآخرين مسؤولية الفشل، لأنه يرى في نفسه الكمال.

أما الفشل فسببه نحن لأننا لم نطع كما يجب! لذا مطلوب من الشعب مزيد من التضحيات، مطلوب منه بأن يعض على أسنانه ويخوض غمار الحروب، تماماً كما كان يقول هتلر: سيصير السيف أداة الحرث، ومن دموع الحرب سينبت الخبز للأجيال القادمة!

تحدث في اللقاء عن مشكلات الشعب السوداني، عن المنتج الواحد والعشرين سماراً، ونحن بدورنا نسأل الزعيم الملهم كم منتج في ارتريا الآن؟!

تحدث فرويد في نظريته لتحليل الشخصية، عن الدوافع اللاشعورية لسلوك، والتي استفاد منها علم النفس السياسي، حيث القرار السياسي الذي يتخذه الفرد الموجود في المواقع القيادية يتم من خلال تفاعل الأنظمة الشخصية الثلاثة التي ذكرها فرويد في أبحاثه في تحليل الشخصية وهي الهو، الأنا العليا، والأنا. الهو التي تمثل اللاوعي وهى مخزون الرغبات والغرائز اللاواعية والدوافع المكبوتة، والأنا العليا التي تمثل القيم والضمير والمحاكمة الأخلاقية الداخلية، والأنا الواعية، يعتبر فرويد الأنا هي التي توازن بين الهو والأنا الأعلى، أما إذا تغلب الهو أو الأنا الأعلى على الشخصية أدى ذلك إلى اضطراب الشخصية، ولهذا نجد عدم التوازن والاتزان في لقاءات اسياس، بحيث أن الاتزان الانفعالي يساعد القائد أن يتقبل النقد بلا ثورة أو غضب وأن يكون واسع الصدر للمعارضة ميالا إلى التفاهم معها، وعكس ذلك هو ما نشاهده في لقاءات اسياس، حيث نجد الشخصية السادية المستبدة هي المستحوذة عليه كأن المتغلب على شخصيته هو الهو، التي تمثل اللاوعي وهى مخزون الرغبات والغرائز اللاواعية والدوافع المكبوتة.

قبل أن تحدثنا عن السودان حدثنا عن ارتريا! وقبل أن تتفاخر عن عبقرتيك بخصوص الدستور الأثيوبي، حدثنا لمَ تحكم ارتريا لثلاثة عقود بحكومة مؤقتة وبلا دستور ولا قانون؟!

هنا لا أريد الحديث عن الجدل التاريخي حول اللغة الوطنية في ارتريا، حديثي سوف يركز في الجانب النفسي، كيف تقبل المواطن الذي لا يجيد التيغرنية هذا الخطاب من الناحية النفسية، ما هي الرسالة التي وصلته وهو يبحث عن ترجمات للقاء في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الخطاب السياسي للغة أهمية قصوى، هي من العوامل المباشرة المؤثرة ليس فقط اللغة، بل العبارات والكلمات وأسلوب الخطاب الموجه، حيث يتم عبر كل ذلك تهييج الجماهير أو تهدئتها، بحيث يكون العقل عاجزاً للوقوف أمامها، لان هذه العبارات والكلمات تخاطب عاطفة الجمهور وليس عقله، وخطورة هذه الكلمات تكمن بحسب فهم لوبون بأنها تختلف في معانيها ومضامينها من شعب إلى شعب آخر ومن عصر لعصر، فما بالك إذا اختلفت اللغة. بحيث أن عبارة أو كلمة ما يكون لها معنى ورمزية ايجابيه في الذاكرة التاريخية أو الثقافية لشعب ما وبالتالي تؤثر فيه بشكل إيجابي، وفي المقابل قد تحمل معان وذكريات سلبية لدى شعب أو جمهور أخر وعصر مختلف، وبالتالي يكون تأثيرها سلبي، لذا يوجه لوبون القادة السياسيين بأن يكونوا حذرين عند استخدام هذه الكلمات والعبارات أثناء مخاطبة الجمهور، ويشير إلى أن التلاعب بالكلمات وحسن الاختيار لها يؤثر بشكل مباشر على جموع الجماهير، وبالذات لو كانت أفكار طارئة وعابرة بحيث تكون أكثر هيمنة وثباتا، لأنها تخاطب العاطفة واللاوعي، فلمَ لم يتحدث اسياس ولا مرة واحدة في لقاءاته الموجه للشعب باللغة العربية؟ أو في اقل تقدير لمَ لم تكن هناك ترجمة مباشرة؟ وما هي الانعكاسات النفسية والسياسية السلبية التي ترتبت على جزء من المواطنين الذين لا يجيدون لغة الخطاب تلك، هل راعى الزعيم الأسطوري هذا الأمر وهو يستدل لنا في لقائه في أكثر من مرة بكلمات من اللغة العربية لإبراز المقدرات والقدرات.

وبهذه المناسبة تحدث في اللقاء عن مشكلات الشعب السوداني، عن المنتج الواحد والعشرين سماراً، ونحن بدورنا نسأل الزعيم الملهم كم منتج في ارتريا الآن؟! والتي قلت عنها في لقائك بأن اقتصادها كله من اليد إلى الفم، هل لأن الشعب غير منتج؟ أم لأن سياساتك وأسلوب حكمك هو الفاشل؟ أم لأن ارتريا تحكم من قبل على بابا والأربعين حرامي؟!

لماذا لم تتحدث عن ميزانية الدولة، وموازنة العام الجديد، لمَ لا تقول لنا كم مدخول موارد ثرواتنا الطبيعة؟ أم هي ملك لك؟! قبل أن تحدثنا عن السودان حدثنا عن ارتريا! وقبل أن تتفاخر عن عبقرتيك بخصوص الدستور الأثيوبي، حدثنا لمَ تحكم ارتريا لثلاثة عقود بحكومة مؤقتة وبلا دستور ولا قانون؟! حدثنا لمَ لم تفرج عن المعتقلين والمختطفين عندك لسنوات طوال دون محاكمات؟! ففي اقل تقدير مجاملة لأخيك الصغير كما وصفته أبي أحمد، الذي أطلق سراح الخصوم الذين عارضوه جهارا نهارا كما يقال، أم نفسيتك المعقدة وتراكماتها لا توصلك إلى مستوى هذا النبل؟!

معالم الشخصية النرجسية لأسياس ليست خفية على الجماهير الارترية، لذا يجب أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار لفهم قراراته وتحليلها وفق هذه المعطيات

أحد الفرضيات تقول الناس على دين ملوكهم، بمعنى آخر إذا صلح الحاكم صلحت الرعية، لأن الحاكم يملك القرار وفي يده السلطات وإمكانية التنشئة السياسية وعبرهما يستطع إعادة الأمور إلى نصابها إذا ما انحرفت عن المسار العام للمجتمع والقانون، ولهذا لسلوك الحاكم دور مباشر، إذا صلح الحاكم صلحت الرعية وفي المقابل أيضا إذا صلح الشعب صلحت القيادة، لكن الشعوب المقهورة كالشعب الارتري، وهذه الأوضاع المزرية التي يعيشها هي بنسبة كبيرة نتاج سلوك القادة وأنظمة الحكم الاستعمارية، والدكتاتور الذي تحكم على هذا الشعب لعقود حيث افقده خصائصه وارثه التاريخي الإيجابي.

ونتيجة لذلك نراه ينقاد ضد مصالحه، ويتم إبعاده عن المشاركة في السلطة وتقسيم الثروة واتخاذ القرارات التي تحقق الصالح العام والتطلعات التي يريدها الشعب، لأنه ببساطة تمت تهيئته ذهنيا ونفسيا ليتقبل ويستسلم للوضع السيئ حتى أصبح يركن إلى أن الشمس المشرقة شمسه والملك المنتصر ملكه.

معظم السياسات وقرار الحرب والسلم هو انعكاس لنفسية اسياس وعقده النفسية وخصوماته وتنافسه الشخصي مع الأقران، ليس فيه أي مصلحة للوطن والشعب ولهذا أصبحت الأزمات تتوالد في غياب المؤسسات الديمقراطية وغياب دولة القانون والمواطنة وانعدمت الحريات وحق التعبير والتنظيم والتفكير، بل حتى على مستوى الحريات الفردية من التنقل والسفر والعمل، فيضيق الحال بالمواطن حتى يصل إلى مستوى إحراق نفسه كما رأينا ما حدث في تونس لبوعزيزي، أو يخاطر بحياته عبر طرق شاقة للهجرة كما يفعل معظم الشباب الارتري. ولكن ليحذر من غضبة الشعوب عندما تصل إلى مرحلة من الانفجار وتكسر حاجز الخوف لتستعصي على الحاكم، وهذا ما تفعله الشعوب والشباب الثائر في المنطقة بالرغم من الدمار والحروب والقتل والسجون، لازالت هذه الشعوب تطالب بالحرية والعدالة والعيش الكريم، وبناء مؤسسات الدولة المدنية دولة المواطنة والقانون والتنمية، والشعب الارتري ليس بدعا عن هذا الشعوب، بل له تأريخ نضالي حافل، وما انتفاضة الضياء وصرخات شيخ موسى محمد نور عنا ببعيد، إنها مسألة الزمن وتراكم الأحداث.

وكما يقول المفكر الفرنسي لبون أنه عصر الجماهير عندما تنطلق وتتجمع تزيد حماسا واندفاعا، وتكون أبعد من التفكير المنطقي والعقلاني ودراسة عواقب الأمور، وحتى على مستوى الأفراد يتأثرون بهذه الروح الجماهيرية ويبذلون بسخاء أرواحهم وأموالهم في سبيل تحقيق الأهداف التي آمنت بها الجماهير، وبالذات لو وجدت هذه الجموع قيادات وزعامات كاريزمية لها القدرة على تحريض الجماهير والتجاوب معها في تحقيق مطالبها.

هنا نرى الكيفية التي يؤثر بها السلوك سواء كان من القادة إيجابيا وسلبيا او لدى الجماهير ثورة واستكانة، إذا المسؤولية مزدوجة، لا تعفى الجماهير من تحمل قسط من المسؤولية. وكما قال شاعر تونس الشّابي إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر إذاً عندما تغير الشعوب من سلوكها المستكين تستطيع أخذ زمام المبادرة، وهذا المنتظر من الشعب الارتري.

Top
X

Right Click

No Right Click