وحدة القوميات الإرترية... الشفرة التي استعصى تفكيكها
بقلم الأستاذ: محمد عمر عبدالقادر - كاتب ارتري
لا تخفى على أحد مسيرة نضال الشعب الإرتري وما واجهته من تحديات قبل بدء الكفاح المسلح،
وذلك من أجل نيل استقلاله سلميا كباقي دول المنطقة، ونظرا لعدم الإستجابة لتلكم المطالب اندلعت ثورة الفاتح من سبتمبر 1961م بقيادة القائد حامد إدريس عواتي وصحبه الكرام، والتي استمرت لمدة ثلاثين عاما بين الإنتصارات والإنتكاسات، وتوج ذلكم النضال بتحرير كامل التراب الإرتري في مايو 1991م، ومن ثم إختار الشعب الإرتري في الداخل والمهجر إقامة دولته المستقلة في مشهد مهيب شهده العالم أجمع عقب الإستفتاء الذي تم في أبريل 1993م.
الحدود السياسية للدول، وخاصة دول العالم الثالث نتيجة حتمية لما آلت إليه الأوضاع بعد الحربين العالميتين في القرن الماضي، إذ وجدت بعض القوميات والقبائل نفسها بين دولتين أو أكثر، دون أي اكتراث لرغباتها أو انتشارها مما أدى إلى صعوبة الإندماج والتعايش بينها وبين القوميات الأخرى، والذي نتج عنه ضياع للوطنية الحقة وزيادة المشاكسات والنعرات، فأصبح التحيز دون وجه حق هو المسيطر على الساحة، فلا تعرف للدولة هوية ولا لقومياتها ولاء للوطن، فكان الطريق سالكا لإختراق النسيج الوطني وتفكيكه.
إن دولة ارتريا كغيرها من الدول الأفريقية تأثرت بالحدود الموروثة من الإستعمار، والتي لا ينبغي المساس به مهما كانت نتائجه مرضية أو خلاف ذلك لبعض الدول والقوميات وفقا لميثاق منظمة الوحدة الأفريقية سابقا، والإتحاد الأفريقي حاليا، إلا في ظل حالات استثنائية مثل استقلال جنوب السودان عن جمهورية السودان والذي تم بمباركة القوى الكبرى في العالم.
التنوع العرقي في الدولة سلاح ذو حدين، يدمر الدولة إذا تم التعامل معه بعقلية الإستحواذ والسيطرة من جانب عرق معين، وقد يكون مدخلا للتنمية والإزدهار إن وجد الحاكم الذي ينظر لجميع مكونات المجتمع نظرة متساوية في الحقوق والواجبات، وإعداد القوانين اللازمة وتطبيقها على أرض الواقع بلا محاباة لفئة دون أخرى والتوزيع العادل للسلطة والثروة وشمول التنمية لكل ربوع البلاد.
تعيش في دولة ارتريا تسع قوميات، لبعضها امتداد داخل الدول المجاورة لإرتريا كالسودان واثيوبيا وجيبوتي، هذا الإمتداد لا يخفى على أحد ولا يمكن انكاره بالرغم من خطورته، إذ يعتبر قنبلة موقوتة تهدد وجود الكيان الإرتري إذا لم يتم التعامل معه بكل جدية، وسن قوانين تحفظ لدولة ارتريا سيادتها وهيبتها وكيانها.
بالتأكيد ليس هنالك إنسان سوي في هذا العالم يتمنى الحرب والدمار، ولكن اندلاع الحرب الأخيرة في إثيوبيا بين الحكومة الفدرالية وجبهة التقراي أظهرت لنا مدى خطورة الإمتدادات القبلية والإثنية على الدول، إذ ظهر لنا بما لايدع مجالا للشك أن التعاطف مع التقراي من قبل البعض لم يكن منبعه دواعي إنسانية بحتة، بل كان لعلاقة الرحم التي تجمع بين بعض الإرتريين والتقراي، وكان صوتهم هو الطاغي في وسائل التواصل الإجتماعي، وأن هذا التعاطف ذهب أكثر مما ينبغي لدرجة المطالبة بإحتلال دولة ارتريا ودمجها مع إقليم تقراي وإعلان تقراي الكبرى دون أن يطرف لهم جفن، ضاربين عرض الحائط بكل نضالات الشعب الإرتري ومستسهلين دماء شهداءه الأبرار، ومتناسين دمار القرى والمدن وأرواح أبرياء الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ في البوادي والحضر خلال فترة الكفاح المسلح، وكذا الفاتورة الباهظة التي تكبدتها دولة ارتريا من الحرب العبثية التي دارت بعد إصدار العملة الوطنية، حيث كان التقراي يسيطرون على إثيوبيا خلال تلك الفترة، متخذين من بلدة بادمي ذريعة لغزو دولة ارتريا، إذ تم التضييق على ارتريا اقتصاديا، وإطالة أمد حالة اللاحرب واللا سلم بالرغم من قرار المحكمة الدولية بشأن الحدود الإرترية الإثيوبية، حتى هاجر الشباب خارج الدولة في موجات لم يشهد العالم لها مثيل، بغرض إضعاف الدولة بإفراغها من طاقاتها الشبابية، نتيجة التذمر من الوضع الإقتصادي، وطول أمد برنامج الخدمة الوطنية.
دولة ارتريا بحدودها المعترف به دوليا هي مسؤولية الحكومة الإرترية في المقام الأول وذلك بوضع قوانين صارمة تحفظ للدولة كيانها وللشعب كبرياءه، وعدم ترك الحبل على القارب ليتلاعب كل ذي نفس مريضة بمكتسبات الأمة الإرترية.
التواجد في دول الغرب والإستفادة من الفرص التكنولوجية والحرية المتاحة عبر الوسائل المختلفة لا يعطي الشخص الحق في التعدي على حقوق ومكتسبات الآخرين، ظانا أنه في مأمن من الملاحقة القانونية والأخلاقية، علما بأن الحرية المتوفرة في الغرب لها حدود معينة لا يجب تجاوزها بغرض الإيذاء المادي والمعنوي.
إن الحكومة الإرترية وكل ارتري حادب على المصلحة العليا لإرتريا أرضا وشعبا أمام مسؤولية تأريخية خاصة خلال هذه الفترة التي تعتبر مفترق طريق، الأول يتمثل في التصدي لخزعبلات تقراي تقرنيا وذلك بتعرية أفكارهم وتسفيه أحلامهم ودحرهم في كافة المحافل، وخاصة وسائل التواصل الإجتماعي التي أصبحت مرتعا لنشر سمومهم، أما الثاني فهو ترك هؤلاء يتلاعبون بالهوية الإرترية بزرع الفتن والكراهية بين مختلف القوميات بالإستهزاء ببعضها تارة، ونفي الوطنية عن البعض الآخر تارة أخرى، في صورة واضحة لضرب النسيج الوطني الإرتري، لإحداث شرخ يصعب إلتآمه مستقبلا.
لا ينبغي ترك الساحة الإعلامية لكل من يعاني من خطل في التفكير والعقد الإجتماعية عبر التأريخ، بل يجب أن تنال هذه الساحة الأهمية التي تستحق، وإعطاء مواضيع السيادة والوحدة الوطنية القدر الكافي من الإهتمام.
إن الشعب الإرتري موالاة ومعارضة أدرى بحجم التضحيات التي بذلت، وثمار الإنجازات التي قطفت، عليه فمن الأهمية بمكان أن تقوم الحكومة بدورها على أكمل وجه وذلك بتفعيل الدستور والقوانين ذات الصلة لكي لا يجد هؤلاء الطريق ممهدا لنشر الفتن والشقاق بين مكونات المجتمع الإرتري، فحينما فشلوا بتفرقة المجتمع دينيا، أعادوا الكرة بالأقاليم، وعندما يئسوا بزرع الشتات عبر النزعة الإقليمية، هاهم الآن يعبثون بالقوميات الإرترية ولكن هيهات، فإن وحدة وتماسك القوميات الإرترية هي الصخرة التي لا يمكن تفتيتها، والشفرة التي استعصى تفكيكها وهذه الوحدة هي سر الصمود في وجه الطغاة عبر تأريخ النضال الإرتري.