البحر الأحمر بين ضوء ترمب الأخضر وإشارة بايدن الحمراء - الحلقة الثالثة
بقلم الأستاذ: أحمد فايد - كاتب وناشط سياسي ارتري
كما نعلم جميعا فإنّ أول وأهم قرارات منظمة الوحدة الإفريقية كان تثبيت الحدود الاستعمارية بين دولها
باعتباره حلًّا ظرفياً تتفادى بموجبه قارتنا ويلات النزاعات الحدودية والعرقية التي لن تنتهي إذا ما تم إشعالها. ولكن وفي هذه المنطقة الرخوة (قليلة الانتماء الافريقي) الواقعة في الشمال الشرقي من قارتنا الإفريقية يتم حاليا سعي حثيث للقفز فوق قرارات الاجماع الافريقي، وبتواطؤ دولي على إعادة رسم الخرائط بما يخدم مصالح الدول الكبرى دون اكتراث بما سيؤول إليه الحال في باقي التقاطعات الحدودية في إفريقيا.
يتم فتح ملف الأزمة، التي تم عملت افريقيا على تفاديها، وهو الملف الذي سيحرق كامل القارة إذا ما تم تنفيذ المقترحات التقراوية القائمة برسم الخرائط من جديد باستخدام آليات عصور ما قبل سيادة القانون وعلى انقاض شعوب اتفق على إبادتها حكام كل دول المنطقة (القائمة) حيث نرها تتسابق على افتراس هذه الشعوب والسيطرة على مقدراتها عملاً على تحقيقٍ لأهداف "دولة تقراي الكبرى" بطريقة ما.
لم يتم استهداف هذه الشعوب من فراغ، فقد رأوها عبر التاريخ ثابتة في أرضها محافظة على تراثها محتفظة بصلاتها رغم استمرار الهجمات الشرسة عليها. ويذكر التاريخ بأنها ظلت مستهدفة من قبل مملكة أكسوم، ومن ثم يراها الحالمون بدولة تقراي الكبرى خطرا داهما لابد من التخلص منه على الفور قبل الشروع في إقامة دولتهم المزعومة.
وبالنظر إلى الوضع القائم حاليا فإن إذابة دولة إرتريا وإبادة او ترحيل وبعثرة شعبها، ثم تنفيذ مشروع دولة تقراي الكبرى أضحى أمراً ممكناً، إذ نشهد عدو الشعب الإرتري الأول إساياس أفورقي يعمل باستماتة لتنفيذ مشروعه القديم المتجدد ويمتلك لتنفيذ ذلك كل أدوات القوة الضرورية، كما يتمتع أهله التقراي بقوة الدعم الدبلوماسي الدولي بالاضافة الى وضوح الرؤية وفاعلية أدوات تنفيذ المشروع السياسية والعسكرية والدعائية.
يحدث هذا في الوقت الذي تعاني فيه هذه الشعوب من ويلات تكالب السودان (المركز) وعمالة الإبن العاق (الناظر ترك) واستمرار هجمات التقراي وإساياس، ثم عدم وجود أيّ من مقدرات الدفاع عن النفس لدى هذه الشعوب. ومن ثم يبدوا أن الوقت قد حان للإنقضاض عليها وإزاحتها عن الطريق نهائيّاً وهو الأمر الذي سيعتبر إعلاناً نهائياً لاكتمال إعادة رسم خريطة المنطقة جغرافيا وديمغرافيا بحسب ما تحلم بها نخب مشروع دولة تقراي الكبرى.
السودان:
وبالنظر إلى بعض التفاصيل وكما أسلفنا في “الحلقة الاولى” فإن السودان يظلّ دائما أضعف أطراف المنطقة ضمن تلك الخرائط الإستعمارية وذلك لتشعب امتداداته في كل دول الجوار ومن ثم تأثره بمجريات الاحداث فيها أكثر من غيره. كما أن أطراف السودان المترامية لا تلتقي بين بعضها إلا في القليل من المشتركات الصورية والتي كان أقواها وأمتنها ذاك الهوى العقائدي (الختمية والأنصار والأهواء الصوفية الأخرى) وذلك حتى تمكن الجبهة الإسلامية من السيطرة على البلاد بالكامل في انقلاب يونيو 1989 وسعيها حسب أهوائها لصبغ السودان بما رأت أنه العنصر الجامع لقطع السودان المبعثرة متسببة بذلك في واقع جديد للأزمة.
هذا الواقع تسبب في تساقط أطرف السودان بعيداً عن الروابط القديمة الهشة في تبيان للحقيقة المرة بأنه لا يوجد في السودان ما يمكن تسميته بالإجماع الوطني على الهوية والشخصية السودانية عدا صراخ التنظير الذي يقوم به سكان المركز كل من شباك داره معتبرا نفسه القلب والمحور.
ليس غريبا إذاً، حين نجد أن الخرطوم (المركز) تتحرك نحو الأطراف فقط حسب اهواء المتحلقين حول صاحب السودان في تلك اللحظة. ولن نذكر في ذلك أمثلة حيث أن الأمر واضح للجميع، ولدينا الكثير منها ضمن الأحداث المتكررة وعبر ما شهدنا بأم أعيننا في الفترات المتأخرة من تاريخ السودان الذي ظلت تطرأ فيه أزمات الأطراف باعتبارها أمراً اعتياديا.
هذه الأطراف التي عانت التهميش المنهجي وتكرار الأزمات، لم تحرك مآسيها السودان (المركز) في مسعى منه لتخفيفها، بل على العكس من ذلك كان المركز سببا في استفحال تلك الأزمات. والادهى والأمر حين يشهد العالم بأن هذا المركز كان طرفاً في عمليات التطهير العرقي بناءً على سكرة العصبية.
واستمراراً لتلك الجرائم المنظمة نجد أن ما يحدث في شرق السودان لا يحرك ساكنا في المركز بالرغم من أنه يحدث بشكل أكثر تنظيماً وعلى مرأى ومسمع من كل السودان والعالم نظر لقوة السوشيال ميديا الضاربة في الوقت الحاضر. وهذا التصرف يعني بالضرورة بأن هناك إصرار على الصمم والعمى، وهو الذي برز جليّاً حين كان يتم تغطية الأحداث بشكل انتقائي يخدم عملاء المركز. ونذكر مثالاً على ذلك عدم اكتراث تلفزيون السودان الرسمي بأضخم المظاهرات والأنشطة الجماهيرية في كسلا وبورتسودان، علماً بأن السودان الرسمي لم يكن وحده المتآمر ضد شعوب البني عامر والحباب، ولكن هناك الكثير من الناشطين والسياسيين من غير شرق السودان يبحثون عن تبريرات وهمية لما يحدث معتبرين أن القتل والتهجير أمرا طبيعياً.
وفي المقابل يقوم هؤلاء (الرسمي منهم وغير الرسمي) بتغطية مبرَّرَة لتصرفات الناظر ترك وأتباعه بشكل مكثف حين يقوم بإغلاق للطرق العامة وابتزاز للدولة من خلال احتلال مراكزها الحيوية ومؤسساتها السيادية دون أي تبعات تذكر، مما يؤكد بأن المركز يرى الأطراف بعيون الجوار التقراوي ويضحي بمواطنيه وتركيبته الديمغرافية من أجل إرضاء هذا الجوار المتآمر.
إساياس والتقراي:
نذكر هنا الرغبة الدائمة للجوار الشرقي للسودان والحالم بتأسيس دولة تقراي الكبرى على أنقاض ثلاث دول قائمة، وهي تلك التي تحدث عنها رئيس إقليم تقراي الدكتور دبرطيون قبريميكائيل أول أمس (رسميا وفي اجتماع لبقايا اركان حكمه) باعتبارها أحد الخيارات المطروحة لديهم وسماها بإسمها المتعارف عليه إعلاميا (تقراي الكبرى – ዓባይ ትግራይ) في تناغم مع الحملات الدعائية، حيث أكد على أنه سيتم طرحها لاستفتاء شعبي حين يقوم شعب تقراي بممارسة حقه في تقرير المصير.
عمليا، وبالتواطؤ مع حكام السودان الحاليين ومن سبقوهم، يتم حاليا استكمال التغيير الديمغرافي في إرتريا من خلال استئصال البني عامر والحباب والمجموعات المتآلفة معها من كل من غرب وشمال إرتريا وشرق السودان ليسكن المجلوبون (المستوطنون) من تقراي منازلهم، بحسب أجندة الدولة التقراوية (تقراي الكبرى) فوق أرض مملكة حكم عيزانا.
سودانياً، المستهدف من قبل دولة تقراي الكبرى العنصرية التي يتفق عليها إساياس وأهله من التقراي كما أسلفنا في الحلقة السابقة، ليست كسلا أو بوتسودان أو شعوب البني عامر والحباب وحدهم، ولكن المستهدف هو كل الشعوب قاطنة أرض الميعاد التقراوية الممتدة حتى وسط السودان، كما تقول بذلك نخبهم مدعيةً بأن الخرطوم أيضاً أرض تقراوية حيث تعود تسميتها إلى المصطلح التقراوي (كرتم - ከርትም). ويدعون بأن بلادهم تتمثل في كل شبر حكمها أشهر ملوك أكسوم (عيزانا) كما تقول بذلك أدبياتهم وحملاتهم الدعائية التي تغرق وسائل الإعلام البديلة الناطقة بلغة التقرنية واضعين أمامهم نموذج فكرة دولة إسرائيل المجلوبة من التراث العتيق والهادفة والقائمة على السيطرة على كل ما بين النيل والفرات.
أرض المعركة:
التراث التقراوي المسمتد من الهوى الصهيوني يرى أن أرض السودان (بحسب المفاهيم السائدة) ذات أهمية كبرى نظراً لسهولة التمدّد فيها وبساطة تكلفة هذا التمدّد إذا ماتم مقارنته بالتمدّد نحو العمق الإثيوبي حيث المقاتل الأمحراوي والأورومي الشرس. كما أن موقع السودان الذي يجعل منه أرض المعركة بين الهضبة الحبشية ومصر (طرفي الصراع الإقليمي الحالي) ومن ثم سيشهد حتماً مواجهات الطرفين القادمة كما كان كذلك عبر التاريخ.
وعلى ضوء الصراع القائم بين طرفي النزاع الإقليمي القديم المتجدد بين الأحباش والمصريين نختم بالعودة إلى السودان حيث يفسر لنا المشهد الحالي فيه، والآخر الذي سبق وشهدناه عبر السنوات القليلة الماضية، بأنّ تقلب مواقف السودان بين دعم موقف إثيوبيا ودعم موقف مصر ما هو إلا تكرار لمشاهد التاريخ القديم المتجدد التي تؤكد دائما بأن السودان ظل مستسلماً لإرادة أحد هذين الطرفين وظل يدفع فواتير صراعهما على أرضه.
المرعب في هذا الصرع الحالي هو وجود سدّ النهضة في قلب الصراع والذي يحتجز كميات هائلة من المياه والذي سينتهي (إذا انتهى) بانهيار السد وتسليم فاتورة هذا الإنهيار كاملة إلى السودان الذي سيسددها من خلال محو العشرات قراه ومدنه من على الخريطة، وتهاوي بيئته القائمة وهو الأمر الذي سيحتم زواله كليا من على الخريطة.
وبالرغم من ذلك فإن السودن مازال مصرّا على لعب دور المكمل للعبة المصريين والأحباش التي ستضمن في النهاية قيام دولة إثيوبيا القوية بجوار دولة تقراي الكبري من خلال تقاسم إرتريا وشرق السودان بينهما.
نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة