نحو فهم وادراك أعمق - الجزء الثاني

بقلم المناضل الأستاذ: أحمد صالح القيسي - قيادي سابق بجبهة الشعبية لتحرير إرتريا

قبل الدخول الي موضوعنا الأساسي، هناك ملاحظات مهمة من وحي ردود الأفعال تجاه مانشر

والمعلومات المتضمنة لذاك المنشور، بحيث يتطلب مني شخصياً ان أوضح بعض الأمور المهمة.

١) لم تكن هذه المعلومات الوحيدة التي تم الحصول عليها، هناك الكثير ولكن تبقى وثيقتين لها القيمة الكبيرة.

٢) الجهة موثوقة بمصادرها، وتعمل تحت مسمى (نفقة مدرسة الصمود).

٣) حين تم نشر هذه المعلومة عبر تلفزيون (اري سات) شخصيا اعترضت علي الطريقة، لان التعامل مع هكذا معلومات، لا يمكن ان يتم بطريقة التعامل التقليدي في الاعلام بنقل المعلومات وكأنها اخبار، بل لابد من البحث عن البعد السياسي في هذه المعلومات، والا سينقلب الامر الي (خبر الإثارة).

٤) الساحة السياسية الارترية تعج بنشاط إعلامي متنوع سوى عبر الوسائل المعتمدة راديوا وتليفزيونات او بجهود أفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، والحصيلة تداخلت الأمور وأصبح من الصعب التمييز بين الصالح والطالح، بل والمحزن ان هذا النشاط بدل ان يكون وسيلة لتقارب الأفكار والمواقف، اصبح سلاحا في تعميق الخلافات وتشتيت الجهود والانتباه في تحديد الاولويات.

٥) حتى النظام اصبح له ولابواقه دوراً لا يستهان في تفعيل هذه التوجهات حتى تضيع الحقيقة، وما اكثر من يدعون الوطنية بجهل مطبق، حين يتجهون نحو شخصنة الموضوع، وينصبون من أنفسهم أولياء وكان الخلاص لا يتم الا عبرهم وعبر منطقهم.

٦) هناك مدارس في عالم الاعلام، ولعل المدرسة التى هزت عروش وانظمة، كانت ظاهرة (الويكليكس) وكلنا يعلم الموضوع جيداً، واعتمدت هذه المدرسة بتقديم كل ما يعتبر سري في عالم السياسة، ولكن عبر وثائق ومستندات. وقد كان موقفي منذ البداية اعتماد هذا الأسلوب مع مراعاة مسألتين الاولى: ان يكون لنا اجتهاداتنا السيا سية في توضيح البعد السياسي حتى نتمكن من ان نلعب دوراً تنويرياً كا مسؤولية تحتمها علينا التزاماتنا الوطنية، والثانية :- ان لا يقتصر نشر هذا النشاط في دايرة محدودة بل لأوسع قطاع ممكن ولهذا تم اختيار (الفيس بوك) كا وسيلة مع كل العيوب التى تحملها.

٧) كلا المكونين (الهدندوة، والبني عامر) وغيرهم من المكونات الاجتماعية هم ضحايا التهميش الممنهج من قبل أنظمة المركز في الخرطوم، فلا يجوز ان يحملوا بعضهم البعض هذه المشكلة المزمنة. وكلا المكونين قدم من العطاء والتضحيات علي امتداد سنوات النضال الارتري ما يجعل كلاهما في الصدارة من التقدير والاعتزاز. هذه حقيقة مطلقة يجب ان يعيها القاصي والداني.

٨) ان المسؤولية التاريخية تقع بالدرجة الاولى علي عاتق عقلاء،، والشباب المستنير،، والمثقفين من كلا المكونين لاحتواء اي خلاف بينهما، وان لا يسمح لأي كان ان يلعب ويستغل اي تناقض لاهداف تخدم مصالحه ولا تمت باي مصلحة لهذا المكون او ذاك.

٩) موقفنا ينطلق من خلافنا مع ما نعتبره عدوا رئيسيا للشعب الارتري هو نظام أسياس افورقي ومن يسير في نفس مدار هذا النظام، والكل يعرف ويدرك في السودان من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه، واقع الشعب الارتري ومعاناته علي مدى ثلاثة عقود، ولا يعقل ان من يعيشون علي أطراف الحدود يغفلون في ادراك هذه الحقائق.

١٠) ليس من المقبول إطلاقا ان تستغل خلافات مكونات معينة صنعتها سياسات أنظمة مستبدة، وسيلة لقمع تطلعات الشعب الارتري، والزج به في متاهات حروب مشبعة بالعصبية، وضياع تضحيات السنوات الثلاثون، لمجرد إشباع نزوات حكام أدمنوا علي التسلط والاستبداد، ذلك مالا يرضاه دين او ملة في عالمنا الإنساني، والقيم الاسلامية التى تسمو بها مجتمعاتنا.

وأخيراً،،، هدفنا هو اولا وأخيراً:- كشف ما هو البعد السياسي لهذه التحركات، وما صلتها بما يحدث داخل ارتريا،،، وإثيوبيا، وتحديدا منطقة تجراي.

منذ بدايات سيطرة (الجبهة الشعبية الديمقراطية والعدالة) علي السلطة في ارتريا، كان التدخل في الشأن السوداني واضحاً وقد كانت في حينها مبررة، لأسباب كثيرة أولها مسالة الجنوب كقضية مزمنة سودانية الطابع والمنشاء، حركات سودانية معارضة ممثله بأحزاب سياسية ذات وزن، حزب الأمة الحزب الاتحادي الحزب الشيوعي وغيرها، ولذا كا ن حراكاً سودانيا معارضا، بحاجة الى دولة مجاورة لتقف معه في سبيل البحث لمخرج للإشكاليات السياسية، وإخراج السودان من العزلة التى بدأت تطوقه ثم مالبثت تلك الأحزاب بهجرة ارتريا، كلا لأسبابه الخاصة، وحصر النظام الارتري اهتمامه بمسالة الشرق
وسعى لتأسيس جبهة عرفت بجبهة الشرق ولهذه الجبهة قصص كثيرة ليس مجال ذكرها هنا، ولكن تم حلها بعد اتفاق مع نظام عمر البشير، وقد كانت العملية أشبه بمقايضة بين النظامين السوداني والارتري اكثر من حلول قدمت لمشاكل الشرق التى كانت سببا في نشاءت جبهة الشرق.

لم يدم الوضع كثيرا من حيث الاستقرار المريح للنظام الارتري، رغم غض النظر من قبل سلطات الخرطوم حول ممارسات رجال الأمن والاستخبارات الارترية اذ جعلت من المنطقة الحدودية والعمق داخل الاراضي السوداني مرتعاً للاعتقال والخطف والترهيب، وكان اللاجئين الارتريين الهدف في هذه العمليات، وكلا المكونين البني عامر والهدندوة اكثر الناس اطلاعا وعلماً لما كان يجري هناك.

خلاصة هذه النقطة هل اصبح النظام الارتري بقدرة قادر الحامي والمدافع علي مكون (الهدندوة) في الوقت الذي يسحق فيها شعبه وفِي مناطقهم وامام اعينهم داخل السودان، ودعك من الشعب في الداخل هذه النقطة مجرد للتنويه بعيداً من الدخول في تفاصيل جرايم النظام.

وكي تتضح الصورة دعونا نذهب الى تجراي، لان المشروع السياسي مترابط علي المدى البعيد استراتيجياً، لايمكن الفصل بين روية الوياني، وروية نظام أسياس افورقي وبالذات في مسالة حسم خيار (التجرينية) تحت سقف قيادة واحدة ومشروع سياسي واحد في نهاية المطاف يحدد الدور السياسي والاجتماعي والاقتصادي في واقع جيو سياسي جديد في القرن الأفريقي. ولعل الأسباب الحقيقية والتى لم تعلن حينها مع صعوبة إعلانها، والتباس الوضع حينها، هي العملية العسكرية المشتركة ضد جبهة التحرير الارترية في مطلع الثمانينات، لكن العقل الباطني للقيادات كان يحمل مشروعا سوى لدى قيادات التجراي، او السيد أسياس وزبانيته، كلا بطريقته في تهميش دور القوى السياسية الاخرى، وبقيت العقدة المستعصية في تقارب الجانبين، وكم من خلاف وصدام جرى بينهما لكن سرعان ما كان يعالج فهناك عدو قوي متربص ومستعد للانقضاض (جيش منجستوا هيلي ماريام).

الهبوط والصعود في خلافات (الوياني) و (الشعبية) هي السمة الغالبة في هذه العلاقة الملتبسة، وما ان تبدلت الأحوال السياسية، وسقط نظام منجستوا وظهرت معطيات سياسية جديدة، وانفتحت آفاق جديدة، حتى بداء القناع في السقوط وبدات المؤامرات تحاك بصورة تدريجية في محاولات كل طرف لاحتواء الطرف الاخر وإخضاعه للمشروع الخفي لكل طرف، وفِي ظل انعدام الثقة، أصبحت كل مشكلة مهما صغر حجمها قضية قايمة بذاتها، حتى جاءت المسالة الحدودية، والقرية المعروفة (ببادمي) ليتحول الخلاف والصراع، الي حرب دموية غير مبررة مطلقاً، وليحدث ما حدث من دمار وضياع فرص
وخسائر كارثية في الأرواح. وبالنتيجة كانت عقدة نظام أسياس، تتمثل في التيار الوطني، الرافض لمغامرات الرئيس في هذه الحرب، وضرورة إنجاز الاستحقاق الوطني ببناء موسسات الدولة، وتسليم السلطة للشعب ليختار بارادته طبيعة النظام،، ومن يراهم ممثلين حقيقين له، وشاءت الظروف ان يحسم هذا الخلاف لصالحه، لتكون البداية العلنية في بلورة مشروعه السياسي.

يقوم مشروع النظام والأب الروحي له أسياس افورقي علي حقيقة وقد اثبتتها الأيام من خلال سلوك النظام نفسه:-

١) ان الحدود السياسية بين الدول في العالم الثالث لا تحكمها قدسية الاهية، بل هي مجرد خطوط علي الورق فرضتها القوى الاستعمارية بما يتماشى مع مصالحها، والحقيقة ان التداخل الاجتماعي والمصالح الاقتصادية هي الحقائق التي يجب اخذها بعين الاعتبار،

٢) ضرورة ابعاد (الوياني) من المشهد السياسي الاثيوبي من مركز السلطة في اثيوبيا أولاً، وان أمكن من المشهد والتأثير في تجراي. (وقد ساعدت الظروف في تحقيق هذه الأمنية في البداية)، وجميعنا يتذكر المشاهد والتصريحات التى واكبت هذه النقلة النوعية، ولعل من المؤسف ان (الوياني) أنفسهم قد قدموا خدمات جليلة من خلال مواقفهم والحماقات التى ارتكبوها، وعجزهم في استيعاب الحقائق السياسية الجديدة، بان هناك عالما يتغيير حولهم، كما ان الحكام الجدد السيد ابي احمد واتباعه كانوا بحاجة ماسة الى قوى داعمة لهم في صراعهم مع الوياني، والقوى الاخرى المناهضة لهم في لعبة الكراسي والسلطة، وهكذا وجدوا في أسياس افورقي ونظامه القوى الداعمة بلا قيود او حدود، ولكن في المحصلة يكون أسياس ونظامه هو الرابح الأكبر في تحقيق اللبنات الاولى لمشروعه الاستراتيجي.

٣) ما يحمله المستقبل شي متروك لما سوف تشكله الظروف والتطورات، ولكن علي المدى المنظور يكون التواجد الارتري العسكري حاليا عاملا اساسياً في تحديد خيار شعب التجراي بتوجه أسياس افورقي في فرض خياره التوحيدي للقومية (التجرينية)، بغض النظر من وجود فواصل حدودية، باسم دول او اوطان المهم الثقل الاجتماعي والمصير المشترك، وتاتي قومية الامهراء بالدرجة الثانية، وجميعنا يتذكر الكلام المعسول للتقرب من الامهراء في زيارته لإقليم الامهراء حتى بلغ به الحد بتذكيرهم بأجداده التى تنتصب قبورهم في أراضي الامهراء، اما الاروموا فهناك حزب الازدهار والسيد ابي احمد في سعيهم لتوحيد خيارهم بعد ان زُج بكل القوى السياسية التى كانت تعج في مناطقهم. اذا فان السيناريو المقترح ضمن مشروع أسياس يقوم علي قوى ثلاثة في اثيوبيا (الاروموا، الامهراء، التجرينيه) ضمن سلطة مركزية، وما تبقى يصبحوا مواطنين كا اقليات كا تحصيل حاصل. هذه النسخة الاثيوبية في المشروع.

٤) اما النسخة الارترية في المشروع يجب ان يرتكز اخراجها علي التاريخ الارتري، والعلاقة المتداخلة مع الشرق السوداني، ومن البديهي ان المكون الاسلامي في ارتريا له تاريخ حافل منذ بداية الحركة الوطنية، وعطاء وإحباطات، وبحكم التركيبة الاجتماعية القائمة علي التعدد العرقي و البنية الاجتماعية والاقتصادية التى لا تساعد لتؤهل لاندماج ووعي وطني، فقد دفع هذا المكون الكثير في صراعات جانبية وترك بصمة وعلامة واضحة علي مدى عقدين من الزمن وحتى اللحظة من الانقسامات القبلية والعرقية.

٥) وفِي تصور مشروع نظام أسياس افورقي هو الخروج من دايرة الصراع التقليدي الذي حكم الحركة الوطنية ب اعادة صياغة جديدة، يجعل من موضوعات الخلافات المزمنة، وقصة (جبهة وشعبية) شيء من الماضي بفرض تحالفات جديدة، واضعاف مكونات اساسية في تركيبة المجتمع، وابراز مكونات اخرى يسهل من خلالها تمرير الاجندة السياسية المطلوب ان تكون واقعا سياسيا في خلال السنوات القادمة.

٦) والسؤال لماذا التركيز علي البني عامر، ثم ما علاقة ارتريا شعباً وكيانا بالخلافات التى استجدت بينهما، مع عدم الإنكار بوجود منازعات لأسباب كثيرة، ولكن حلها لا يتم عبر العداء الى درجة المواجهة وكذالك ان لا يكون هذا النزاع مهما بلغ حجمه اداة لتمرير اجندات سياسية لأطراف خارجية، وبالمقابل ايضا ان لا يدفع الشعب الارتري ثمناً لقضايا هي في الأساس من صناعة الواقع السوداني وأنظمته الحاكمة.

٧) لقد شكل البني عامر العمود الفقري للمكون الاسلامي في الحركة الوطنية الارترية، وبغض النظر عن موقف اي كان منا تجاه قيادات تنتمي للبني عامر، الا ان الحقيقة التاريخية انهم كانوا في صدارة الحركة الوطنية والكفاح المسلح، وأي مساس بدور هذا المكون هو مساس بالمكون الاسلامي ككل، لانه بالنتيجة، تبقى العرقيات الآخري عبارة عن شتات لأقليات هنا وهناك، ويكفيها ان يطلق عليها قوميات وان تسعد بلغتها الام،،، وان تعرض بفلكورها الثقافي في المناسبات والأعياد.

٨) ان القوى الوطنية في المعارضة بكل تنوعها السياسي والاجتماعي مطالبة بكشف الحقائق، كما ان المكونين البني عامر والهدندوة ان يحتكموا الي العقل في حل خلافاتهما، وان يدركوا ان هناك جهات تحاول ان تستغل هذا الخلاف لتحقيق اجندات تخدم مصالحهم ليس الا. كما ان العرقيات الاخرى من المكون الاسلامي ان يدركوا ان الوطنية لا تنسجم مع ما نشاهده من عصبيات وقيام تجمعات تمجد هذه القبيلة او تلك، هذا السلوك لا يصنع وطن، الوطن اكبر من ذلك، كما ان الوطن قادر ان يتسع للجميع.

نواصل... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click