العبودية في إريتريا... استرقاق الشباب والفتيات عبر الخدمة الوطنية
تحقيق الأستاذ: عبدالقادر محمد علي - صحفي مهتم بالقرن الأفريقي وتركيا المصدر: العربي الجديد
يهرب إريتريون إلى الخارج، للنجاة من الخدمة الوطنية غير محددة المدة، والتي تحولت
إلى عملية استغلال واستنزاف للمجندين في عمل قسري ضمن منظومة تهدف إلى الرقابة والسيطرة على المجتمع من قبل الحزب الحاكم وأدواته السلطوية.
هرب العشريني الإريتري صالح محمود من العمل القسري في شركة "سقن للبناء" المملوكة لحزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الحاكم (PFDJ) والتي أجبر على الالتحاق بها، خلال فترة أدائه الخدمة الوطنية في عام 2014، ليتمكن بعد عام من اللجوء إلى فرنسا كما يقول، مضيفا: "يستغل ضباط معسكر ساوا للخدمة العسكرية (يبعد 315 كيلومترا شمال غربي أسمرة)، المجندين ويشغلونهم بالسخرة لصالح تجار وشركات مملوكة لقيادات الحزب الحاكم ومزارع مملوكة للدولة"، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أنه عاش ظروفاً قاسية بعد استغلاله مع مجندين آخرين من قبل مدير الشركة والذي كان يرفض منحهم أي مقابل، ويصفهم بـ"الخونة" لدى مطالبتهم بحقوقهم.
ورغم أن الهدف المعلن للخدمة الوطنية هو تعزيز الوحدة الوطنية والمساهمة في إعادة إعمار إريتريا بعد حرب التحرير (منذ 1961 وحتى 1991) وحرب الحدود مع إثيوبيا (منذ 1998 وحتى عام 2000)، إلا أنها تستخدم عملياً كأداة للرقابة والسيطرة على المجتمع من قبل الدولة بالإضافة إلى استغلال واستنزاف المجندين في العمل القسري. بحسب إفادة البروفيسور السويدي من أصل إريتري جايم كبرآب، أستاذ دراسات اللاجئين في جامعة لندن ساوث بانك، ومؤلف كتاب "الخدمة الوطنية الإريترية: العبودية من أجل الصالح العام ونزوح الشباب"، والذي قال لـ"العربي الجديد": "الخدمة الوطنية في إريتريا تحولت إلى شكل من الرق الحديث، ما جعل المجندين يبحثون عن منافذ للهروب منها".
عبودية المجندين:
تطابقت شهادات 5 مجندين سابقين في معسكر ساوا مع محمود، جرى إجبارهم على العمل في مزارع تابعة للدولة بمنطقتي ملوفر وأفهمبول غربي إريتريا وأراضٍ أخرى مخصصة لبعض القادة الذين ينتفعون بشكل شخصي من بيع ما تغله، ضمن شروط عمل تتسم بالعنف الشديد، إذ "تعمل وكأنك عبد"، وفق وصف محمود لما يجري.
ويتذكر الثلاثيني المقيم خارج إريتريا زكرياس تولدي، (اسم مستعار خشية ملاحقة عائلته)، جيدا عامه الدراسي الأخير بالثانوية في مدرسة وارساي يكيالو بمعسكر ساوا لخدمة العلم عام 2008 إذ جاء قائد عسكري، وأخذه مع آخرين، ممن لديهم خبرة في شؤون البناء، وأمرهم بإنشاء بيت له، فانقطعوا طوال مدة العمل عن المدرسة، "وبالطبع عملنا دون أجر"، كما يقول لـ"العربي الجديد". وتعرف السخرة في المادة الثانية من اتفاقية تجريم العمل القسري رقم 29 التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية، بأنها "جميع الأعمال أو الخدمات التي تفرض عنوة على أي شخص تحت التهديد بأي عقاب، والتي لا يكون هذا الشخص قد تطوع بأدائها بمحض اختياره".
وينطبق هذا التعريف على ما يحدث للمجندين قسريا في إريتريا، وفق تأكيد البروفيسور كبرآب، والذي رصد في كتابه: "إجبار المجندين على العمل لأقارب بعض القادة. على سبيل المثال، إذا احتاج قريب قائد عسكري إلى تجديد أو بناء منزل جديد، فقد يطلب من قريبه في الجيش استخدام بعض المجندين للعمل في موقع البناء الخاص به"، فضلا عن إجبار بعض المجندين للعمل في الشركات المملوكة للجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة أو الجيش، والتي تنشط في مختلف المجالات مثل الزراعة والبناء والنقل والسياحة والتجارة".
ويتم ذلك بعد فترة التدريب العسكري المحددة بـ 6 أشهر، وفق البروفيسور كبرآب، مؤكدا أن السلطات الإريترية لم تكشف عن عدد مواطنيها المسجلين حالياً في الخدمة الوطنية. لكن العقيد عزرا ولدي جبرئيل، مسؤول معسكرات التدريب في إريتريا، قال في عام 2010 في كلمة ألقاها خلال مهرجان EriYouth (يقام سنويا للاحتفال بتخريج دفعات المجندين الجدد) في معسكر ساوا إن العدد الإجمالي للمجندين من 1994 حتى 2010 بلغ 400 ألف، وذكر في خطاب آخر عام 2014 أن العدد الإجمالي للمجندين بلغ 500 ألف مجند، وفق كبرآب.
451 ألف شخص يخضعون للعبودية الحديثة في إريتريا
بينما يبلغ عدد "الأشخاص ممن يخضعون للعبودية الحديثة في إريتريا 451 ألف شخص"، وفق مؤشر العبودية العالمي لعام 2018 الصادر عن منظمة Walk Free (حقوقية تركز على القضاء على العبودية)، والذي أكد أن "69.55% من كل 100 شخص في إريتريا عرضة للرق الحديث"، وبالفعل فإن "السخرة لا تستثن أحداً" كما يقول المجند السابق أحمد إدريس (اسم مستعار خشية ملاحقة عائلته)، والذي غادر إريتريا عام 2014، مضيفاً في شهادته لـ"لعربي الجديد": "أثناء وجودي في معسكر ساوا، ساقوني للعمل مع آخرين في مزرعة أحد الضباط"، مضيفا: "لم يكن من الشائع استخدام المجندين في الأعمال الزراعية فقط، بل يستخدم أصحاب المهن كالنجارة مثلا في إصلاح أو صناعة أدوات كالطاولات والأبواب لمنازل القادة العسكريين".
كيف تحولت الخدمة العسكرية إلى استرقاق؟
قضى إطلاق النظام الإريتري لما يسمى بحملة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتي تعتمد على مجندي الخدمة الوطنية عام 2002، على إمكانية إنهاء الخدمة الوطنية في موعدها، وحولها إلى نوع من الاسترقاق، إذ يتم تشغيل مجندي الخدمة، دون رواتب ولفترات زمنية غير محددة، وفق إفادة ياسين محمد عبد الله، مدير مركز "سويرا" لحقوق الإنسان (مستقل) والذي يربط بين طول مدة الخدمة ورغبة النظام في استخدام المجندين لتنفيذ أجندته السياسية والاقتصادية.
ولم تلتزم الحكومة بالمدة المنصوص عليها في مرسوم إنشاء الخدمة الوطنية والمحددة بـ 18 شهراً، إذ صارت مفتوحة المدة منذ اندلاع الحرب مع إثيوبيا كما لا تلتزم بالعمر المنصوص عليه في نفس المرسوم، إذ باتت السلطات تجند من هم دون الـ18 عاما ومن فوق الـ 50 عاما، وفق الحقوقي عبد الله، والذي يقيم في بريطانيا، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن هذه النوعية من الخروقات للقانون حولت الخدمة الوطنية إلى سخرة وعبودية حديثة.
مجندون دون الـ18 عاماً وآخرون فوق الـ50 عاماً
يوافقه في ذلك سليمان صديق، رئيس المحكمة العليا السابق في مدينة مندفرا الواقعة بالإقليم الجنوبي في إريتريا، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن تشغيل المجندين ضمن المشاريع التنموية يعتمد على ما يتضمنه مرسوم إنشاء الخدمة الوطنية الصادر عام 1995 وما ينبني عليه، والذي ينص على وجود شق تنموي ضمن أهداف الخدمة، لكن هذا لا يتضمن تسخير المجندين بالشكل المعمول به حاليا في إريتريا، ولا يتضمن استغلالهم بالعمل في مؤسسات الحزب والأملاك الخاصة للقادة والمتنفذين، حسب ما يقوله، مضيفا أن "السخرة المؤسسية في إريتريا تنتهك التزامات إريتريا باتفاقيات منظمة العمل الدولية التي هي عضو فيها".
اغتصاب المجندات:
يشير تقرير لجنة الخبراء الأممي، الصادر عام 2019 بشأن تطبيق الاتفاقيات والتوصيات إلى "النطاق الواسع والممارسة المنهجية، لفرض العمل القسري على الإريتريين لفترة غير محددة من الوقت في إطار البرامج المتعلقة بالتزام الخدمة الوطنية". ولاحظت اللجنة أن مواطنين إريتريين، أعدادهم كبيرة، حرموا من حق التنظيم (إنشاء منظمات نقابية تعنى بشؤونهم) لفترات غير محددة من حياتهم النشطة أثناء إجبارهم على أداء عمل كجزء من التزامهم بالخدمة الوطنية الإجبارية.
وتفاقمت انتهاكات الخدمة الوطنية في إريتريا، إذ تتعرض المجندات للاغتصاب، وفق ما يقوله البروفيسور النرويجي كيجيتل ترونفول، أستاذ دراسات السلام والصراع في كلية بيوركنز الجامعية (Bjørknes University College) والمتخصص في شؤون القرن الأفريقي، مضيفا لـ"العربي الجديد": "أهم عواقب السخرة في إريتريا، استنزاف سكانها وتفاقم الهجرة غير الشرعية منها، ولا سيما فئة الشباب الأكثر هرباً من الخدمة العسكرية مفتوحة المدة، وهو ما تؤكده المقررة الأممية السابقة المعنية بحالة حقوق الإنسان في إريتريا، دانييلا كرافيتز، والتي قالت في تقريرها الصادر في مايو/أيار 2020، إن المجندين يتعرضون لسوء المعاملة والإيذاء البدني واللفظي، فيما تتعرض المجندات للتحرش والانتهاك الجنسي والعبودية المنزلية القسرية على يد ضباط الجيش.
النظام لا يستجيب لمطالب منع السخرة:
"المسؤولون عن السخرة جزء لا يتجزأ من النظام، فلماذا يوقفونها"؟ يتساءل ترونفول، قائلا: "إنهم يستفيدون بشكل فردي أو كزمرة حاكمة، والرئيس أفورقي لا يستطيع في المقابل مواجهة كل الجنرالات الموجودين في التسلسل القيادي لأنه يحتاج إلى دعمهم"، ويضيف: "بما أن أفورقي على دراية كاملة بكل ما يتعرض له المجندون من إساءات وانتهاكات، ولا يفعل شيئاً لتغييرها. فيجب أن نفترض أن النظام يؤيدها ويتحمل المسؤولية المباشرة عنها".
وبالرغم من تصريح يماني قبرآب مستشار الرئيس أفورقي في إبريل/نيسان 2015 بأن حكومته ستلتزم بفترة الخدمة الوطنية لتنتهي بعد 18 شهراً، فإن أفورقي لم يفعل الأمر وتنصل من ذلك بحسب مدير مركز "سويرا" لحقوق الإنسان، وهو ما يتطابق مع إفادة كرافيتز التي أشارت في بيانها المقدم للجنة القضايا الاجتماعية والإنسانية والثقافية للجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى أن النظام الإريتري رفض التعاون معها طوال فترة ولايتها، وهو ما يتكرر منذ إنشاء لجنة تقصي الحقائق عن أوضاع حقوق الإنسان في إريتريا في عام 2014، مؤكدة أن السلطات الإريترية ترسل في سبتمبر/أيلول من كل عام حافلات محملة بطلاب المدارس الثانوية إلى معسكر ساوا.