سيناريوهات الشيطان
بقلم الأستاذ: فتحي عثمان - كاتب ومدير قسم العربي اذاعة ارينا باريس ودبلوماسي ارتري سابق
السيناريوهات السياسية هي تنبؤات للمستقبل تبنى على المؤشرات المتاحة، والسلوك الدارج
لأصحاب السيناريوهات أنفسهم، وقيمهم وقناعاتهم إضافة إلى مواردهم الحالية والمستقبلية. وتنبغي الإشارة وتأكيد أن بناء سيناريو محكم القوالب في افريقيا بشكل عام والقرن الافريقي بشكل خاص أمر غاية في الصعوبة، وذلك بسبب عدم وضوح القيم والمبادئ الحاكمة للسياسيين، والتباين بين ما يظهرون وما يبطنون، وكيفية استخدام الموارد المتاحة وأخيرا شبه استحالة تبين دوافع القادة في التصرف. وحرب الحدود بين ارتريا واثيوبيا والتي وصفها الزعيمان اللذين خاضاها بأنها "حرب عبثية"، مثال حي على ذلك.
نموذج ارتريا وبسبب حكم الطاغية اسياس لها تمثل واحدا من هذه النماذج التي لا يتحقق فيها السيناريو السياسي بكامل افتراضاته، ولنفس الأسباب المذكورة أعلاه. ولكن ذلك لا يمنع محاولة إعمال الأدوات المتاحة للوصول إلى تنبؤ ضمن سيناريوهات متعددة تحدد اتجاه البوصلة مستقبلا. سنحاول من أجل تحقيق ذلك الإجابة على أسئلة قد تساعد على حياكة سيناريو مؤسس على مؤشرات الحاضر الجوهرية.
هل هناك "مبادئ" حاكمة لسلوك اسياس السياسي؟
التصور السائد عن اسياس افورقي هو بما أنه طاغية فمعنى ذلك أنه "عديم المبادئ". وهذا خطأ شائع وقاتل في آن واحد، لأن المبادئ مرتبطة في الوعي الجمعي ب "المواقف النبيلة". منذ التحاقه بالثورة الارترية كان لاسياس مبادئ عمل من أجل تحققها وأخلص لها لدرجة التعبد. وظهرت في مسيرته الطويلة في الثورة والدولة. المبدأ الحاكم لتصرف اسياس افورقي ماضيا وحاضرا ومستقبلا هو بناء المجد الشخصي له في ارتريا والمنطقة. وهو مبدأ قاتل من أجله ليلا ونهارا ولم يتزحزح عنه شبرا واحدا. وبهذا المبدأ أصبح السياسي الأكثر تأثيرا على ارتريا في تاريخها الحديث. هذا المبدأ أصبح مرتبطا لديه "بتصورات" شبه ثابتة مثل قناعته القوية بأن الثورة الارترية بدأت به وانتهت به، وأن نموذج ارتريا في الثورة والدولة والذي خلقه هو بأظافره، حسب فهمه، هو الذي يجب أن يسود ويعلو في القرن الافريقي. بناء عليه فإن مفاهيم مثل "الشراكة الجديدة" والتي دعا لها مع الغرب في أوائل أيام حكمه هي نقيض للاستراتيجية القديمة التي تتخذ من اثيوبيا حليفا أبديا للغرب في القرن الافريقي. بنموذجه النضالي الارتري وموقعها الاستراتيجي يطرح اسياس بديلا جديدا للمفهوم التقليدي للحلف في المنطقة. هذا هو مبدأ طموحه الخارجي والذي أدى للصدام مع حليفه السابق ملس زيناوي الذي كان يتكئ على تاريخ طويل لوطنه في خدمة تطلعات ومصالح الغرب.
إذن لاسياس افورقي مبادئ ثابتة وشخصية عنيدة وقوية ومبصرة ومدركة لأهدافها البعيدة والقريبة أضافة إلى المام بالمسرح السياسي الداخلي والإقليمي ودهاء كبير في الوصول إلى أهدافه ومراميه.
ما هو سيناريو السلام الذي سيؤثر على اسياس افورقي؟
ينبني هذا الجزء على افتراض أن الحلف السياسي الراهن بين أبي احمد واسياس نجح عسكريا في إزالة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي الخصم اللدود للطرفين، والعدو الأول لارتريا في السردية التي أسسها اسياس افورقي بعد حرب الحدود بين ارتريا واثيوبيا. وأن الوياني ككيان سياسي تحطم مرة وللأبد وأن شعب تيغراي تنازل عن أي طموح قومي، وأنه سيتم حكمه بكل سلاسة وانقياد من أديس ابابا وأن علاقات الجوار مع ارتريا سوف تؤدي إلى توظيف كلي للموانئ الارترية ووصول التبادل التجاري بين البلدين إلى قمته بما يحقق نتائج تنموية ملموسة تؤدي إلى فرض واقع سياسي جديد يتمثل في خلق كونفدرالية بين البلدين. والكونفدرالية حلم بها اسياس افورقي كما حلم بها المفكر أبو القاسم حاج حمد، ولكن الفرق بين الحلمين هو نفس الفرق بين رؤية المفكر وخطط السياسي. نسبة إلى المفكر فإن الكونفدرالية المثالية هي التي تبنيها الشعوب وتخدم مصالحها الكبرى، وليست هي الكونفدرالية التي تحقق مصالح الزعماء وتكون سببا في شقاء الشعوب والبلدان.
ولنفترض أن سيناريو السلام بين الشريكين وثماره سوف يؤدي إلى كونفدرالية بين ارتريا واثيوبيا، ولكن السؤال هو: ألن يؤدي هذا السلام إلى صراع مستقبلي؟
ما هو سيناريو الحرب والصراع؟
هذا السيناريو، من ناحية أخرى، يقوم على فرضيات أهمها أن سيناريوهات الصراع والحروب هي الأقرب تحققا والأسهل وقوعا من سيناريوهات السلام، والأمر لا يحتاج إلى كبير تدليل. والافتراض الثاني، والذي لا يحتاج، هو الآخر، إلى تدليل معجز ومضني، هو أن اسياس لا يستطيع العيش والسيطرة بدون وجود أعداء حقيقين أو متوهمين، وإذا لم يكن هناك عدو قام اسياس بصناعته.
تمثل الحرب الراهنة، والتي تمتد بعض جذورها إلى حرب الحدود التي سبقتها، بذرة مبشرة وواعدة لحرب مقبلة. واتجاه الحرب المقبلة قد يكون ضد حلفاء اليوم (أبي احمد ومسانديه من غلاة الأمهرا) وسيكون أساسها الصراع على قيادة المنطقة فأبي أحمد يمثل القيادة الشابة والتي تحظى بالمباركة الدولية، وبلاده الحليف التقليدي للغرب والبطل المنتصر ضد أعداء اثيوبيا. الطرف الثاني في الحرب هو اسياس الداهية العجوز، صاحب الشروط الجديدة للوكيل الاستعماري وصاحب الرؤية الكبرى للمنطقة والتي يجب أن ينصاع لها أبي احمد، وأخيرا إكمال دائرة الصراع باختيار الشركاء المحليين والدوليين بما يؤجج نار الحرب المقبلة.
أما المسار الثاني في سيناريو الشيطان هذا هو أن يحتفظ اسياس افورقي بحلف سري تفرضه ضرورات الصراع مع بعض قيادات الوياني، ووفقا لشروطه الخاصة كطرف منتصر من ناحية ولضرورات البقاء بالنسبة لهؤلاء القادة ويبدأ في استخدامهم ضد اثيوبيا والتي تمثل تاريخيا حاجز الصد التاريخي أمام طموحاته الدولية. سيناريو الشيطان هذا سيظل واردا، ما لم يظهر بديل أفضل منه وهو التوجه بكل القوى ضد السودان في الغرب ولأسباب يمكن نفخ الروح فيها من قبل الداهية العجوز.
وفي كل الأحوال سيفرض كلا من الافتراضين واقعا جديدا وصعبا بالنسبة للطاغية وهو ما سيؤدي إلى ظهور واقع سياسي جديد في ارتريا في فترة قد لا تبدو بعيدة بحساب ما مضى من تاريخ.