حركة تحرير ارتريا وريادة الثورة الارترية
بقلم الأستاذ: فتحي عثمان - كاتب ومدير قسم العربي اذاعة ارينا باريس ودبلوماسي ارتري سابق
يصادف الرابع عشر من نوفمبر الذكرى الثامنة والخمسين لإلغاء الاتحاد الفيدرالي بين ارتريا إثيوبيا.
وهذا الشهر أيضا يصادف الذكرى الثانية والستين لتأسيس حركة تحرير ارتريا، والمناسبتين جديرتين بالتذكير ونخص في هذا المقال تجربة حركة تحرير ارتريا ودورها الريادي في مسار الحركة الوطنية الارترية.
تناول دور حركة تحرير ارتريا في مسار الحركة الوطنية الارترية كان في الندوة التي نظمها نادي أدال للكتاب في السابع من الشهر الجاري، والتي خصصت لتناول دور محمد سعيد ناود الثقافي والنضالي. في سياق الندوة قدمنا طرحا جدليا بأن حركة تحرير ارتريا أحدثت تحولا جذريا في مسار الحركة الوطنية الارترية بنقلها من مرحلة النضال السياسي السلمي بمفاهيمه وأدواته إلى العمل الثوري بمفاهيمه وأدواته المغايرة أيضا. وكونها بذلك المؤسس الأول للثورة الارترية.
وكما ذكرنا في سياقات الندوة بأن هدف هذا الطرح ليس على الإطلاق التقليل من نضال الآخرين أو غمط حقوق الآخرين الوطنية، أو تمجيد رجل أو فئة على حساب أخرى لأغراض غير وطنية. كلما في الأمر هو رصد لتطور مسار الحركة الوطنية الارترية دون إصدار أحكام قيمة تتعلق بما هو صحيح أو خاطئ.
ويعتمد الطرح على افتراض أن الحركة الوطنية الارترية اعتمدت في فترة النضال السلمي في الاربعينات على الأحزاب المكونة للكتلة الاستقلالية والتي تصدرها حزب الرابطة الإسلامية، وهي أحزاب تم تأسيسها بتصريح قانوني من الإدارة البريطانية بغرض التعرف على رغبات الشعب الارتري في حق تقرير المصير.
وهي أيضا أحزاب تبنت فكرة (استقلال ارتريا) وعملت على تحقيقها سياسيا دون تبني مفاهيم الثورة أو التحرير، وهذا ليس قصورا أو تقصيرا، بل هو سياق تطور طبيعي في ذلك الحين. واستطاعت الحركة الوطنية تحقيق منجزين وطنيين كبيرين وهما: منع ضم ارتريا إلى اثيوبيا (إلى حين)، والثاني منع تقسيم البلاد بين اثيوبيا والسودان، وهذان منجزان وطنيان لا يمكن الاستهانة بهما مطلقا. سياق التطور والعمل السياسي في الاربعينات لم يكونا يسمحان بتأسيس حزب ذو توجه أو تنظيم ثوريين.
ولكن مع تزايد تغول اثيوبيا على الاتحاد الفيدرالي وتعبير الشعب عن سخطه بسبب هذا التغول وتجاهل الأمم المتحدة والالغاء التدريجي للاتحاد وبروز معالم مشروع ضم ارتريا لإثيوبيا بدأ خيار الثورة يتحقق على الواقع وكانت أوائل مراحله التظاهرات الجماهيرية وعلى رأسها إضراب العمال الشهير في عام 1958 هو نفس العام الذي تأسست فيه الحركة.
قدمت الحركة إسهاما رائدا تمثل في كونه المحطة الأولى للثورة الارترية، وهذا الإسهام تمثل فيما يلي:-
أولا: على مستوى التنظيم قدمت الحركة الهيكل القائم على الخلايا الوطنية السرية خلافا للحزب المعلن والمؤسس بقرار من الإدارة الاستعمارية.
ثانيا: قدمت فكرة التحرير خلافا لفكرة الاستقلال، وهذا تحول مهم لأننا نفترض أن التحرير فكرة ثورية تتضمن عنصري العنف الثوري والاستقلال معا، ولكن الاستقلال بالمقابل ليس بالضرورة شاملا للمفهومين، وهو ما كان سائدا أثناء النضال السلمي الارتري.
عليه فإن مفهوم التحرير يشمل في أعطافه مفهوم الاستقلال، ولكن العكس ليس صحيحا. فقد تكون الدولة مستقلة ولكنها ليست بالضرورة "متحررة". أي قد يكون لها علم وسيادة حكومة ولكنها واقعة تحت (التبعية) التي تلغي الاستقلال. مفهوم التعارض بين الاستقلال والتحرير يتضح لنا بشكل جلي على سبيل المثال عند تناول الدور التحريري لرئيس بوركينا فاسو توماس سانكارا (1949-1987)، فهذا القائد الثوري كان رئيسا لدولة مستقلة ولكنه بحسه وتوجه الثوري كان يريد (تحرير) بلاده المستقلة اسما من ربقة الاستعمار الجديد المتمثل في التبعية. ولذلك قامت القوى المناهضة للتحرير والداعمة للتبعية بتصفيته وقتله في ريعان شبابه، وإبداله برئيس خادم لأغراض التبعية في البلاد.
قد يحاج البعض بأن مفهوم التحرير لم يتبلور بشكل كاف في الحركة. في عام 2003، على ما أذكر، قمت والزميل يوسف بوليسي والدكتور احمد دحلي بعمل ملف حول الذكرى الخامسة والأربعين لتأسيس حركة تحرير ارتريا لصالح جريدة الفجر. وكان لي شرف لقاء المناضل صالح شاويش العضو القيادي في حركة تحرير ارتريا وعضو قوة البوليس الارتري الخمسينات وهو الرجل الذي اناطت به الحركة تجهيز قوات الشرطة الارترية للقيام بما أسمته حينها (بالثورة الانقلابية). والثورة الانقلابية، على بساطتها، فكرة استندت على قيام الوطنيين الارتريين في الشرطة بالقيام بعمل عسكري يقلبون به الحكومة الموالية لإثيوبيا في اسمرا، ويعلنون الاستقلال وتقوم قيادة الحركة في الخارج بتأمين الاعتراف الدولي للدولة الجديدة وينتهي الأمر بهذه البساطة.
على المستوى العملي جمعت الحركة السلاح وبدأت أولى خطواتها بمحاولة الاستيلاء على مركز شرطة شعب في إقليم سمهر. رغم أن هذا التصور الثوري بسيط ومخل، إلا كان فارقا عما كان سائدا قبله من عمل سياسي. ثانيا من ناحية التنظيم كما ذكرنا أدخلت الحركة مفهوم الخلايا السرية في المدن وهذه النوع من العمل الثوري لم يكن معروفا من قبل بل وكان متقدما عما سبقه لأنه جمع الارتريين المسلمين والمسيحيين في إطار تنظيم وطني ذو هدف مشترك. قد يرى البعض أن هذا الطرح مبالغ فيه لأن الحركة عانت في سنواتها الأولى من الكثير من ضعف البدايات.
نعم تعرضت الحركة لانتقادات توضيحية عميقة حتى من بعض مؤسسيها مثل الراحل طاهر فداب والسيد محمد برهان حسن وآخرين ولكن تظل أفكار التحرير والتنظيم الثوري والدمج الوطني من المفاهيم المتقدمة، رغم ضعفها في البدايات، التي أدخلتها الحركة في مسار الحركة الوطنية الارترية وأعطتها ريادة الثورة الارترية، التي أتضحت معالمها بتأسيس جبهة التحرير الارترية لاحقا وانطلاق شرارة الكفاح المسلح كبداية للعنف الثوري الكاسح والمنظم من أجل تحرير ارتريا والذي نرى أنه بدأ في التشكل في عام 1958 مع تأسيس حركة تحرير ارتريا.
أثار الطرح المقدم أعلاه جدلا ونقاشا ومن ضمن النقاط المثارة كانت الإشارة إلى أن الحركة كانت (صنيعة) للحزب الشيوعي السوداني في المفاهيم والأساليب النضالية. هذا الرأي ضعيف الحجية لأنه يفترض أن الحزب الشيوعي السوداني كان واضعا ضمن خططه العملية التأثير على أوضاع ارتريا لدرجة إحداث تغيير ثوري فيها عن طريق بعض ابناءها.
أولا: ليس هناك ما يثبت هذا الطرح، حتى ولو قدم الحزب مساعدات عينية ومعنوية بغرض تأسيس حركة تحرير ارتريا، لأن ارتريا لم تكن ضمن أولويات الحزب الشيوعي السوداني في تلك أو في الفترات اللاحقة حتى يعمل على صنع تنظيمات تحررية فيها.
ثانيا: إن علاقة مؤسس حركة تحرير ارتريا بالحزب الشيوعي السوداني لا تتعدي الإشارة دوما إلا أنه كان عضوا في الحزب فرع بورتسودان ولكن ليس هناك توثيقا كافيا لهذه العلاقة وتاريخها وامتدادها المكاني والزماني.
أخيرا: لا يمكن تفسير علاقة الحركة بالحزب إلا من باب التأثر والـتأثير والذي هو من صميم تجارب الحركات الوطنية الافريقية والعالمية. فالحركة الوطنية السودانية، خاصة اليسار منها تأثر بالحركة الديمقراطية للتحرر الديمقراطي (حدتو) في مصر.
أما تأثر جبهة التحرير الارترية بجبهة التحرير الوطني الجزائرية فلم يشمل تبني الاسم فقط بل شمل كذلك نقل تجربة جيش التحرير الوطني الجزائري في القتال حسب التقسيم بالولايات وهو ما تبنته الجبهة في نظام المناطق العسكرية في ارتريا في منتصف الستينات.
أما تأثير الفكر والممارسة الماوية على أساليب عمل ومفاهيم حركات التحرر في آسيا وامريكا اللاتينية وافريقيا فهو ظاهر حتى اليوم. والحقيقة المؤكدة أن نقل التجارب والمفاهيم ظل واحدا من علامات كل حركات التحرر الافريقية وحركة تحرير ارتريا ليست استثناء. وهذا التأثر والتأثير ينفيان فكرة كون الحركة صنيعة لهذا الحزب أو ذاك.
ختاما: أن التغيير الذي أحدثته حركة تحرير في مسار الحركة الوطنية الارترية بنقلها من العمل السياسي إلى العمل الثوري، مهما كان ضعف بداياته يمثل حقيقة بداية للثورة الارترية وهو المسار الذي أكملته مسيرة جبهة التحرير الارترية والكفاح المسلح وقوات التحرير الشعبية والتنظيمات الارترية الأخرى وصولا إلى الجبهة الشعبية التي أنهت مسيرة الكفاح المسلح بتحرير كامل الأرض على حساب تحرير الإنسان وأدخلت البلاد في أزمة دولة ما بعد الاستقلال التي نشاهدها مآسيها اليوم.