جامعة اسمرة... التي فَرَّتْ من قسوره - الجزء الرابع
بقلم المهندس: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري
تظاهرات طلاب ثانويات أسمرا 1962م مآلات وتداعيات:
تواصلت نضالات الحركة الطلابية العفوية الفردية والجماعية، إلى أن جاءت تظاهرة مايو 1962م
كأول تظاهرة شبه منظمة، والتي قام بالتحريض عليها ثلة قليلة من طلاب ثانوية لؤول مكنن، حيث تمت مناقشة الموضوع أولاً بين طالبين فقط هما - ميكائيل قابر و ولديسوس عمار - حيث كانا يتقدمان في الوعي الوطني على أقرانهما الطلاب لقدومهما من مدينة الثورة (مدينة كرن) والتي كانت تمثل بيئة ثورية ملتهبة والمنصة التي انطلقت منها المطالب الاستقلالية بدءً من مؤتمر الرابطة الاسلامية في النصف الثاني من عقد الاربعينات، وكانت للطالبين علاقة تربطهما بصاحب المتجر السيد/ عبدالقادر زينو وهو من المنظمين ضمن الخلايا السباعية لحركة تحرير ارتريا، وكذلك صديق دراستهما المناضل/ محمود جنجر والذي كان في عام 1962م ناشطاً في صفوف جبهة التحرير الارترية من خلال زياراته المتكررة لمدينة أسمرا لتوفير احتياجات الشتاء للمقاتلين، ويقول ولديسوس عمار: "لم يكن هناك تدخلاً مباشراً لحركة تحرير ارتريا أو جبهة التحرير الارترية في الحراك الطلابي حتى ذلك الوقت".
في 22 مايو 1962م كان من المقرر أن تجتمع الجمعية الوطنية الإريترية (البرلمان الارتري) لإجراء مناقشة مثيرة للجدل حول الميزانية، وذلك بسبب مناقشات الجلسة السابقة عندما تساءل بعض أعضاء البرلمان عن "المنحة السخية" التي قدمها الإمبراطور بقيمة مليون بر إثيوبي لمساعدة الحكومة الإريترية على تصحيح عجز الميزانية في إجمالي نفقاتها لميزانية العام المالي (1960-1961) والبالغ (18) مليون بر، وفي هذا الصدد يذكر المناضل/ ولديسوس عمار "أنه وفي صيف عام 1961م حضر جلسة للجمعية الوطنية الارترية عندما أثارت انتباهه الحجج التي قدمها عضوي البرلمان مسقنا قبرزقي واستفانوس من دقي محاري التي ادعيا فيها بأن أثويبيا مدينة لإرتريا بمبلغ 72 مليون بر اثيوبي وهي عبارة عن متأخرات الرسوم الجمركية والاتحادية التي لم يتم سدادها" كان لهذه الأحداث فعل السحر في نفوس الطلاب، وكان هناك شعور بأن المظاهرة التي ينوي الطلاب القيام بها أمام البرلمان سيكون لها تأثير قوي في نفوس أعضاءه، كما أن الطلاب كانوا يأملون أن تقود جهودهم هذه إلى التغيير المنشود.
ولهذه الغاية، قامت المجموعة الطلابية داخل مدرسة لؤول مكنن بقيادة الطالب/ ولديسوس عمار بتمرير تعميم إلى جميع الفصول داخل مدرستهم يخبرونهم فيها بأنه سيتم تنظيم مظاهرة في 22 مايو 1962م وهو اليوم الذي كان من المقرر أن تجتمع فيه الجمعية الوطنية كما ذكرنا آنفاً، وكان من المتوقع مشاركة كافة طلاب ثانوية الأمير مكنن، حيث تم توجيه كافة الطلاب بأنه على كل طالب كتابة عدة نسخ من أي شعار عن ارتريا كي يتم توزيعها خلال المظاهرة، وكان الطالب/ ولديسوس عمار المتحدث الوحيد في ذلك الاجتماع القصير حيث لم يكن هناك نقاشاً جدلياً في الأمر، ولا أي مشاركة من خارج مدرسة لؤول مكنن، وبعد أن قضوا معظم الساعات الأولى من صباح ذاك اليوم في ارتباك تام، أخيراً خرج طلاب مدرسة الأمير مكنن في مجموعات كبيرة لتحريض طلاب مدرسة هيلا سلاسي الثانوية، حيث كان لا يزال معظمهم مترددين في الانضمام إلى المظاهرة، حتى ساد الهرج والمرج بين الطلاب ثم بدأ طلاب المدرستين في الركض عبر الطريق الرئيسي المؤدي إلى مبنى البرلمان وسط المدينة، إلا أن الحكومة كانت قد سبقتهم بنشر رجال الشرطة وعناصر الأمن في كل ركن من أركان المدينة، الأمر الذي منع الطلاب من القيام بتظاهرة سلمية، حيث لم يتمكنوا من التجمع قرب مبنى البرلمان، فتجاوزوه وهم يرددون شعاراتهم الوطنية وأهازيجهم الغنائية ومنها الشعار الشهير: نريد حرية ساعدونا لتتردد هذه الجملة البسيطة في كافة أرجاء العاصمة أسمرا مثيرةً مشاعر وطنية ملتهبة لينضم العديد من المواطنين إلى التظاهرة الطلابية يتراكضون ويتغنون سوياً يجوبون طرقات المدينة في مهرجان وطني لا يزال عالقاً بذاكرة الكثير من أبناء هذا الوطن العزيز.
كما ذكرنا في الجزء السابق فإن عبارة "نريد حرية" ظلت تتردد في الآفاق وفي أنفسهم مثيرةً وبلا شك المشاعر الوطنية الجياشة لينضم العديد من المواطنين إلى الحراك الطلابي، من بينهم المناضل/ ابراهيم سراج الذي كان في زيارة للعاصمة أسمرا ومن فرط تفاعله مع التظاهرة انضم اليها بالقرب من الكاتدرائية الكاثوليكية كما يذكر هو نفسه، ثم على الفور وبعد توقف التظاهرات انضم لاحدى الخلايا النضالية، يقول قائد الحراك المناضل/ ولديسوس عمار: قام رجال شرطة من فرقة الخيالة يطاردون العديد من المتظاهرين عبر المسجد الكبير وكنيسة القديسة مريم باتجاه بيت قرقيس في الطريق المؤدي إلى مصوع، تعرض العديد من الطلاب للضرب والاحتجاز في عدة مراكز للشرطة بما في ذلك مركز كازيرما موسوليني Caserma Mussolini سيئ السمعة وكان الطالب ولديسوس عمار ممن أعتقلوا في هذا المركز والمؤسف أنه كان مجاوراً لمبني البرلمان حيث ظلوا يرددون الشعارات الوطنية المعادية للامبراطورية الاثيوبية حتى تم اسكاتهم بالضرب داخل زنزانات مركز الاعتقال المبللة بالماء، استمرت هذه الاضطرابات لأسبوع كامل من قبل الطلاب للمطالبة بالإفراج عن زملائهم المحتجزين، كان هناك تجمعاً طلابياً جريئاً في منطقة (ماي أنبسا) شمال أسمرا والذي صمم فيه الطلاب على الاستمرار في التظاهر، وقد تضامن طلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة في أسمرا والمدن الإريترية الأخرى مع أولئك الذين تم اعتقالهم خلال المظاهرات بمقاطعة الدراسة.
وجد العديد من الآباء، الذين لم يحسموا موقفهم السياسي من التطورات السياسية بالبلاد، وجدوا أن تصرفات أبنائهم والتوجه العام للتطورات السياسية مقلقة للغاية، ومن المؤكد أنهم لم يكونوا سعداء بانتهاكات إثيوبيا للقانون الفيدرالي لكنهم كانوا يرون بأن الوقت من أجل النضال للحكم الذاتي الإريتري قد فات فضلاً عن الاستقلال التام الذي يطالبون به الطلاب في تظاهراتهم، حيث بدا من الصعوبة بمكان تحدي ملك ملوك إثيوبيا وتجاهل تأثير الكنيسة الأرثوذكسية التي كانت تروج للاتحاد مع أثيوبيا، وكان غالبيتهم يتساءلون عما إذا كانت دولة صغيرة مثل إريتريا بإمكانها أن تعيش بدون "ملك" إلا أن الطلاب لم يكونوا يشاركون آباءهم هذه المخاوف، من جهة أخرى ظلت أثوبيا خائفة من صحوة المسيحيين الارتريين الذين فصلتهم عن أخوتهم المسلمين بترويج شائعات من قبيل أن جبهة التحرير الارترية تنظيم جهادي يستهدف المسيحيين في ارتريا وأنها ستقوم بإبادتهم وطردهم من أرضهم لوقدر لها أن تحكم ارتريا وكان العديد من المسيحيين يصدقون هذه البروباقاندا، ولكن بعد قيام هؤلاء الطلاب بهذه التظاهرات رأت السلطات الإثيوبية مخاوفها من احتمال صحوة قومية بين الإريتريين المسيحيين تتحقق على أرض الواقع، لذا لجأت أجهزتها الأمنية إلى كافة أنواع التعذيب الجسدي والنفسي والترهيب بقمع المعارضين - كما يؤكد ذلك إياسو قايم - كان الطلاب ومعلمو المدارس من بين العديد ممن سُجنوا أو أمروا بالحضور إلى المكاتب الأمنية التي قامت بإلتقاط صور فوتوغرافية لهم وأخذ بصماتهم، كما تعرض عدد من الذين شاركوا في المظاهرات لمعاملة قاسية من قبل الشرطة وانتشرت قصص وحشية الشرطة على نطاق واسع.
قامت هذه الإجراءات القمعية بتقديم خدمة جليلة للقضية الإرترية من خلال إثارة المزيد من المشاعر المعادية للامبراطورية الاثيوبية، بالاضافة إلى أن تزامن مظاهرات الطلاب في مايو 1962 مع العملية الفدائية التي قامت بها عناصر من جبهة التحرير الارترية في 7 يوليو 1962 لاستهداف المسؤولين الحكوميين في أغردات من الأحداث السياسية الهامة في العام 1962م، وربما أسهم هذان الحدثان في تسريع القرار الإثيوبي بحل الاتحاد الفدرالي في 14 نوفمبر 1962م.
ومن بين التطورات التي أعقبت هذه التظاهرات، قيام بعض الطلاب النشطاء بتشكيل جمعية تسمى "جمعية المثقفين الإرتريين" والتي قامت فيما بعد بتقديم عريضة احتجاجية إلى لجنة الأمم المتحدة التي كانت في حالة إنعقاد في أديس أبابا أدانوا فيها الخروقات الإثيوبية لبنود الاتحاد الفدرالي مطالبين الأمم المتحدة بالتدخل في الشأن الإرتري، وبالرغم من أن هذه الأنشطة لم تسفر عن أي نتائج ملموسة، إلا أنها عكست الرغبة العميقة لمعظم الإرتريين في الحصول على دولة ذات سيادة، ومن ناحية الثانية فإن "جمعية المثقفين الارتريين" كانت تعمل على التعبئة السرية للجماهير الارترية وتشجيع التعبير الفني الذي كان يهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية، فبعضهم كان يسهل مهمة إلتحاق الشباب بالكفاح المسلح والبعض الآخر يساهم في تسهيل مهمة العناصر المخابراتية والفدائية الدخول والتحرك داخل المدن الارترية، وقد قاطع الكثير من الطلاب خلال هذه الفترة دراستهم للانضمام إلى النضال ليصبحوا فيما بعد شخصيات قيادية بارزة للثورة الارترية.
إلى اللقاء... في الجزء القادم