معركة الوعي "لتعلمو مي ركبواْ" ماذا جنى من درس

بقلم الأستاذ: منصور محمود حمد نور

كانت نسمات الهواء العليل تداعب وجهي، والغيوم المتفرق في السماء مع رذاذات المطر تتناثر في ملابسي

مدينة قندع

دون أن تغرقه بالبلل، جو مفعم بالحيوية يغري على التجوال في مدينة جندع.

لم يكن من عادتي الخروج في الفترة الصباحية، فأنا أفضل الأماسي، لكن مدرساً في المدرسة التي يدرس بها ابني أخطرني بأن غداً اعلان نتائج الفترة الأولى في المدرسة، خرجت صباحاً منتشياً متوجهاً نحو المدرسة، غير آبه بتلك الرذاذات التي تعبث بملابسي وتغسل وجهي، فحاجتي إلى هذا الرذاذ كحاجة العطشان للروي بعد أن أحرق وجهي هجير الربع الخالي وتلك الصحراء القاحلة سنين عدداً.

في طريقي نحو المدرسة، صادفتُ طفلاً في الثالثة عشر من عمره تقريباً يلعب كرةً في الميدان بالقرب من موقع مواقف السيارات، هذا الميدان الذي نمربه اليوم ونحن نتجرع مرارة ما آلت إليه تلك القطوف الدانيات وتلك الحدائق البهيجة، عندما كان المار بجانبه يملأ رئتيه من الأكسجين الذي ترسله تلك الجنات الباسقات وتلك الفواكه بأنواعها الممتدة من كامبو حتى بونسبيرو، وتلك الأشجار الزاهية التي تتربع على جانبي الطريق، المارعلى تلك الحديقة الغناء، يمتع ناظريه بذاك الجمال الأخاذ والذي لا زالت تكتنزه نفوس عاشت تلك الحقب، وتتألم حسرةً على فقدانه، بعد أن أضحى اليوم يباباً وأثراً بعد عين.

لا تقع عينيك اليوم إلا على تجمعٍ للسيارات من على البعد، وإن دخلته لا تسمع إلا نعيق أصحاب السيارات طلباً لركاب المسافرين إلى وجهةٍ بعينها، ولا تخرج منه إلا ولك نصيبٌ من ذلك الغبار الذي تنثره السيارات والبشر وحتى البهائم، ولسان حالك يقول آهـ يالزمن الجميل هلاّ عدتَ لترى ما حل بأرض الجنان الزاهيات وهل نلتقي يوماً في منتصف الطريق لنعيد ذكريات الزمن الجميل.

ألا ليتَ شعري هل أبيتن ليلةً   ***   بوادي وحولي ملـــــــحطة وعـقامُ
وهل أردن يوماً مياه أتكمومٍ   ***   وهل يبدون لي كبت سيدي وحملمالو

الطفل كان في غاية المرح يلاعب كورته أقابقاب (ملاعبة الكرة برجل أو رجلين دون أن تسقط لفترة حسب مهارة الشخص) وحيناً يضرب الكرة بأقصى قوته نحو الأفق حتى يجد من يشاركه لعبه، استدعيت طفولتي فقاسمته لعبته لبرهةٍ من الزمن، ثم بدى لي أن أسأله ألاَ يذهب إلى المدرسة لمعرفة النتيجة اليوم؟ ففاجأني بقوله إنه لا يدرس!!! وقعتْ هذه الجملة في نفسي موقعاً صادماً، فأحببت أن أحاوره حول الدراسة وأهميتها ودورها في تقدم المجتمعات وانحطاطها، وزَّع ابتسامته يمنةً ويسرةً ساخراً من قولي، ورمى تلك الكلمات التي كانت صادمة "لتعلمواْ مي ركبواْ"؟ ماذا جنى من درس!؟

ثم أردف قائلاً "أبويي كمسلو لبل" وهذا كلام قدوتي أبي، أردفتُ وأنا مذهول من تلك الإجابة، وصدمتي كانت أكثر من هؤلاء الآباء والأمهات الذين يحرقون مستقبل أمة بوعيٍ أو بدون وعيٍ ولأن منطق الطفل متناغم مع منطق أبيه - قدوته - في هذا السن، وإدراكه لا يستوعب تلك المعاني، لم أرغب مناقشته في فضل العلم وأن الحضارات لا يمكن أن تبنى وتزدهر وتتقدم الأمم إلا عبر العلم، وأن سنغافورة ماهي إلا 721.5 كم² لكنها بالعلم أضحت محط أنظار العالم، ونحن في أحايين كثيرة نضطر أن نبرز خريطة بلدنا حتى نعرف من يجهل موقعنا، لأننا مجرد رقم في تعداد الدول حتى اللحظة.

لم يمهلني كثيراً لأعوم في حيرتي وصدمتي، بل فاجأني والبسمة تحيط بشدقيه وعلامات الانتصار تملؤ جوانحه، وهو يرى مَن أمامه محاطٌ بالحيرة، تعلم قالها منتشياً لائقاً بالفوز، تعرف من يصرف على عمي المتعلم والمدرس في تلك المدرسة التي يممت نحوها أنت اليوم لتشاهد إنجاز ابنك؟ قلتُ من؟ قال يصرف عليه والدي التاجر، أردت أن أقول له، إن الكبوة التي تحيط بالمدرس وعلى غيره ممن تأبطوا الشهادات في بلادنا ليست أبدية وإنها إعاقة مؤقتة، أردت أن أقول له ما يضيرك لو أنك أصبحت تاجراً ومتعلماً في آنٍ واحد إن كنت تعشق مهنة أبيك، أردت أن أحكي له عن معاناة مستشفى المدينة الذي تُجلب له حتى الممرضات من مناطق أخرى، أردت أن أحكي له عما يختلج في صدري وأن أبوح له عن مكنونات نفسي، أردت وأردت وأردت، ثم صحت بصوتٍ مرتفعٍ أهاتف نفسي، أعقمت نساء هذه المدينة أن تمدنا بأطباء بل ممرضين ومهندسين أكفاء حتى نكف عن استيرادهم من خارجها! ومتى كانت نهضة أمة على أيدي غيرها!! هل يمكن ان نجني من الشوك العنب، هممت أن أقول له ألسنا بحاجة إلى مفكرين ومنظرين اقتصاديين عمالقة!!!

لكني كتمت صوتي في داخلي وغادرته تاركاً له حرية اللعب مع من يختار، وأنا أضرب كفاً على كفٍ متثاقلاً تجاه المدرسة وفمي يردد رائعة الفرزدق.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم   ***   إذا جمعتنا يا جــرير المــــجامع
بهم تسمو النفوس ونفــخر   ***   إذا ما ادلهم واِسْتَفاضَ الخــطب

دون أن أصحو من الصدمة والحيرة التي أعقبت حوار الذكاء الضائع لهذا الطفل، دلفت إلى المدرسة، وجدت هناك حشداً كبيراً رجالاً ونساءً متقابلين تفصل بينهم ساحة غير ممهدة مكسوة بعشب زبل من آثار أقدام الناس وربما البهائم، مجموعة من الكنب تغطي منصة مرتفعة قليلاً عن الساحة، هي عينها التي كنا نجلس فيها عندما كنا طلاباً في الابتدائية في جندع، لا تختلف في التصميم والحجم والشكل كل شيء في مكانه لا شيء تطور البتة، لا شيءَ يذكرك في هذه المدينة بجديد تحتفي به بعد أن تلاشى جمال القديم.

زاحمتُ مجموعة من الناس تجلس في كنب فجلست، ولم تظل كلمات الطفل ترواح عقلي وفكري، ولساني يردد بصمت بيت فرزدق والبيت الثاني الذي صدر مني ليتماهى مع الموقف. في واجهة المنصة في الطرف الذي يلي الرجال، تتأهب اللجنة والمدرسون لتلاوة الإنجازات والإخفاقات لنصف سنة منصرمة والتحفيز لنصف سنة لاحقة، لم يفقني من المنولوج وحوار الذات منذ أن فارقت الطفل إلا صوتٌ يهدر داخل اللجنة ليس بوسعي مشاهدته لبعدي عن موقع الحدث، نسبة المتسربين من المدرسة في هذا الفصل الدراسي قارب الثلثين، وقال بعد هذه الجملة الكثير لكني لم أكن في حالة لأستوعب باقي الجمل، التفتُ يمنة ويسرةً أحاول سماع همهمات منْ هم بجانبي في الكنبة لعلّي أسمع ردود فعلٍ أوذهول لكن لا أحد يرف له جفن، وكأن الأمر مألوف ولا شيءَ قد تغير وكل الذي تغير جلستي الغريبة بينهم.

بعد برهةٍ من الزمن شاهدتُ أحدهم يتنقل بالميكرفون ربما لإعطاء فرصة لأولياء الأمور ذكوراً وإناثاً ليبديَ كلٌ بدلوه ويفصح عن مكامن الإخفاق والمتسبب فيه، جال من كان يحمل الميكرفون في موقع حشد النساء فعاد إذ لم يجد من يستشيط غضباً على هذا الوضع المتردي فيدلي بدلوه، اقترب مني الميكرفون بعد أن جولات عن يمينٍ وشمال، فدفعني شدة تأثري بهذه المواقف التي دهمتني من الصباح أن أتناول الميكرفون، ولكن لم يكن في جعبتي شيء أتفوه به بعد أن أرهقني الطفل وأحبط معنوياتي التي سما بها ذلك الجو الصباحي البديع، وتلك الروح التي انطلقت بها من بيتي، ومما قلتُه: إن ابنكَ أو ابنتكِ عندما يبلغان واحداً وعشرون ربيعاً من عمريهما المديد يتأبطان شهادة تنير عقليهما ومساراتهما وتوسع مداركهما، ويحفظان حقهما، ويدخلان السعادة في والديهما ويخدمان أمتهما، ولهما فسحة طويلة لتحقيق مآربهما فيما تبقى من العمر إن شاء الله، وقلت لهم ما عجز لساني أن يقوله لذلك الطفل، إننا بحاجة إلى مفكرين ومنظرين ومهندسين وأطباء وأساتذة فالأمة تبنيها العقول، ومن فرط حماسي واندفاعي قلت إنْ كنا نشكو قساوة الحياة وإدبارها عنا لذلك الحصار الظالم المضروب علينا من أمريكا، فهناك في أرض فلسطين من عاش مرارتها وقسوتها لكنه عاش التحدي وتغلب عليه فهم اليوم أفضل العرب والعجم تعليماً، لم أتفوه بهذه الكلمة حتى سمعت تصفيقا خجولاً من خلفي مما زاد من حماسي حتى كدت أن أتجاوز نقاطاً حمر لكني فرملتُ فليس كل ما يعرف يقال!!!.

انفض الناس كأنهم كانوا في سجنٍ فتح بابه فجأة كلٌ بالتجاه منزله أو متجره، لكني ظللت محاطاً بأسئلة - وأنا متسمرٌ على كنبتي العتيقة التي تئِنُّ كلما تحركتُ - أهاتف نفسي وأحاكيها، كيف تسرب ثلثي الطلبة واستطاعت هذه المدينة الصغيرة ابتلاعهم؛ فالمتسرب عادةً يخرج من المنزل يحاكي أفعال الطلبة ثم يعود مع الطلبة كأنه فَعل فعلهم، أم أنهم تسربوا داخل منازلهم بمعرفة أولياء أمورهم، وهل هم من تسربوا فقط أم تسرب معهم أعداد من المدارس الأخرى، ولماذا يفعلون ذلك وكيف تستقبل الأسرة هذا الفشل الجماعي الزريع؟. أسئلة حامتْ حول نفسي. لبرهةٍ من الزمن انتابني شعور مختلط بالحزن لسوء مصير أمة، وظللت أكرر بصوتٍ مكتوم حيناً ومكشوفٍ حيناً آخر، منِ المتسبب فيما نحن فيه من تسيب وتسرب وتلك القدرات الشبابية الضائعة؟ على من يقع اللوم؟! ثم تركت هذه الإجابات للزمن ربما أفْسحَ عنها في قادمات الأيام، وغادرتُ المدرسة هائماً لا أعلم لي وجهة، وهآنذا أشرك فيه غيري من الحادبين والغيورين حتى نغير ما بأنفسنا من خللٍ علاجه اليوم أهون من قادمات الأيام، عندما نتحول إلى كائنات مفعولٌ بها لا فاعلة، وحينها يكون قد فات الأوان.

"لتعلمواْ مي ركبواْ" ماذا جنى من ركب مطايا التعليم!!!

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

التعليقات  

محمد صالح
#محمد صالح2020-07-08 13:12

سرد جميل جدا، وكما ذكرت لا بد وأن تستمر معركة الوعي لهذا الشعب وأن يعي قيمة العلم والمعرفة والمعركة المنتظرة مع الشريك هي معركة العلم ومعركة بناء الدولة المؤسساتية ودولة القانون يحتاج للعلم والمعرفة، العالم في تقدم مستمر ويتطلب مننا جهد أكبر وتوعية كما ذكرت،، وشكرا
رد
Abu Doha
#Abu Doha2020-07-11 13:57

ما شاء الله لغة وأسلوب المقالة راقي برقي صاحبه اما الموضوع الذي أثرأ به يعود إلى شخصية ومكان وزمن الحدث استوقفني وصف كنب جلوس الضيوف كيف يمكن أن يتغير الكنب قبل ان يتغير الجالس انا مع الكاتب فيما إرادة ان يوصل وله كل التقدير والاحترام
رد
Top
X

Right Click

No Right Click