في الذكرى 58 لإندلاع الثورة الإرترية ماذا بقي من آمال وتطلعات الشعب
بقلم الأستاذ: سليمان فايد دارشح - كاتب وبـاحث ارترى
في مثل هذا اليوم تطل علينا الذكرى 58 للثورة الإرترية الخالدة وتحمل في طياتها عبق الماضي وعظمته،
معطرة بروائح الشهداء وحلم الشعب وتضحياته، ومعززة بإيمان الشعب بحقه في الحياة الحرة الكريمة مثل سائر شعوب الأرض.
بهذه المناسبة نستطيع ان نقول وبكل فخر واعتزاز وبدون أدني شك، كان عواتي ورفاقه من الرعيل الأول، الذين فجروا هذه الثورة المباركة من خيرة جنود الأرض، سطروا أروع وأصدق الملاحم البطولية، ومهدوا بدمائهم الذكية الطاهرة طريق ثورة عظيمة جسدت تطلعات واماني وحلم الشعب في غد اكثر إشراقاً.
نعم: كان إندلاع الثورة الإرترية في الفاتح من سبتمبر عام 1961م إيذاناً بالمرور إلي زمن جديد، زمن الحرية والكرامة والعزة، في ذلك اليوم التاريخي تلاشت كل اجواء الخلافات الطائفية والقبلية والإقليمية التي كان يؤججها الاستعمار وعملائه، في ذلك اليوم توحدت صفوف وقلوب الشعب الإرتري بمختلف مكوناته تحت راية جبهة التحرير الإرترية، في ذلك اليوم أثبت عواتي ورفاقه المقاتلون، أن الثورة الإرترية لم تكن قلباً ميتاً، ولا طائراً مكسر الجناحين بل هي قلب ثوري ينبض بالحياة والحيوية والنشاط، وصقر لا تناله السهام والنبال، ولا تفلت منه فريسته مهما كانت طاغية او شرسة.
بهذا الإيمان القوي والراسخ بضرورة الكفاح المسلح من أجل تحرير الأرض والإنسان الإرتري من قيود الاحتلال البغيض، تحدى القائد البطل عواتي ورفاقه المقاتلون الأشاوس، هيلي سلاسي المدعوم آنذاك بكل قدرات قوى الشر والعدوان في العالم.
وبعد ان ادي واجبه الوطني رحل قائد هذه الثورة بجسده عن الدنيا وعاش بروحه وعطائه الثر في نبضات قلوب أبناء شعبه، تاركاً جيلاً من المناضلين الشرفاء الأحرار يواصلون المسيرة الثورية وينقلون بندقية التحرير من كتف إلي كتف، ويرفعون راية الثورة شهيداً وراء شهيد.
شاء الله عز وجل أن تنتهي هذه الحرب الطاعنة الخالية من التكافؤ والتي دامت ثلاثة عقود، بانتصار ثورة الشعب الإرتري. وقيام دولته، وإن كلفت الحرب الآلاف من الشهداء، والآلاف من الجرحي والمعطوبين، والآلاف المتشردين، وكذا مئات من القرى المدمرة، ومئات الغابات التي أحرقت، ودمار اعداد كبيرة من الثروة الحيوانية.
إنطلاقة الثورة الإرترية بقدر ما تمثل محطة هامة في التاريخ الوطني الإرتري، تظل مرتكزاً ومحفزاً للشعب في مقاومة النظام الدكتاتوري في اسمرا، الذي حطم آمال وتطلعات الشعب في الحياة الحرة الكريمة، ولا أدري ما الذي جعل الإرترين يغضون عن قصد او بدون قصد الطرف عنه أو يتحملون فساده وطغيانه طوال ثمانية وعشرون عاماً الماضية، فما من عاقل يعتقد بأن يرضخ الشعب الإرتري الحر الذي عرف عنه بحبه للحرية والعدالة وعزة النفس ورفضه للذل والهوان، لظلم النظام بل ويغض الطرف عن كافة الممارسات التي مورست ضده، فنظام مثل هذا لا يمكن تحمله أو يغض الطرف عنه، نظام قتل الأف الأبرياء في كل انحاء البلاد، وتسبب في تمزيق وحدة الشعب وزرع الحقد والكراهية بين مكوناته الاجتماعية، ودعا إلي معاني العنف والإكراه، وقمع معارضيه وخصومه، واجبر الكثيرين من مختلف الأعمار علي الهروب واللجوء خارج حدود البلاد ليكونوا عرضه للموت في الصحاري والبحار، وسخر كافة موارد البلاد في دعم اجندته الأمنية والقمعية، وأشعل الحروب في دول الجوار راح ضحيتها مئات الشهداء الذين كانت البلاد في أمس الحاجة إليهم، وتسبب في انهيار الاقتصاد الوطني، كما أثري أتباعه من اموال الشعب، وانتهك في ذات الوقت كرامة مواطنيه، وإنتزع كافة حقوقهم التي أقرتها الطبيعة والقانون، وفضل بعض قوميات الشعب علي القوميات الأخرى، واحتقر ثقافاتها وقيمها الدينية، أنفرد بحكم البلاد لأكثر من ثمانية وعشرون عاماً ذاق خلالها الشعب الإرتري أقسي أنواع الظلم والاضطهاد، كما وضع كافة مؤسسات الدولة في أيدي الذين يوالونه، بينما أبعد كل من لا يتفق معه في الرأي والتوجيه السياسي، والأسوا من ذلك أنه زج بهم في السجون والمعتقلات، وألقي أشر أنواع العقوبات الجسدية والنفسية عليهم، كما أنه سلب الإرترين كافة حرياتهم وحقوقهم المدنية كحرية التفكير والتعبير وحق تغيير النظام والتظاهر السلمي.
وأشار أحد الشباب الإرتريين في حديثه لي إلي أن ”الثورة الإرترية التي نحتفل اليوم بها، لم تكن للأسف سوي حلم جميل سرعان ما استيقظنا منه فوجدنا انفسنا نعيش العيشة نفسها التي رفضها ابائنا واجدادنا يوم رفعوا السلاح في وجه القوة الغاصبة، وازهقت أرواحهم في تغيير نحو الأفضل“.
هكذا أصبحت جرائم نظام أسمرا لا تحصي ولا تعد، يمارس أبشع أنواع الانتهاكات بحقوق الإنسان، يصادر جميع حقوق العيش والحياة الكريمة بسياسات ليس للقيم الأخلاقية فيها صلة ولا خير فيها للوطن، وفوق ذلك كله لم يبقي شيء يذكر من آمال وتطلعات الشعب، بالتالي اصبح نظام الهقدف سيئ الصيت، كابوساً واكبر شر علي إرتريا أكثر من الشيطان، فهل يستحق مثل هذا النظام الفاسد أن يحكم البلاد وشعبها الأصيل والمناضل، وهل يقبل العقل فكرة مناصرته أو مؤازرته أو يغض الطرف عن ممارساته التي ترفضها الأخلاق وكافة المعاني الإنسانية السامية ؟.
يقول أحد الحكماء: (عندما تسلب حريتك بالقوة تستطيع أن تستردها بالقوة، ولكن عندما تتخلي عنها تلقائياً وبرضي منك يصبح من المستحيل أن تستعيدها).
وأعتقد بأن بعض الارتريين بصورة واخري تخلا خوفاً أو جبناً من بطش وجبروت النظام عن حرياتهم برضى منهم، كما انهم تغاضوا الطرف عن مساوي النظام أيضاً برضى منهم، وهذا في رأي مكن النظام ليسرح ويمرح قتلاً وتدميراً في البلاد طوال ثمانية وعشرون عاماً الماضية، دون رقيب ولا حسيب !!
وهنا يبرز السؤال: هل يستطيع الإرتريين أن يناهضوا بجبهة ثورية موحدة نظام الهقدف ويستردوا حريتهم المسلوبة بالقوة أو يعيدوا استقلالهم الذي سرق منهم بالقوة وبالتالي يمنحوا الامل للشعب الإرتري في حياتهم الكريمة.
قُلْ لِلجَبَانِ إذَا تَأَّخَّرْ سَرْجُهُ *** هَلْ أَنْتَ مِنْ شَرَكِ المنِيّةِ نَاجِي
ويقول أيضاً أحد الحكماء: (إذا وجد الرجل ما يعيش من أجله يتحمل كل شيء).
نقول هنا إذا ما أمن الإرتريين بأنهم سيحصلون علي حياة حرة كريمة حينما يسقط نظام الهقدف، فإنهم سيتحملون كافة الأخطار والصعاب التي يمكن أن تنتج بسبب عملية المواجهة والاصطدام مع النظام.
إذاً: ماذا ينتظر الوطن والشعب بعد أن فكك نظام الهقدف لبنات الوحدة والوطنية ودمر البلاد ومارس الإستبداد علي شعبها، وما هي الخطوة القادمة المطلوبة للخروج من الأزمة الحالية التي لم تعد أزمة حكم، بل هي أزمة شعب وبلد ؟ هذه أسئلة أو غيرها يجب أن تطرح نفسها علي الشعب الذي يجب أن يضع في حساباته خطورة الوضع الحالي وفداحة ثمن مالاته، بعد ان كشف النظام عن البعد الحقيقي لمخططاته العنصرية ورغبته الجامة في السيطرة علي الأخرين وإخضاعهم بسلوك استعلائي مفرغ من القيم الإنسانية وتّعرت أدوات ثقافة العنف المجمعي والسيطرة أمام الجميع، فليس هناك مبرر من وقوف في خانة المتفرجين والمحيطين ولا مبالين واليائسين أو عدم التجاوب مع دعوات الإنتفاضة ضد النظام.
نأمل كثيراً أن تكون مناسبة الذكري 58 للثورة الإرترية موعداً مع التاريخ لخروج آلاف المتظاهرين في المدن والقرى، خروجاً لا يعودون بعده إلا وقد سقط نظام الهقدف في مزبلة التاريخ، وحينما يفعلون ذلك أجزم بأنهم سينجون بإذن الله تعالى في بناء وطن إرتري جديد، وطن ديموقراطي آمن يسع الجميـــع.