الفشل وإدمان الفشل
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح
لو لم يكن فشل، لما كان هناك نجاح، فالحياة كلها مبنية على الزوجية، السالب والموجب، ومن تفاعلهما تكون خطوة
نحو الأمام، وليس خطوة نحو الخلف.
ومن هنا إذا كان ثمة محفز إلى النجاح، فليس هو إلا الفشل، ذلك أن الفشل يجدد في الانسان إرادة النجاح.
والانسان في أقصر ما يمكن أن يعرف به هو كائن مريد، لا يتحرك خارج إرادته.
فإرادته هي دافع تفوقه، بها وحدها يستطيع أن يحطم كل الصعاب، وبها وحدها يستطيع أن يكسر كل القيود.
ومهما تكرر فشله، فلا بد أن يعبره إلى النجاح، ويتجاوزه إلى ما يريد، ما دام لم يصب في إرادته بعلة ما، من علل شل الإرادات وقهرها.
ولعل هذا ما عناه أبو القاسم الشهابي، حين قال: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر.
وفي الأدب الارتري التجرنيوي، أغنية تؤكد أهمية الإرادة، في نيل المراد، تقول:
• زي ندليو يخون إيو، كمي زي خون ؟
• ما نريده يكون لماذا لا يكون ؟
الجبريون وحدهم من يسلبون الإنسان إرادته، ليجعلوا منه مجرد ريشة في مهب الريح، يقلبه كيف يشاء.
وعليه أن يستسلم لقدره، فيدير خده الأيمن، لمن لطمه في خده الأيسر، ويسير ميلين، مع من سخره ميلا.
وحتى لا يحدث لبس، علينا أن نميز بين الرضا بالقدر، والتسليم به، وبين الاستسلام للقدر.
فالرضا بالقدر، يعني عدم التسخط، دون القعود عن مقاومته حين يكون شرا بالنسبة للانسان.
فمن مرض، رضي بالقدر، وفي الوقت نفسه قاوم المرض، فالمرض قدر، ومقاومته قدر، فيدفع قدرا بقدر.
وهكذا الفشل قدر، ومقاومته قدر، والجبرية هي إدمان الفشل.
وعليه، أن أكبر نجاح يحرزه الإنسان ويحققه في حياته، هو حين يفشل، ولا يستسلم للفشل.
ومن هنا ليس من تعريف جامع مانع للفشل، في نظري، سوى أنه الاستلام للأقدار المعوقة، والشعور باستحالة تجاوزها وردها.
وهذا ما يمكن أن نسميه (إدمان الفشل) إذا ما قبلنا بوجود شيء اسمه (إدمان الفشل) وإلا فلا شيء اسمه (إدمان الفشل).
لأن معنى (إدمان الفشل) هو عجز إرادي، يحول دون تجاوز نقطة الإخفاق، إيمانا بالجبرية.
وهذا العجز الإرادي، هو خلل في الإرادة، وليس خللا في قدرات الأداء.
ومع ذلك أن الإرادة، لا تعمل إلا في الواقع، ولا تنفعل إلا بالواقع، وفق مراعاة توفر الشروط، وانتفاء الموانع.
وهو ما يحتم عليها - أعني الإرادة - فقه هذا الواقع، بتحليله، ومعرفة مواطن الخلل فيه، ثم التحرك نحوه بعقلانية، لا معنى للعواطف فيها، إقداما، أو إحجاما.
فالحسين بن علي رضي الله عنهما مثلا، كانت له الإرادة في مواجهة سلطة بني أمية، غير أن إرادته هذه كانت عاطفية أكثر منها عقلانية، في انفعالها بالواقع، حين انخدعت بما تعاقب عليها من رسل ورسائل أهل العراق، ناسية أن انهزامات علي رضي الله عنه، وانكساراته، ما كانت إلا من تخاذل أهل العراق، وضعف إرادتهم في الانضباط، وهوان عزيمتهم في الثبات، وقابليتهم للانشطارات، حتى تمنى علي لو أن معاوية صارفه بواحد من أهل الشام، مقابل عشرة من أهل العراق.
وإدراكا منه لهذه الحقيقة التاريخية، والمجتمعية، والبيئية، نصحه ابن عباس أن يكف عن الخروج، أو ليكن خروجه من اليمن، وليس العراق، فأهل اليمن أشد صلابة، وأخلص ولاءا، وأحسن انضباطا.
وإذا ما عدنا إلى واقعنا الأرتري، وتأملنا نحن المسلمين مسيرتنا النضالية:-
• الرابطة الاسلامية،
• جبهة تحرير إرتريا،
• حركة الجهاد الاسلامي،
نلحظ الصلابة في إرادتنا، إلا أنها إرادة، غير استراتيجية، غالبا ما تنساق للعاطفة، أكثر منها للعقلانية.
تتسم بحسن الظن في من يغالبها على السلطة، وهذا لعمري ضروب من ضروب السذاجة، سريعا ما ترخي قبضتها، وتسلم زمام أمرها، إذا ما حرك محرك عواطفها.
وفي علاقتها بذاتها تحسب أن مجرد تلاوة آية من الذكر الحكيم، كفيلة بجمع شتاتها، وتوثيق عرى الوحدة الاسلامية بينها.
وتنسى أن دموع المسلمين، حين تلاوة القرآن آنية، لا تتجاوز حناجرهم، ثم سرعان ما تجف، فيتلاعنون ويتقاتلون، إذا ما فتنوا بالجاه والمال.
وينقصها التروي والنظر إلى المآلات، تستهويها العجلة، ويسهل خداعها، سريعة الانفلات، وربما شديدة الاضطراب، إلى حد الخلل في تحديد الأوليات، والثابت منها من المتغيرات.
فكل شيء عندها سائل مائع، يمكن سكبه، وكل شيء عندها متحرك، يمكن تغييره، في حين غيرنا له ثوابت، غير قابلة للتحريك والتغيير، ومتغيرات هي ساحة اللعب والمناورة.
وبهذا نحن لم ندمن الفشل، فليس هناك شيء اسمه (إدمان الفشل) ولكن لم ندرس عوامل فشلنا الذاتية، لنتخذ منها منطلقا لنا في بناء استراتيجية نجاحنا، حتى نغير ما بنا (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
ولم ندرس - نحن المسلمين - حقيقة مفعول الدين فينا، هل بلغ وعينا بالدين وانضباطنا به، إلى حد يجعل منا أمة واحدة، ذات مشاعر واحدة، على الأقل في إطارنا القطري اتعاظا بالتحديات التي تواجهنا.
• ما هي أسس مصالحنا بالتحديد ؟
• ما هي النقاط التي نتوحد عليها من مجمل مصالحنا هذه، وما هي التي نختلف فيها، وكيف نحلها ؟
• ما مفهومنا للوحدة الوطنية، هل هي مصلحة مشتركة، نلمسها حسا، ونشهدها عينا، أم هي ولع وهيام بالمجهول نجري وراءه ولا ندركه ؟
• ما حدود علاقتنا بالآخر ممن ابتلانا الله به، وابتلاه بنا، في هذا الوطن، إلى أي حد نتماهى معه، ومتى نطلق صفارات الانذار ؟
• هل لدينا فعلا خارطة طريق هي من صنعنا، نسير عليها، أم هي خرائط لغيرنا، متى خاطبت فينا عواطفنا اتخذنا منها دربا لنا ؟
أظن نحن نعاني من التشوش في الرؤيا، وهو ما ينمي فينا شروط (قابلية الفشل) إذا استعرنا نظرية المفكر الجزائري رحمه الله (مالك بن نبي) لا (إدمان الفشل).
وإذا كان ليس لإدمان الفشل وجود أصلا، في حياة البشر، كما أبنت، فإن وجود (قابلية الفشل) في الأنفس ميقون منه، غير أنه ليس ميؤوسا منه، ولا مقنوطا.