نهب أراضي "الدومنيالي" ومأساة أهلها
بقلم الأستاذ: آدم محمد صالح فكاك
يعتقد البعض أن أراضي الدومنيالي "الأراضي الحكومية" هي أراضي مشاعة لكل الناس، أي لكل من هب ودب، وليس لها ملاك
وليس لها شعب.
ولذا رأيت من واجبي أن أوضح الحقائق التالية لأبناء الشعب الإرتري وأجياله القادمة لكي يقاوموا بكل الوسائل قوانين وأدبيات السلب والنهب لهذه الأراضي.
أولاً: توجد أراضي الدومنيالي في الغالب الأعم في محافظات غرب وشرق إرتريا التي كانت ميادين للكفاح المسلح طيلة ثلاثين عاماً.
وفي الحقيقة إن أراضي الدومنيالي، هي دومنيالي لأهلها وأصحابها، أهل المحافظات المذكورة الذين ولدوا وعاشوا فيها لقرون طويلة، قبل الاحتلال الأوربي والتركي يزرعونها ويرعون مواشيهم فيها، وهي ليست أراضي مشاعة لغيرهم، وليست أراضي بلا شعب لكي يجلب إليها مستوطنين من محافظات أخرى مثل محافظات كَبَسَا الذين يسلبون هذه الأراضي من أصحابها الحاضرين واللاجئين بقوة قانون نظام الشعبية الظالم.
وقد أوضح ذلك الشهيد السيد الأمين إدريس آدم "رحمه الله" الإداري الشهير (محافظ مديرية أغردات، ونقفة، ومصوع وعصب ومحافظ محافظة أسمرا والحماسين، ونائب الحاكم العام في إرتريا سابقا) بوثائق رسمية منذ وقبل الاستعمار الأجنبي لإرتريا ورفض نهب الأراضي بدعوى أنها أراضي دومنيالي "حكومية".
ولذلك عندما بدأت حكومة أسفها ولدميكاتئيل والقس ديمطروس بالتخطيط للاستيطان بدءً بشق طريق عرزا - القاش.
ثم بفصل منطقة القاش عن مديرية بركا (مديرية أغردات)، وتم تعيين الكولونيل قبريقال محافظاً لما سمي مديرية القاش.
وقام قبريقال بحملة سلب ونهب واستيطان على الأراضي دون مراعاة حقوق أصحاب الأراضي كما ذكر الأخ الفاضل أبو حيوت في مقاله بتاريخ 2008/6/24م في موقع "عونا".
وفي سنوات الكفاح المسلح (1961-1991)، كانت محافظات غرب وشرق ارتريا "أراضي الدومنيالي" ميادين للقتال، وأعطى شعب تلك المحافظات المال والولد من أجل تحرير ارتريا. فقد أحرقت مساكنهم ومزارعهم وأبيدت مواشيهم، وقتل الرجال والنساء والأطفال على الهوية "بدو" على أيدي الكوماندوس وهم إريتريون، دون رحمة أو شفقة "لعل أبناؤهم اليوم يفاخرون بإنجازات آبائهم القتلة". مما أجبر الآلاف على اللجوء إلى السودان كمأوى آمن لهم في أوائل عام 1967م.
وقد قدم لهم السودان الشقيق حكومة وشعباً "وخصوصاً شرق السودان" المساعدات المادية رغم ظروفه الاقتصادية الصعبة، وتبنى قضيتهم في محافل ومؤتمرات اللاجئين في العالم.
ثانياً: تحرير إرتريا ومأساة أهل الأرض في غرب وشرق إرتريا.
عندما تم تحرير إرتريا من الاحتلال الإثيوبي بسواعد كل أبنائها، استبشر الإرتريون خيراً بحكومة الجبهة الشعبية برئاسة إسياس أفورقي، خصوصاً وأن السيد إسياس يعرف تماماً محافظات غرب وشرق إرتريا التي احتضنت تنظيمه لسنين طويلة، وأنه سيحكم بالعدل والمساواة بين المسلمين والمسيحيين وأنه رأى بأم عينه مآسي تلك المحافظات أرضاً وشعباً وأنه سيقدر نضالهم كرواد للثورة وما تعرضوا له من مذابح من جراء ذلك، وأنه... وأنه... الخ !!
ولكن للأسف الشديد فاجأهم رئيسهم إسياس بمخططاته الاستيطانية بنقل رئاسة محافظة بركا والقاش من مدينة أغردات الباسلة والعاصمة التاريخية للمحافظة، إلى المدينة الصغيرة بارنتو. وذلك لتهميش وقتل هذه المدينة بكل الوسائل السياسية والاقتصادية، وحتى الحافلات والسيارات الأخرى لا تتوقف في أغردات، ولا ينزل الركاب في أغردات لكي لا يستفيد سكانها من هذه الحركة. أي حقد هذا على أغردات العزيزة وأهلها البواسل. ولم تعرف أغردات هذا القدر من الحقد والكراهية حتى في أيام الاستعمار الإثيوبي.
وإن نقل عاصمة المحافظة إلى بارنتو كان بقصد تسهيل الاستيطان إدارياً، والذي مزقت بموجبه محافظات غرب وشرق إرتريا وتم تفصيلها لكي تتلاءم مع استيطان أهل كبسا في تلك المحافظات المناضلة، ضارباً عرض الحائط بكل حقوق أهلها. فترى أنه حتى محافظة أسمرا والحماسين الصغيرة أصبح لها حدود مع السودان شاقاََّ بطن المحافظات الغربية حتى الحدود السودانية. وكذلك وصل حدود محافظة أكلو قزاي وسرايِ إلى السودان وإلى البحر الأحمر شاقاََّ بطن محافظات شرق إرتريا.
وهكذا بدأت جحافل الاستيطان أفواجاً إلى مدن وأراضي الساحل وبركا والقاش الخصبة، وتم تجاهل عودة اللاجئين من السودان وغيره. وبعد تباطؤ طويل تفضل الرئيس إسياس بعودة بعضهم إلى مناطق جدباء لا ماء فيها ولا كلأ ورفض إعادتهم إلى مناطقهم الخصبة التي ولدوا وعاشوا فيها أباً عن جد ولجئوا منها بقوة الحديد والنار إلى السودان.
وقد أمر فخامته ببناء قرى لهم في تلك المناطق الجدباء مثل منطقة "ألبو" وغيرها، مبنية من أكواخ تشابه أكواخ الكلاب ومدهم بمواد غذائية مؤقتة وبسيطة، كالقليل من الطحين وبعض الأرطال من الزيت ...الخ! أي أصبحوا لاجئين مرة أخرى وفي وطنهم! ! وفي مناطق جدباء لا ماء فيها ولا كلأ، ولا مستقبل معيشي لهم فيها بالرغم من مطالبتهم بإعادتهم إلى مناطقهم التي عاشوا فيها ولجئوا منها. وبالعكس خصص للمستوطنين من كبسا قرى حديثة مبنية من الحجر والطوب ومزودة بالمياه والكهرباء والمدارس والعيادات الطبية وأسباب معيشية وكل ذلك في الأراضي الخصبة التي لجأ منها أهلها.
وقد تم تغيير أسمائها إلى قرى عدى قشي وعدى أبرهيت ...الخ. وبنيت الكنائس على طول الطريق إلى السودان وفي كثير من قرى المسلمين رغم أنه لا يوجد بها مسيحي واحد مثل قرية "مقلو بادوب" وسواها. وحتى الذين جاءوا من إثيوبيا أمهم "كما كانوا يقولون ذلك عبر العصور" بنيت لهم قرى حديثة بالطوب مزودة بالمياه والكهرباء والمدارس والعيادات الطبية ووفرت لهم أسباب المعيشة من زراعة ومواشي ...الخ.
أما أهل الأرض فقد فقدوا أرضهم كما ذكرت آنفاً وعوملوا معاملة الغرباء والمنبوذين وفرضت عليهم سياسة المثل الشعبي الذي يقول "جِيسْ إيتبلُّو... كُمْ جَيِسْ وِدَيُو" أي لا تطلب منه الرحيل مباشرة ولكن عامله معاملة سيئة حتى يرحل هو من تلقاء نفسه. وكل الضجيج بشق الطرق وبناء السدود وإصلاح الأراضي، والزيارات المتكررة من الرئيس وموظفيه باسم التنمية - "تنمية لمن؟!!" هي لمصلحة وتنمية المستوطنين وليس للمواطنين أصحاب الأرض، إلاّ القلة القليلة من الأشخاص الذين يظهرون في وسائل الإعلام بقصد الدعاية والتضليل.
هذه هي مأساة اللاجئين الإرتريين في غرب وشرق إرتريا بعد العودة إلى الوطن المحرر !!! ... محرر من أجل من يا ترى ؟!!!
أما اللاجئين من أهل المدن في تلك المحافظات، فلهم حكاية أخرى عجيبة !
فبعد لجوء سكان تلك المدن حل محلهم أناس آخرون يعملون في خدمة الجيش الإثيوبي والكومندوس الإرتري في منازلهم، وأصبحوا أصحاب منازل لم يولدوا فيها أو يبنوها، وجل هؤلاء من أصحاب وصاحبات المقاهي والبارات والمواخير ...الخ. وعندما عاد اللاجئون إلى ارتريا وكلهم شوق إلى مدنهم ومنازلهم، وجدوا أعلام البارات الحمراء ترفرف في شوارع مدنهم، ووجدوا منازلهم محتلة من قبل من كان يخدم جيش الاحتلال الإثيوبي ! وعندما يطلب المواطن العائد من اللجوء إخلاء منزله يقول له المستوطن: لقد هربت "هديمكا"، وأصبح هذا المنزل منزلي. وهنا يرفع صاحب المنزل الحقيقي شكواه مصطحباً وثائق ملكية المنزل وشهود يعرفون المنزل إلى الشرطة أو البلدية، ثم إلى إدارة الأراضي "والتي يعمل فيها موظفون لا يعرفون البلد ولا الناس، وكل ما يهمهم هو إسكان المستوطنين الجدد". ويفاجأ برد رئيس مكتب الأراضي الذي يقول له: "هذا مواطن مثلك، أين تريده أن يذهب، وليس له منزل غير هذا المنزل الذي تدعي ملكيته، وسوف يخلي هذا المنزل عندما يجد منزلاً غيره!! وهيهات أن يجد منزلاً بالمجان مثل هذا المنزل !!!".
ويقضي مالك المنزل الحقيقي شهوراً وربما أعواماً وهو يكرر شكواه من مكتب إلى آخر دون جدوى، وإذا أعيد إليه منزله بعد زمن طويل، يجده محطماً ودون أبواب أو نوافذ. ويجب عليه هنا مراجعة البلدية لدفع رسوم إصلاح وتركيب الأبواب والنوافذ ولا يسمح لأي شخص أن يركب أبواب أو نوافذ منزله أو يطلي غرف منزله دون علم البلدية ودفع الرسوم المفروضة على ذلك !!!
هذه الأحوال وتلك القوانين تسري في إرتريا المحررة فقط ! إنه لعجب عجاب، وهذا غيض من فيض أيها الناس.
صحيح أن ارتريا قد تحررت من الاحتلال الإثيوبي الإقطاعي ثم الفاشي، ولكنها لم تتحرر من الظلم والتسلط والفقر والمرض والجهل والتجهيل، وهي المصائب التي قامت الثورة الإرترية لاستئصالها، وليس لإقامة حكومة طائفية وكنسية.
وأهيب هنا بالمعارضة الإرترية، العلنية منها والسرية، أن تضع قضية الأراضي المذكورة وجميع حقوق المسلمين السياسية والثقافية في جدول أعمالها والمطالبة بها. وليس من الوطنية في شيء التجاهل والتعامي عن الظلم الذي حاق بمواطنيهم في دروب الحياة. وهذا لمصلحة المواطنين الإرتريين جميعاً، مسيحيين ومسلمين، على المدى القرب والبعيد.
وأود هنا الإشارة إلى أن هذا المقال لا يرمي إلى الإساءة للأخوة المسيحيين بأي حال من الأحوال، سواء كانوا من منطقة كبسا أو غيرها، ولكنه يهدف إلى إحقاق حق إخوانهم المسلمين في أرضهم وحقوقهم السياسية والاقتصادية والثقافية أسوة بهم. فليس من العدل أن تنهب وتسلب أراضيهم بدعوى العدل والمساواة والوحدة الوطنية، وهذا كذب "وضحك على الذقون" لأن الوحدة الوطنية لا تقوم على ظلم شركائهم وتجريدهم من حقوقهم التي ناضلوا من أجلها. ونرجو منهم رفض تحريض حكومة الشعبية للوقيعة بينهم وبين إخوانهم المسلمين، لأن هذه الحكومة لا تستطيع العيش إلاّ بزرع الفتنة بين الشركاء في الوطن الواحد.
كما أود هنا تنبيه وتحذير نظام الجبهة الشعبية من التمادي في ظلم الشعب الإرتري، ونطالبه بإلغاء جميع الإجراءات والمحافظات الاستيطانية في غرب وشرق إرتريا وإعادة اللاجئين الإرتريين إلى مناطقهم التي لجئوا منها قبل فوات الأوان. وعدم رفض وتجاهل عودتهم من السودان إلى إرتريا كما قال وزير خارجية النظام في زيارته الأخيرة للسودان "فلينتظروا إلى الأبد" .. هكذا !!!
إن تطبيق نموذج الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين أصبح مكشوفاً وغير مقبول إطلاقاً مهما علا الضجيج وتنوعت وتعددت المساحيق لإخفاء الوجه الكالح لمخططات الاستيطان الظالم. ولن يكون شعب غرب وشرق إرتريا هنوداً حمراً يتذاكى عليهم هذا النظام الطائفي.
كما أن مخطط طرد مواطني المحافظات الغربية إلى السودان لإقامة دويلة لهم في شرق السودان لتذويبهم، أصبح مكشوفاً ومعروفاً. وليعلم أصحاب هذا المخطط العدواني بأن الشعب السوداني في شرق السودان خصوصاً هو الذي ساند ودعم الثورة الإرترية مادياً ومعنوياً حتى تم تحرير الوطن الإرتري. ولن يرضى الشعب الإرتري أبداً بوطن بديل عن وطنه إرتريا. كما أن تفتيت السودان الشقيق ليس من مصلحة الشعب الإرتري، بل هو لعب بالنار.
وختاماً، إن الشعب الإرتري الذي قاتل جيوش الاحتلال الإثيوبي، قادر بعون الله على استخلاص حقه في أرضه وسيادته المغتصبة بدمائه، مهما كان الثمن، ومهما طال الزمن, وعلى الباغي تدور الدوائر.