هل سقطت الهوية الوطنية الإرترية الجامعة في امتحان المحن؟
بقلم الأستاذ: زين العابدين محمد علي (شوكاي) ستوكهولم، السويد
قبل يوم واحد من الشروع في كتابة هذه المقالة دار حديث بيني وبين الأخ العزيز إبراهيم محمود قدم ”أبو حيوت“ بعد غيبة طويلة
نسبيًّا بسبب الانشغالات من الطرفين. كان الحديث قصيرًا ومقتضبًا ولم يتطرق إلى الكثير من القضايا، لكن أهم ما فيه كان تبادل الحديث عن هموم الوطن ومستقبله، وكعادة ”أبو حيوت“ فهو مهموم دائمًا بالوطن، وصادق أيضًا في همومه هذه المعبرة عن خوف حقيقي من تردّي أوضاع المعارضة الإرترية، وتردّي أسوأ في صفوف من يعارضون المعارضة.
ما يلفت النظر في مواقف وأحاديث الأخ قدم تمسكه العجيب بالهوية الوطنية الإرترية الجامعة التي أصبح الاستهزاء منها تقليعة هذا الزمان الرديء. كيف لا، وأمثال قدم من مناضلي جبهة التحرير الإرترية يمثلون القيم المتبقية من تراث الحركة الوطنية الإرترية ونضالات الثورة الإرترية بدءًا من القادة إبراهيم سلطان، وعبد القادر كبيري، ومحمد عمر أكتيو، ومحمد بادمِّي، وحامد عواتي، وعمر إزاز، ودنقس أري، ومحمد أحمد عبده، وعثمان صالح سبي، ومحمد سعيد ناود، وأبرهام تولدي، وجبريهيوت حمبرتي، وفظوم جبري سلاسي، وألم مسفن، وأرقاي هبتو، وإبراهيم عافة، وسعيد حجاي... إلى آخر القائمة الطويلة من التضحيات التي لم ولن تتوقف مع الأسف.
بالعودة إلى عنوان المقال، هناك تساؤل مشروع يطرح في هذا الوقت العصيب، وهو: ”هل سقطت الهوية الوطنية الإرترية في امتحان المحن؟“. الإجابة على هذا التساؤل ليس بهذه البساطة، والمشككون أو المتشككون في إمكانية الدفاع عن الهوية الوطنية الإرترية الجامعة، والمدافعون عنها، لهم منطقهم، ولهم تجاربهم، ولهم تحفظاتهم التي يجب التسليم منذ البداية بأنها متعادلة ومتكافئة في قوتها، ولها ما يدعمها على أرض الواقع. ولكوني من المدافعين عن الهوية الوطنية الإرترية الجامعة والمؤمنين بجدواها وأهميتها فلن أقدم وجهة نظر محايدة في هذه المقالة، بل سأدافع قدر المستطاع عن قناعتي هذه التي لا تبخس بأي حال قناعات الآخرين ولن تنتقص منها.
تشكلت الهوية الوطنية الإرترية في ظروف بالغة التعقيد، وبقدر كبير من التعسف والظلم، اللذين لم يتيحا لهذه الهوية الجامعة أن تنمو في بيئة وأجواء صحية وتحت شروط، وإمكانيات، وتطورات نابعة بالضرورة من واقع الشعب الإرتري. كلنا يعرف قصة تكوين الوطن الإرتري الحديث، بدرجات متفاوتة من الدقة، والوعي التاريخي والسياسي المطلوب، لكن هذا التكوين المتعسف في رسمه للخارطة الإرترية، لم تكن فيه إرتريا استثناءً، بل يمكن القول إن إرتريا التي ظل شعبها يعاني دومًا من تبعات الانقسام الطائفي الحاد بشكل خاص في كل منعطفات تكوين البلاد الحرجة، هذه المنعطفات الحرجة بالذات هي المحطات الـتي أثبت فيها الوطن الإرتري قدرته على تخطي المحن والعقبات التي كانت توضع أمام نجاحه دائمًا، مرة بتآمر جزء من أبنائه ضد مشروع الوطن، لكن في الغالب الأعم كانت القوى الخارجية ترى في إرتريا وموقعها الجغرافي من الأهمية بمكان بحيث يصعب عليها تركها وشأنها في جميع الحقب التاريخية.
الإغراق في تفاصيل هذه المفاصل الهامة من تاريخ الشعب الإرتري نفسها يمكن أن تكون موضع خلافات واجتهادات، رغم أن تاريخ الشعب الإرتري حتى الحديث منه، ناهيك عن القديم والوسيط، لم تتم دراسته في إطار رؤية شاملة تضع القارئ إلى حد ما في صورة تجعله على دراية بالكثير من أوجه القوة والضعف في تكوين هذا الكيان الحديث نسبيًّا. ولو حصرنا أنفسنا في البحث عن مرتكزات الهوية الوطنية الإرترية الجامعة في التاريخ الحديث، سنجد، كما سبق وأشرنا، تحفظات تطرح من قبل الإرتريين وغير الإرتريين على الكيفية التي تم تكوين الوطن الإرتري من خلالها، رغم أن الظروف والملابسات نفسها كانت وراء تكوين سائر الأوطان والشعوب المجاورة لنا، حتى لو حاول البعض، وخاصة في إثيوبيا، وبدرجة أقل في السودان، محاولة الادعاء بأن تاريخهم الوطني موغل في القدم. هذا، مع احترامنا لهم جميعًا، يجافي حقائق الواقع على الأرض، بحكم أن مفهوم الدولة الحديثة بشكله المعروف به اليوم، وفي الواقع والممارسة الفعلية أيضًا، حديث نسبيًّا حتى بالنسبة لأوروبّا التي تعتبر رائدة في هذا المجال، والتي لعبت دورًا محوريًّا في تكوين الدول والأوطان في العالم الآخر غير الأوروبي في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية.
دعونا نحصر المقارنة الآن بين إرتريا، والدولتين الأقرب لها في الجوار، والأكثر تأثيرًا عليها من حيث الواقع، وهما إثيوبيا والسودان. ودعونا نقر أيضًا بأن هناك اليوم على أرض الواقع ثلاث دول، لها ثلاث عواصم (أسمرا، وأديس أبابا، والخرطوم)، وثلاث حكومات، وثلاثة أعلام وطنية، وتحظى هذه الدول الثلاث بعضوية الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي. هذا الواقع كيف يمكن فهمه والتعامل معه ؟ لا يمكن التعامل مع هذا الواقع إلاّ على أساس أن هناك هويات وطنية مختلفة لمواطني هذه الدول الثلاث يجب احترامها قانونيًّا، وسياسيًّا، أين إذًا المشكلة ؟
المشكلة هي أنه كلما أطلت على إرتريا والإرتريين بارقة أمل بأن هذه هي فرصتهم التاريخية لتكوين هوية وطنية إرترية جامعة تحت مظلة دولة موحدة، مثلها في ذلك مثل الدولتين الأقرب لها جغرافيَّا، انقض على هذا المشروع من يعرقله نتيجة عوامل داخلية وخارجية، لكن تركيز الإرتريين كان ينصب دومًا في خطابهم وفعلهم على مقاومة العامل الخارجي، ونسيان أن هناك، ولو مؤقتًا، ظروفًا داخلية سمحت لهذا العامل الخارجي أن يلعب على هذه التناقضات لعرقلة مشروع الوطن الإرتري الجامع. والسؤال الذي يطرح نفسه أيضًا هو: كيف تجلى موقف الدولتين المجاورتين لإرتريا شعوبًا وحكومات من مشروع الدولة الإرترية المستقلة ؟
الموقف السوداني الرسمي ظل طوال حقب النضال الوطني الإرتري سيئًا في مجمله متمثلًا تارة في الإهمال والتجاهل المتعمد لحجم المأساة، وتارة أخرى في استغلال القضية الوطنية الإرترية لابتزاز الحكومات الإثيوبية المتعاقبة للتخلِّي عن دعم الحركات الانفصالية المسلحة في جنوب السودان. أما الموقف الشعبي، من عامة الناس ومثقفيهم، كان في مجمله داعمًا لحق الشعب الإرتري دون أن يرتقي إلى فهم عميق لأهمية إرتريا الاستراتيجية بالنسبة للسودان واستقراره المستقبلي، والاهتمام بالامتداد الثقافي والبشري الذي يعنيهم في إرتريا في المقام الأول، إلى درجة أنه قيل لأحد قادة العمل الوطني الإرتري مرة كنصيحة أن يتعامل مع السودان الرسمي على أنه ليست لديه استراتيجية، وبالتالي يبني استراتيجيته على هذا الأساس.
أما الموقف الإثيوبي من حق الشعب الإرتري في الحرية والاستقلال لم يجد أي قبول رسمي حتى بعد سقوط الإمبراطورية وتحول إثيوبيا إلى دولة اشتراكية تقدمية، كما كانت تدعي. والموقف الشعبي الرافض أيضًا لحق الشعب الإرتري في الاستقلال لم يشهد تحسنًا حتى بعد اعتراف إثيوبيا الرسمية بالأمر الواقع في عام ١٩٩١، بأن للشعب الإرتري الحق في تقرير مصيره بنفسه، باستثناء النخب السياسية من أبناء إقليم تجراي على وجه الخصوص، لظروف تاريخية لسنا بحاجة للدخول في تفاصيلها.
هناك مآخذ جادة تتعلق بالعلاقات الإرترية السودانية، والعلاقات الإرترية الإثيوبية التي تعتبر موضوعات نقاش وخلاف حتى بين الإرتريين أنفسهم. فالسودان الرسمي على سبيل المثال، بالإضافة إلى مواقفه المهادنة، بل والممالئة للنظام في أسمرا، متهم أيضًا في السنوات الأخيرة بتجنيس الإرتريين أفرادًا وجماعات، رغم أن هذا الموضوع معقد ومتشابك، ولا يمكن الحكم عليه بهذه البساطة. هذا بالنسبة للسودان، أما بالنسبة لإثيوبيا يتمحور النقد غالبًا في دعم الحكومة الإثيوبية الواضح للتنظيمات القومية، وبناء علاقات متميزة معها، على حساب علاقاتها بالتنظيمات ذات القاعدة الوطنية العريضة. هذا النقد على علاته لا يخلو من بعض أوجه الحق للمتابع العادي، لكنه يحتاج إلى التوقف والتدقيق أولاً، ثم البحث في الدور الذي يلعبه الإرتريون أنفسهم، بوعي أحيانًا ودون وعي في أغلب الأحوال في تعميق مشكلاتهم وتشعبها. هذه المواقف والممارسات كلها كان لها تاثير سالب على الهوية الإرترية الجامعة، وتعيق نموها وتطورها المستقبلي.
أما تجربة ما بعد التحرير فهي الأكثر مرارة عن بقية التجارب المعيقة في طريق نجاح تجربة تكوين وطن إرتري جامع. قد يتفق معي الكثيرون بأن فشل الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في إنجاح مشروع الوطن الإرتري الجامع لم يكن وليد مزاج شخصي لقائد هذا المشروع الطائفي - القومي، الذي تمكن بصورة فيها الكثير من الخبث والدهاء في التلاعب على تناقضات هذا المجتمع القبلية، والطائفية، والإقليمية لصالح فكرة الدولة الطائفية – القومية الفاشلة بشهادة الجميع. كما أن هناك عوامل أخرى ناشئة عن طبيعة التكوين الإرتري لعبت دورًا تخريبيًّا في هذا المشروع، عندما تحولت التناقضات الثانوية إلى تناقضات رئيسية في مرحلة من مراحل تاريخنا الوطني، واستغلها نظام الجبهة الشعبية ورمزه الرئيسي إسياس أفورقي استغلالاً بشعًا. هذا المبرر على وجه التحديد، وهو فشل الدولة الطائفية القومية، كان يفترض أن يكون مبررًا كافيًا ودافعًا للتمسك بالهوية الوطنية الإرترية الجامعة، التي ينبغي أن تكون قادرة على احتواء تنوعنا الثقافي، والديني، وغيرها من الهويات الأخرى التي قد تكون موازية لدى البعض في أهميتها للهوية الجامعة، لكن ليس بالضرورة أن تكون مناهضة لها أو أن تنفيها.
في حالتنا الإرترية، وفي حالات أخرى شبيهة لها، نرى مع الأسف أن التاريخ يعيد نفسه مرات ومرات بصورة لا تؤدِّي إلى التعلم منه، وأخذ الحيطة والحذر من أن يتحول التاريخ في نسخته المكررة إلى مهزلة، كما هو رأي بعض المفكرين الذين يؤكدون على أن التاريخ إذا كرر نفسه أصبح مهزلة. وحتى لا يصبح تاريخنا النضالي الطويل مهزلة، والذي كان عطاؤنا فيه مكلفًا، دفعت فيه كل مكونات الشعب الإرتري دون مزايدة ثمنًا باهظًا، نحتاج كإرتريين إلى وقفة جادة مع أنفسنا ومع هذا التاريخ، وأولى هذه الوقفات هي بالضرورة التفكير بجدية في نوع التغيير القادم الذي ننشده لبلادنا؟ وسيلة التغيير قد تختلف ولا يمكن التكهن بشأنها كثيرًا، لكن الأهم هو الإقرار بأن التغيير قادم، وأن هذا التغيير يجب أن يقود خطوة نحو الأمام في تعزيز وتقوية الهوية الوطنية الإرترية الجامعة.
أساس هذه الهوية الوطنية الإرترية الجامعة ينبغي أن يتواضع عليه الإرتريون فيما يشبه بالعقد الاجتماعي بين مكونات الوطن الإرتري، في علاقات هذه المكونات ببعضها أولاً، وفي علاقتها بالسلطات السياسية التي تحكم البلاد ثانيًا. البعض يرى أن نظرية العقد الاجتماعي قد تقادم عليها الزمن، وأن هناك الكثير من البدائل الأخرى المطروحة في هذا الشأن. الأهم من هذا كله هو أن تتاح للإرتريين مساحات عمل واسعة، ونظم وقوانين واضحة، تتيح لهم أن يطرحوا من خلالها شروطهم للتعايش، ورؤيتهم لمستقبل بلادهم، المبني على الاحترام الكامل وغير المنتقص لأي مكون من هذه المكونات مهما صغر هذا المكون أم كبر، ليكون إسهام الإرتريين أفرادًا وجماعات حاضرًا في عملية التراضي التي تتم بينهم للتعايش على قدم المساواة، ويدافعون عن الأسس التي بني عليها هذا التراضي معًا في حال تعرضها لأية مهددات داخلية أو خارجية، وبالتالي يصبح للإرتريين بهذا الشكل أسس للهوية الوطنية الجامعة التي يدافعون عنها جميعًا في حال تعرضها للمهددات، وهم على قناعة بأنها ستكرَّس في نهاية المطاف لخدمتهم كأفراد مواطنين، بصرف النظر عن انتمائهم الديني، أو القبلي، أو الإقليمي، وبالتالي يبنى الحكم على الفرد على أساس المواطنة، ويكون العطاء بدل الولاء معيارًا لتولِّي المسؤولية.