ماذا وراء إعادة ترتيب الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي؟؟؟
بقلم الأستاذ: زين العابدين محمد علي (شوكاي) ستوكهولم، السويد
لتطورات التي تشهدها إثيوبيا جاءت كاستحقاق للكثير من التحركات والنشاطات التي سبقت هذه التغييرات التي تعتبر من الوزن الثقيل،
بينما ما يحدث في إرتريا جاء إلى الرئيس الإرتري إسياس أفورقي كمنحة، دون أن تطلب الجماعات الضاغطة إن وجدت، سواء أكانت أفرادًا أو حكومات، من الرئيس الإرتري أية إصلاحات، حتى لو كانت شكلية، والتي كان من المفترض أن تسبق هذه الخطوات كشرط لعودته إلى الحظيرة الدولية.
إن الأحداث التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي ليست أحداثًا عادية يمكن إرجاعها لعوامل منطقية ومتوقعة، بل هي أحداث متسارعة وكبيرة وصعبة التوقع، حيرت حتى أكثر الأشخاص قربًا ومتابعة لملفاتها وأحداثها، وفاجأت الكثيرين بتغييراتها الإيجابية في الغالب الأعم، لكن مجرياتها قد تكون كارثية على البعض الآخر، خاصة تلك الأطراف التي كانت تتحكم على وقع الأحداث وسرعتها بغير وجه حق في أغلب الأحوال، وباستخدام مختلف أنواع القوة الناعم منها والقاسي بنِسَب متفاوتة.
ما هو إذًا ما نعتبره إعادة ترتيب للأوضاع في منطقة القرن الأفريقي ؟ هذه القراءة هي قراءة للمرئي والمسموع من التصرفات في الفترة القليلة الماضية والتي تجعلنا نعتقد بأن هناك ترتيبات جديدة تتم بصرف النظر عن الشركاء فيها، لكن البطل الرئيسي فيها هو رئيس الوزراء الإثيوبي، الدكتور أبي أحمد. وصل الدكتور أبي أحمد إلى السلطة في إثيوبيا في منعطف تاريخي هام من تاريخ الشعوب الإثيوبية، حيث وصلت المواجهة بين السلطة الحاكمة في إديس أبابا وبين الشعوب الإثيوبية مرحلة كانت تنذر بنتائج كارثية أو دموية، وبالتالي لم يكن وصوله للسلطة فقط لتهدئة الأوضاع المأزومة حينها، بل كاستحقاق كان لا بد منه لتفكيك تشابكات هذه الأزمة قبل انفجارها، وجاء أبي أحمد كتعبير لهذه التطلعات في تصرفاته وتصريحاته، إلا أنه وفِي ظل وجود الدولة العميقة بكامل صحتها، يطرح السؤال المتعلق بقدرته عن التعبير عن تطلعات الشعوب الإثيوبية بهذه الثقة وهذه الشجاعة، ويجعلنا نفكر مباشرة، ما هي القوى الإقليمية والدولية التي تساند مشروعه لإصلاح العلاقة بين السلطة الحاكمة والشعوب الإثيوبية دون أن تعترض طريقه الدولة العميقة، الممثلة في الجيش والأمن.
التخمينات كثيرة، إلا أنها تبقى في تقديري مجرد تخمينات، إن لم نجد لها ما يسندها من توثيق دقيق. والحديث بالظاهر يعكس جزءًا من حقائق الباطن المخفية عن العامة، لكن العنصر الداخلي يبقى هو الحاسم لإنجاح أي ترتيب محلي / إثيوبي أو إقليمي / قرن أفريقي. ودون الدخول في تفاصيل التفاعلات التي أدت إلى مجيء أبي أحمد في السلطة، سواء ما كان يحدث في الشارع السياسي الإثيوبي، أو في داخل الائتلاف الحاكم، الجبهة الثورية للشعوب الإثيوبية، فإنه من المؤكد لدينا هو أن مجيئه فرضته استحقاقات محلية إثيوبية، وفِي تفاعل واضح مع التغييرات الإقليمية والدولية لأسباب لا يمكن الإحاطة بها كلها، ما يجعلها أرضية خصبة لنظريات المؤامرة بكل أنواعها.
في نظري أن منطقة القرن الأفريقي برمتها، ومن خلال النظر في تاريخها المعاصر، نجدها منطقة تناحر، وتخلف اقتصادي، ونزاعات بين الدول والإثنيات المكونة لهذا الإقليم، وأعتقد أن أساس هذه النزاعات والمعاناة اقتصادي أكثر منه اجتماعي أو ثقافي أو سياسي، بمعنى أن أسبابه الخفية هو الصراع على الموارد الشحيحة، لكن من طبيعة النزاعات والصراعات أن تبحث لها عن تبديات اجتماعية وثقافية وسياسية ليصبح مبرر التناحر والتقاتل أقوى.
نحن لسنا استثناء في هذا الصدد، إذ نجد الصراع على الموارد وراء الحروب التي تخوضها القوى العظمى بنفسها أو من خلال وكلائها، وإذا كان الأمر كذلك فلترحب شعوب القرن الأفريقي بأن الصراع الذي كان يدور رحاه في الشرق الأوسط منذ أكثر من سبعين عامًا، والذي نعتقد أن منشأه اقتصادي، بمعنى التحكم على الموارد، وعلى الموقع الجيو - سياسي الهام، نرى أنه قد انتقل إلينا، وإن كانت المنطقة قد تعرضت له منذ وقت مبكّر، بحكم قربها من منطقة الشرق الأوسط، وتداخلها معها. لكن بروز جانب الصراع على الموارد لم يكن بنفس الوضوح والحدة في منطقتنا، وبنفس القدر الذي كانت عليه الأوضاع في الشرق الأوسط.
من المؤكد أن منطقة القرن الأفريقي التي تمر من بواباتها وشواطئها الكثير من شحنات التجارة العالمية محملة في بواخر ضخمة لم تستفد المنطقة ولو بنسبة يسيرة من فوائدها، بحكم عدم الاستقرار الذي كانت تشهده المنطقة لعقود طويلة. كما أن الاستثمار في الموارد الطبيعية والبشرية لهذه الدول وهذه الشعوب لم يكن في الحسبان، بل كانت توصف المنطقة في وسائل الإعلام العالمية بالمجاعة والفقر والحروب والتخلف، ما جعل شعوب المنطقة أن تفقد الثقة في مستقبل أجيالها، وأصبحت الأجيال من أبناء المنطقة يهربون من بلدانهم بحثًا عن ملاذ آمن يحقق لهم الشروط الضرورية لحياة كريمة ومستقرة.
قابلت قبل أيام شابا هرب من الخدمة الإلزامية غير محددة المدة في إرتريا، التي غادرها قبل أقل من عشر سنوات، وهو الآن في السويد لديه عمل وأسرة وأطفال وسيارة، وبعد أن شاهد ويلات الحرب الإرترية - الإثيوبية الأخيرة، ويعيش الآن حياة هادئة ومستقرة في السويد. وفِي حديث سريع دار بيننا عبر عن امتنانه غير المحدود للسويد، البلد الغريب في شمال الكرة الأرضية، والذي لا تجمعه مع بلاده وشعبه أية روابط جغرافية أو تاريخية أو ثقافية، ما جعلني أسعد بهذا الاستقرار والطمأنينة التي يحس بها هذا الشاب، مثلما أحسست بها أنا شخصيًّا بسنين طويلة قبله عشتها هنا في السويد، لكن في الوقت نفسه كنت آسف وأتحسر على هذه الطاقات وهذا الحماس للبناء والتعمير الذي تفقده بلداننا وشعوبنا، هذا الرأسمال البشري الذي لا يمكن تعويضه. رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد يعزف على هذا الوتر بإتقان، لذا حديثه وطموحاته وطرحه السياسي مقنع جدا بل مفاجئ، لأننا لم نتعود من قادتنا وقوانا السياسية هذا المنطق، والأهم من كل ذلك قدرته على ترجمة ما ينادي إليه من سلام وأمن واستقرار بهذا الوضوح وهذه السرعة في التحرك.
نعود فنتساءل ما هي القوى المحلية والدولية التي تقف خلف هذه الترتيبات ؟ هل هي تحالفات إقليمية ودولية جديدة، أم أنها مجرد عمليات تفكيك وتركيب للعبات وتحالفات قديمة جديدة، سواء كانت إقليمية أو دولية، وشعوبنا وحكوماتها ما هي إلا أدوات في اللعبة الجديدة، تخلق آمالًا عريضة لدى الشعوب، ثم تعقبها خيبات أمل بعد انتهاء اللعبة أو الأدوار التمثيلية. أتمنى أن تكون هذه الأحداث المتسارعة وفي هذا الظرف التاريخي إيجابية في مجملها، ولا بأس أن تكون هناك بعض الأخطاء وبعض الإخفاقات، لكنها في توجهها العام، نتمنى أن تكون إيجابية، وتضيف إلى تجاربنا السياسية السابقة في المنطقة أبعادًا جديدة تساهم في التطور التاريخي نحو الأمام بالصورة التي تفيد شعوبنا وبلداننا.
قلقي أنا شخصيًّا هو أن الواقع الإرتري ليس بنفس النضج والتراكم التاريخي خلال العقود الثلاثة الماضية التي شهدت فيها إثيوبيا تحولات حقيقية، وبالتالي السباق الذي دخلت فيه إرتريا في ظل بقاء حكومة إسياس بكامل أجهزتها القمعية وتاريخها المخزي، وملفها السيء فيما يخص حقوق الإنسان، أشبه بالمنافسة بين شخص يعاني من أمراض كثيرة، ومع ذلك ينبري لينافس في السباق شخصًا معافى، والنتيجة في مثل هذا النوع من السباق معروفة سلفًا، فهي في صالح المعافى، وبالتالي لا غرابة إذا استفادت شعوب إثيوبيا من هذا التسابق أكثر من الشعب الإرتري، لكن المؤكد أن ما بني على باطل فهو باطل، لذا يؤسفني أن تضيع هذه المرة أيضًا فرصة تاريخية على شعوبنا ومنطقتنا بهذه الصورة العبثية، وتختصر فِي المهرجانات الزائفة التي تتم في أسمرا وأديس أبابا، وشعبنا الإرتري مازال يعاني من كل أنواع الحرمان، السياسي والاقتصادي والأمني وغيره.