السلام الوطني الإرتري تأثير التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية على السلم الأهلي
بقلم الأستاذ: زين العابدين محمد علي (شوكاي) ستوكهولم، السويد
تم تقديم هذه الورقة في مهرجان كاسل الذي أقيم في ستوكهولم، السويد في الفترة الواقعة من ٢٠-٢٢ من شهر يوليو ٢٠١٨.
ما هو السلام الوطني، وما هي شروطه ؟
السلام من حيث المبدأ قيمة إنسانية هامة يتوق إليها الفرد والجماعة، ولا تستقيم الحياة الطبيعية بدونه في أي تجمع بشري أو أي وطن من الأوطان. والسلام فيه مكسب ومصلحة للجميع، ولا يتضرر من السلام إلا تجار الحروب بكل أنواعهم. ولا يعني السلام وقف الحروب والنزاعات، لأن السلام ليس معنى عكسيًّا لحالة الحرب فقط، بل هو بالدرجة الأولى حالة ذهنية ونفسية تجد القبول لدى البشر الطبيعيين (بمعنى أنه طبيعة بشرية)، ولا ينفر من السلام إلا من كان يعاني من مشاكل وعقد نفسية. عندما نضيف الى مفهوم السلام بأنه ”وطني إرتري“، كما هو عنوان هذه الورقة، فالمقصود من ذلك أن يكون هناك سلام بين الإرتريين أنفسهم، وأن تسود حياتهم علاقات سلمية ترتكز على قيم العدالة الإنسانية، مسنودة بمؤسسات تضمن استمراريتها، وبقضاء عادل ينصف المظلومين، ويحمي القانون، وبنظام سياسي يتسم بالوطنية يتيح للجميع التساوي أمام القانون، ولا يسمح بأي حال من الأحوال، وتحت أي حجة من الحجج أن يفلت الأفراد والجماعات من العقاب.
لماذا نحتاج إلى السلام بين الإرتريين ؟
لأن السلام يساعد على تنمية الموارد الطبيعية والبشرية، ويحقن الدماء، ويوفر حياة كريمة لمكونات الوطن الواحد. ويستلزم تحقيق السلام الوطني أن تشارك مكونات الوطن الواحد في صنعه، فلا يمكن أن يتوفر السلام في ظل نظام سياسي غير ديمقراطي، مبني على الظلم، ويتلاعب بمكونات الوطن وأمنهم وسلامتهم لصالح إطالة أمد سلطته، (كما نشاهد اليوم في إرتريا).
ويؤكد الخبراء في مختلف العلوم، كما تؤكد كافة التعاليم الدينية والأخلاقية التي تهتم بالإنسان وراحته، على أن السلام هو حالة ذهنية. بمعنى أن الإنسان الذي يحس بالسلام الداخلي مع نفسه، هو القادر والمرشح لأن يصل إلى السلام مع محيطه، والعكس صحيح، فالشخص الذي يفتقد إلى السلام الداخلي، لا يمكنه أن يعيش في سلام ووئام مع محيطه. وإذا فهمنا السلام على أنه حالة ذهنية/نفسية، وأنه لا يتحقق في الجماعة إلا إذا تم تحقيقه في الأفراد، ولا يمكن أن يتم السلام إلا في ظل نظام عادل يشرك الجميع في صنعه، فهذه من شأنها أن تشكل عمومًا الضمانات والشروط الأساسية لتحقيقه، والحفاظ عليه، وديمومته.
في السابق كان يفهم من السلام على أنه افتقاد لحالة الاحتراب والاقتتال بين الدول والجماعات، لكنه وبعد الحرب العالمية الثانية، وخروج دول أوروبا الغربية على وجه التحديد من الحرب أصبح التفكير في السلام يأخذ أبعادًا أخرى، دون الانتقاص من العلاقة القائمة والمباشرة بين المفهومين المتعاكسين الحرب/السلام، وأنشئت الكيانات التي تحفظ الأمن والسلام بين الدول مثل الأمم المتحدة، وأهم مؤسسة فيها، وهو مجلس الأمن الدولي، والإتحاد الأوروبي، الذى بدأ باتحاد الفحم والصلب الذي أنشئ عام 1952، ثم السوق الأوروبية المشتركة، ثم الاتحاد الأوروبي.
إذًا، التحول الكبير الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية هو أن السلام أصبح مفهومًا ثقافيًّا، وبالتالي بدأ الاهتمام بتنمية ثقافة السلام. واليوم نرى بوضوح أن في الديمقراطيات الغربية العريقة على الأقل، هناك ما تعرف بـ ”ثقافة السلام“. كما أن هناك اليوم رأي عام غربي مناصر للسلام، وداعم له في أي مكان في العالم، ليس فقط في القارة الأوروبية.
نحن، شعوب القرن الأفريقي عامة، والشعب الإرتري على وجه الخصوص، بحاجة إلى إدخال مفاهيم جديدة في تعاملاتنا وفي ثقافتنا العامة تعزز وتقوي ”ثقافة السلام“، لأن منطقتنا تعتبر وبامتياز من أكثر مناطق العالم التي شهدت حروبًا ونزاعات، وتركت هذه النزاعات والحروب ضحايا كثر، وخربت الديار، وشردت الآلاف، وهدمت الأوطان، وفرقت أفراد الأسرة الواحدة في مختلف أصقاع الكرة الأرضية.
كيف نحقق كإرتريين ”السلام الوطني الإرتري“ ؟
نحتاج بداية أن نقر ونعترف بأن السلام فيه فائدة فردية وجماعية، وأن الذي يحرم غيره من السلام، لا يمكن أن ينعم بالسلام لنفسه ولجماعته، وبالتالي لا يمكن أن يجتمع السلام مع القهر، والسلام مع الظلم، والسلام مع الفقر، والسلام مع الجهل، والسلام مع الظلم، والسلام مع الفوضى. وبالتالي فالسلام في أي بلد وأي مجتمع يحتاج إلى توفير الحرية بدل القهر، والعدل بدل الظلم، واستغلال الموارد بدل هدرها وإفقار الناس نتيجة هدرها أو التلاعب بها، وتوفير التعليم والتثقيف الشعبي بدل تجهيل الناس. ويحتاج السلام إلى وجود نظام ديمقراطي مستقر، وفيه مؤسسات تحمي حقوق الأفراد والجماعات، بدل الفوضى التي تؤجج الصراعات والنزاعات.
إن من أهم الأسس التي تُبنَى عليها الدول والأوطان هي مسألة ”التعايش السلمي بين مكوناتها“. والحديث عن المكونات يقودنا مباشرة إلى الحديث عن التعدد الذي تتميز به المجتمعات، وإرتريا ليست استثناءً في هذا الأمر، فالإقرار بالتعددية السياسية، والاجتماعية، والثقافية يقودنا إلى الحاجة لوضع الأسس السليمة لتأمين وضمان التعايش بين هذه المكونات.
السؤال إذًا، كيف نحيل التعدد بكل أشكاله السياسي منه، والاجتماعي، والثقافي إلى نعمة بدل نقمة ؟
الحديث عن التعدد السياسي له الأولوية في هذه المرحلة، لأنه يؤثر بشكل مباشر على أدائنا كقوى سياسية ومدنية عاملة في الساحة. ويمكن القول باختصار إن التعدد السياسي، والخلاف حول الأهداف والوسائل ميَّز الواقع السياسي الإرتري منذ الأربعينيات، أي منذ فترة تقرير المصير. وعلى الرغم من أهمية الواقع السياسي، وتأثيره الكبير على الواقع الاجتماعي، والثقافي، لكن السياسي محكوم دوماً بأنه مرحلي ومتغير بصورة أسرع من الواقع الاجتماعي والثقافي.
التعدد السياسي:
إذا حاولنا استعراض الواقع السياسي منذ فترة تقرير المصير وحتى يومنا هذا، يمكن القول إنه واقع يتميز بالتعددية السلبية. أما لماذا نسميه بالتعدد السلبي، لأنه كان واقعًا تميز بالتشرذم، ففي الأربعينيات كان الخلاف بين دعاة الاستقلال وبين دعاة الوحدة مع إثيوبيا كبيرًا، ولم تحاول القوى السياسية في تلك المرحلة الاقتراب من بعضها البعض، وحل هذه الإشكالية، بل تميز الواقع السياسي الإرتري في تلك المرحلة بالتباعد في الأفهام والأهداف، لكن سرعان ما أدرك دعاة الوحدة مع إثيوبيا أنهم فرطوا في أنفسهم ووطنهم بثمن بخس للإمبراطورية الإثيوبية، التي لم يكن همها الأول الإنسان الإرتري، بل أرضه وموانئه، وكان الوقت متأخرًا عندما أدركوا ذلك، لأنهم تسببوا في فشل أبناء وطنهم من دعاة الاستقلال، وفشلوا هم أنفسهم في تحقيق مكاسب شخصية أو فئوية كبيرة، كما كانوا يحلمون. وهناك وثائق تاريخية تشهد على أنه وبعد فوات الأوان حاول دعاة الوحدة مع إثيوبيا تدارك هذا الخطأ التاريخي، وهناك منظمة أنشأها شباب حزب الوحدة ”أندنت“، وأطلقوا عليها ”محبر طعسا - جمعية الندم“ إذا صحت الترجمة، للتعبير عن الندم الذي أحسوا به من التفريط بوطنهم وشعبهم لصالح نظام سياسي كهنوتي لم يكن همه الأول الشعوب، حتى الشعب الإثيوبي نفسه، بل كان من أهم أولوياته ضمان واستمرارية البقاء على سدة الحكم، واستغلال التناقضات الاجتماعية والثقافية، لتوظيفها لصالح مشروعه الهادف إلى ضم إرتريا قسرًا إلى إثيوبيا. هذا السلوك السياسي أدخل إرتريا وشعبها في حرب تحرير طويلة الأمد تم إحراق الأخضر واليابس فيها، وقام الإرتريون بالثورة ليس لأنفسهم فقط، بل ساهموا في تثوير الشعب الإثيوبي أيضًا.
ثم انتقل الخلاف إلى الحراك السياسي الذي أعقب عملية ضم إرتريا الى إثيوبيا، أي بين حركة تحرير إرتريا التي كانت تمهد لإحداث انقلاب سياسي من الداخل لتحقيق الاستقلال، وبين جهة التحرير الإرترية التي انتهجت الكفاح المسلح كوسيلة لتحرير إرتريا من ربقة الاحتلال الإثيوبى. هذا الخلاف أيضًا لم يتم حسمه بالتفاهم والوصول الى تسويات تحقن دماء الإرتريين، بل تم حسمه بقوة السلاح، وإنهاء الوجود السياسي والعسكري لحركة تحرير إرتريا في الستينيات. وكان من المؤسف ألا يتحاور الاشقاء في كيفية حل تلك الخلافات، بل كانت عمليات الاستقطاب للحركيين لصالح جبهة التحرير الإرترية، الهم الأساسي والأول، على الرغم من وجود فرصة لإرساء قواعد الاحتكام إلى الحجج والمنطق والعقل في حسم تلك الخلافات، ولو حسمت خلافات الحركة/الجبهة بالحوار، كانت ستكون بداية طيبة في إرساء قواعد حل الخلافات بالاحتكام إلى العقل والحوار.
ثم حدث الانشقاق داخل جهة التحرير الإرترية بحكم فشل الأساليب التي تم انتهاجها لمعالجة الواقع الاجتماعي المتمثل في الإقليمية والقبلية وغيرها من الظواهر في تلك المرحلة، وخرج من رحم جبهة التحرير الإرترية تنظيمًا جديدًا أطلق على نفسه قوات التحرير الشعبية، الذي كان في بدايته عبارة عن تحالفات لمختلف التيارات التي كانت السمة الغالبة فيها، القبلية، والمناطقية، والإقليمية، والطائفية، والتي كان القاسم المشترك بينها خلافها مع قيادة جبهة التحرير في تلك المرحلة. هنا أيضًا تم انتهاج أسلوب الحسم العسكري لحل الخلافات السياسية التي يمكن إرجاع خلفياتها إلى القضايا الاجتماعية والثقافية الخلافية المذكورة أعلاه.
وهكذا استمرت متوالية الخلافات السياسية في جسم الثورة الإرترية قبل استقلال البلاد وبعدها، وحتى في الجسم السياسي الواحد الذى كان ينقسم في كل مرة على نفسه، وحدوث تحالفات غير مقدسة لحسم المعركة ضد الخصوم السياسيين، وكان أسوأها وأبغضها إلى نفوس الإرتريين، التحالف غير المقدس الذي حدث بين الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا والثورة الشعبية لتحرير تجراي (الوياني)، لتصفية فصيل وطني، والذي ترك في نفوس الكثيرين مرارات صعبة نحصد نتائجها المخيبة للآمال حتى يومنا هذا، وأنهى الوجود العسكري لأكبر تنظيم سياسي - عسكري في حركة الثورة الإرترية، وهو تنظيم جبهة التحرير الإرترية في بداية الثمانينيات.
بعد استقلال إرتريا، وحسم المعركة مع الوجود الإثيوبي على الأرض الإرترية بقوة السلاح، كان الأمل الذي يحدو كل الإرتريين من مختلف التيارات الدخول في مرحلة سياسية جديدة تستفيد من التجارب السلبية السابقة في التعاطي مع قضية التعدد السياسي، لكن خيبة أمل الإرتريين كانت كبيرة، عندما أعلن رأس النظام الإرتري إسياس أفورقي رفضه التام للتعدية السياسية التي وسمها بأوصاف لا تليق بقائد سياسي ينتمي إلى القرن العشرين، والواحد والعشرين. وهكذا دخلت إرتريا في ثلاثة عقود مظلمة منذ استقلالها وحتى يومنا هذا الذي تشهد فيه إرتريا، ومنطقة القرن الأفريقي، تحديات جديدة وفرصًا كبيرة، أقل ما يقال عنها إنها مرحلة جديدة من العلاقات السياسية بين دول المنطقة، لكن الشعب الإرتري لم يلحظ حتى مجرد مبشرات أولية لهذه التطورات الإيجابية.
بقي أخيرًا أن نشير إلى أن المشكلات التي نتجت عن التعددية السياسية، والمعالجات الخاطئة التي تكررت لمشكلة التعددية السياسية، يجب أن تشكل درسًا هامًّا لنا جميعًا للاستفادة من التغيرات السياسية القادمة التي يجب أن تعمق ثقافة تقبل الآخر المختلف سياسيًّا، وأن يكون الناخب الإرتري هو الحكم بين التنظيمات والأحزاب السياسية في انتخابات عامة حرة ونزيهة في إرتريا المستقبل، في ظل تعدد سياسي تحكمه القوانين، ويكون الدستور الإرتري الضابط لحركته، بمعنى دولة يحكمها القانون، وحياة سياسية حزبية ومدنية متطورة تساعد على إشراك قطاعات واسعة من أبناء شعبنا في العملية السياسية، خاصة القطاعات التي كانت تحس بأنها مبعدة، ولم يتح لها التعبير عن نفسها، وعن مظالمها، وطموحاتها، وفى مقدمتها المجموعات الإثنية والثقافية على سبيل المثال العفر والكوناما وغيرهم.
التعدد الاجتماعي:
القوى الاجتماعية التي كانت حاملة للثورة الإرترية، وبالتالي للعمل الوطني الإرتري، كانت خلفياتها تتباين بتباين المراحل التاريخية، وهذا بدوره أثر على الأداء السياسي بصورة واضحة. نشأت الثورة الإرترية في بيئة قبلية زراعية/رعوية في بداياتها الأولى، وهي كانت استمرارًا للوعي السياسي الذي نشأ في فترة تقرير المصير، والذى كانت الرابطة الإسلامية الإرترية الفصيل المتقدم فيه، حيث سبق هذه المرحلة حراك اجتماعي/تحرري من العلاقات الإقطاعية التي كانت سائدة في مجتمع المنخفضات على وجه التحديد، حيث شهدت هذه العلاقات الإقطاعية اضمحلالًا تدريجيًّا منذ دخول الاستعمار الغربي للبلاد، وقام بتجنيد أبناء المستعمرة قسرًا في حروبه المختلفة، بحيث تساوى الجميع اجتماعيًّا في سلك العسكرية الإيطالية، وكانت هذه المرحلة من أهم مراحل تبلور الشخصية الوطنية الإرترية، وهناك حقائق تاريخية في إرتريا وغيرها تؤكد على أن المؤسسة العسكرية لعبت دورًا توحيديًّا للكثير من الشعوب، بحيث انصهرت أقوام، وأعراق، وثقافات في بوتقة المؤسسة العسكرية، لتشكل في نهاية المطاف وعاءً للشخصية الوطنية، وتوحد همومها ومشكلاتها بصورة تدريجية وتراكمية كما حدث عند خروج الإيطاليين من بلادنا.
نعود فنقول إن الحامل التاريخي للحالة الثورية في إرتريا منذ الأربعينيات وحتى منتصف السبعينيات، كان أغلبه من العنصر المسلم عمومًا، وأبناء المنخفضات كانوا يشكلون الغالبية، دون إهمال الدور التاريخي البارز الذي لعبه أبناء المرتفعات من المسلمين وقلة من الوطنيين المسيحيين المخلصين.
هذه الخلفية الاجتماعية للثورة أثرت في الأداء سلبًا وإيجابًا، اثرت سلبًا لأن مواجهة الثورة الإرترية حتى منتصف السبعينيات ساهم في قمعها إرتريون، وبالتالي كان ذلك خصمًا على مفهوم الوطنية الإرترية. أما المساهمة الإيجابية، وهي الأهم والأكبر في هذا السياق، أن راية المقاومة للوجود الاستعماري الإثيوبي ظلت مرفوعة ولم تنكس حتى لو كانت تكلفة هذا الصمود وبالًا على مجتمعات بعينها، تم تشريدها إلى السودان في نهاية الستينيات وحتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ولم يعد هؤلاء اللاجئون إلى ديارهم حتى يومنا هذا، رغم مضي قرابة ثلاثة عقود على تحرير البلاد.
وعندما انتقل حمل راية التحرير إلى تنظيم الجبهة الشعبية الذى كانت قاعدته الشعبية/الاجتماعية تتكون بدرجة كبيرة من أبناء الهضبة المسيحيين، بغض النظر عن أن أبناء المجموعات الأخرى من المسلمين لم يكن عددهم في صفوف المقاتلين أقل بأي حال من الأحوال من أبناء الهضبة الإرترية، من المسيحيين - التجرينيين، لكن الواجهة في قيادة التنظيم وكادره الأساسي كان يميل بصورة تدريجية وبوضوح لصالح مكون اجتماعي محدد، حتى أصبحت السمة الغالبة على التنظيم أنه يعتمد في نهجه العام على مكون اجتماعي معين بالدرجة الأولى، وهذا في نظري كان خصمًا على الوحدة الوطنية الإرترية، وشكل هذا الواقع أحد التحديات المستقبلية لمفهوم التعايش، والمساواة بين المكونات، حتى بعد تحرير البلاد من ربقة الاحتلال الإثيوبى. اختلال التوازان الاجتماعي كان وسيظل خصمًا على تجربة الجبهة الشعبية قبل التحرير وبعده، وإعادة التوازن الاجتماعي قضية يجب النظر إليها بجدية في عملية التحول الديمقراطي الذي نسعى إلى تحقيقه.
التعدد الثقافي:
المجتمع الإرتري مجتمع متعدد اللغات والأديان وأنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي مجتمع متعدد الثقافات. هذا التعدد الثقافي يمكن أن يشكل عقبة أمام التفاهمات التي يمكن أن يصل اليها المجتمع لتوفير قدر من الاستقرار الناجم عن الاحترام المتبادل لهوياتنا وخياراتنا. وغياب الاحترام يعني بالضرورة غياب الاستقرار الذي يؤمن التعايش السلمي بين مكونات الوطن المختلفة.
هناك قضايا خلافية بين الإرتريين في المجال الثقافي، وهذا أمر طبيعي، كموضوع اللغة او اللغات الرسمية، وموضوع هوية الدولة، والتوازن الطائفي، ودور المؤسسة الدينية في الدولة الإرترية الديمقراطية - المدنية، وطبيعة القوانين التي تحكم الأحوال الشخصية في المجتمع وغيرها من القضايا، ولابد أن تبحث هذه القضايا على مائدة تفاوض مفتوحة، بعيدًا عن عقلية الهيمنة، والتسلط، والوصاية، لأن ذلك ينافي أسس الدولة المدنية الديمقراطية المتعددة الثقافات والمصالح.
الحوار بين الثقافات يؤدى بالنتيجة الى تلاقح الثقافات، ولم تتح للمجتمع الإرتري فضاءات حرة وديمقراطية للحوار بين المكونات التي تنتمي إلى مختلف الثقافات، للوصول الى ثقافة وطنية إرترية ديمقراطية تقر بالتعدد وتحترمه، وتتيح له كافة المجالات للنماء والازدهار، بعيدًا عن القمع والهيمنة والتسلط بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية الإرترية، والتي كانت نتيجتها هيمنة نهج وتفكير ثقافي معين لا يمنح الآخرين الإحساس بالراحة والطمأنينة، كما لا يمنحهم الإحساس بأنهم شركاء في وطن أساس التعامل فيه المواطنة، ويحترم فيه التعدد.
الخاتمة:
الاهتمام بثقافة السلام، والاستفادة من أن الشعب الإرتري، مسلميه ومسيحييه، إيمانه بدينه قوي، فكما أن السلام يعتبر اسمًا من أسماء الله الحسنى، طبقًا للرؤية الإسلامية، كذلك يتحدث الإنجيل باستمرار عن المحبة السلام، وهذا رصيد وطني لم تتم الاستفادة منه حتى يومنا هذا إلا مؤخرًا، عند خروج تظاهرات كبيرة، وبشكل خجول، وليس بصورة تعزز وتؤكد على دور الدين والمؤسسات الدينية في السلم الأهلي والاجتماعي.
السلام يحتاج إلى بيئة سليمة يتوفر فيها العدل والمساواة واحترام التعدد بكافة أشكاله، وأن أي مشروع للسلام ينجح وتكتب له الديمومة كلما كانت أسسه وبيئته سليمة.
لا أستطيع أن أتجاهل مشروع السلام الإرتري الإثيوبي الذي طرح مبادرته الأولى رئيس الوزراء الإثيوبي، الدكتور/ أبي أحمد، وهو مشروع ممتاز، ومفرح، وضروري من حيث المبدأ، لكنه يجب أن يبنى على أسس سليمة، وأنا لا أرى مع الأسف أن البيئة التي تتم فيها هذه العملية السلمية بين البلدين، والأسس التي يقوم عليها سليمة، على الأقل في جانبها الإرتري.
أنا لست من دعاة قتل أو وأد هذا السلام الإرتري - الإثيوبي، لمجرد أنه لا تتوفر فيه الشروط الأساسية التي أراها ضرورية، لذا أوصي القوى السياسية الإرترية أن تتعامل مع مبادرة السلام هذه بانفتاح، مصحوب بوعي وطني إرتري يقظ وسليم، ومن منظور إقليمي طويل الأمد، وأن نشجع الجوانب الإيجابية في هذه المبادرة، وننتقد بوضوح وبصوت عال الجوانب السلبية فيها.