الاستقلال ماذا استفاد منه مسلمو إرتريا؟

بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح

كم هو مفرح أن تنال إرتريا استقلالها بعد نضال مرير وتضحيات كبيرة وجسيمة، ولكن في الوقت نفسه كم هو مؤلم أن تشعر فئة

من المواطنين، أيا كان انتماؤها الاثني، أو الديني، أو الجهوي، بأنها مسلوبة الحق، ليس لها من ثمار هذا الاستقلال إلا الظلم والتهميش على نحو لا يتناسب أبدا مع عظيم تضحياتها ومتطلبات حقوقها الكاملة!!

جـلال الدين محمد صالحوبالمقابل كم هو محزن جدا أن توظف حفنة من المتنفذين، أيا كان انتماؤها العرقي، أو الديني، أو الجهوي، أو السياسي، هذا الاستقلال لهيمنتها الشيفونية، ونزعتها التسلطية، فتفرض أبوتها على الكل، لتستأثر بكل مراكز القوة، وتقمع كل من يعترض على نهجها الاستكباري، باسم مكافحة الطائفية تارة، وحماية الوحدة الوطنية من العدوان الداخلي والخارجي تارة أخرى!!

هذا السؤال (الاستقلال ماذا استفاد منه مسلمو إرتريا؟) بغض النظر عما إذا كان جديرا بالطرح أم لا، فإنه وليد أزمة سياسية قائمة، أوجدتها للأسف سياسات الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية، وعبرت بمرارة عن التضايق منها، والتحذير من آثارها المدمرة، أكثر من جهة قومية، وعقدية، وجهوية، وسياسية، بأكثر من وسيلة، كان آخرها وثيقة (العهد الإرتري) التي خرج بها مجلس المفتي (إبراهيم عمر المختار) رحمه الله ليضع أمام الجميع إحصاءً بالهيمنة الشيفونية لمجموعة من التجرنية ـ وطبعا ليس كل التجرنية راضين بهذا، ولا كل المسيحيين قابلين به.

لقد عجزت هذه المجموعة المسيطرة عن بناء دولة المؤسسات، وأخفقت عن بسط العدالة للجميع، غير أنها أبدعت كل الإبداع في احتكار السلطة والثروة معا بعقلية في منتهى التخلف، وبتشريعات في غاية الصلف والعدوانية، دون أن تفكر بجدية ولو للحظة واحدة فيما يمكن أن تخلفه هيمنتها هذه من دمار شامل لبنية الوطن وتماسكه، ودون أن تخطو خطوة جادة نحو تصحيح هذا الخلل الكبير في إدارة البلاد وتوظيف ثروتها الوطنية لصالح التنمية والاستقرار الأمني، بدل توظيفها في تكريس الهيمنة الشيفونية، وإحكام القبضة الأمنية، وتعميق الأزمة الوطنية.

بالرغم مما قاله السيد (يماني جبر آب) هنا في الرياض عام 2008م، والسيد (عبد الله جابر) في جدة من العام نفسه، وفي الخرطوم عام 2010م، من وجود أخطاء غير مقبولة في سياسة الجبهة الشعبية، تستدعي المراجعة والتصحيح، فإن الإعوجاج والتمادي في سياسات الإقصاء والإجحاف ما زال حتى اللحظة قائما كما هو، ولا تبدو على الأفق أدنى علامات التصحيح!!.

هذا المسار المنحرف في سياسة الجبهة الشعبية مهما كانت مقاصده ودوافعه فإنه من أخطر وأكبر الأخطاء القاتلة في سياسة الجبهة الشعبية، ويعود بنا إلى الوراء، إلى سياسات مماثلة مورست ضد المسلمين في العهد الفيدرالي من النظام الاستعماري الإثيوبي والاتجاه الشيفوني التجرنياوي الموالي له.

وكما تعبر الآن عديد من القوى الوطنية، والكتابات الإرترية الحرة والمسؤولة، ومنها وثيقة (العهد الإرتري) عن خطورة مثل هذه السياسات على مستقبل أمن المجتمع الإرتري، واستقراره السياسي، كان هنالك فيما مضى من تاريخنا السياسي في الخمسينيات من استنكر هذه السياسات الإقصائية، ونبه عن خطورتها في ضرب الوحدة الوطنية عندما رآها واقعا يطبق.

ولعل مقال السيد (ع. أ. أبو خالد) من كرن، الذي نشره في جريدة (صوت إرتريا) عدد 38 تاريخ 11 رمضان 1373هـ الموافق 14 مايو 1954م بعنوان: (الحكم الذاتي ماذا استفاد منه مسلمو إرتريا) يصلح ليقدم كأفضل نموذج في استنكار هذه السياسة الشيفونية التي طبقت فيما مضى وتطبق حاليا بحق المسلمين وغير المسلمين من المجموعات العرقية المهمشة.

في هذا المقال يتحدث السيد أبو خالد الكرني ـ رحمه الله ـ عن الإجحاف الحاصل على مسلمي إرتريا بشكل عام، في مسألة توزيع الوظائف والمناصب الحكومية، ويقدم أبو خالد كرن نموذجا لهذا الظلم، فيقول: ثم هاكم صورة مصغرة، ومثالا بسيطا، يكشف عن عدم التوازن في تقسيم السلطات التنفيذية، بين المسلمين والمسيحيين، وهذا المثال هو كرن، بها مدير مسيحي، وقمندان بوليس مسيحي، ورئيس البلدية ونائبه مسيحيان، ورئيس المحكمة مسيحي، مع أن سكان كرن لم يكن بها من المسيحيين، إلا النذر القليل، فكان الواجب، بل الإنصاف يقضي ليتناصف المسلمون، والمسيحيون السلطات، بهذه المديرية.

ثم يحذر أبو خالد من مغبة المضي في هذه السياسة الضارة، وينذر من عواقبها الوخيمة، مشيرا إلى ما شهدته كرن ومصوع وقتها من اضطرابات، فيقول: إن عدم التوازن هذا سيحدث ارتجاجا في يوم من الأيام، إن قرب هذا اليوم أو بعد.

ويستمر أبو خالد في إنذاره قائلا: لست مبالغا إذا قلت (والكلام ما زال لإبي خالد): إن بوادر الدخان بدأت تظهر في ثنايا اضطرابات مصوع، وكرن، التي حدثت منذ أسابيع مضت، ولست أدري إن كانت ورآء هذا الدخان نار.

وأخير يختم مقاله مبينا حسن مقصده من إثارة هذه المظلمة الكبرى، وأنه لا يريد من وراء إثارتها إشعال فتيل الفتنة الطائفية، وإنما يندفع بروح وطنية خالصة، فيقول: إننا لا نقصد بحديثنا هذا إثارة الحفائز [الحفائظ]...وإننا ويشهد الله نقصد حماية الحكم الذاتي...إننا يجب أن نكون إرتريين، قبل أن نكون مسلمين، ومسيحيين، وإننا يجب أن نعلم أن الدين لله والوطن للجميع، وإن الجميع يجب أن ينالوا حقوقهم على قدم المساواة.

لو توقفنا مع (ابو خالد) فيما كتبه عام 1954م، وقارناه بهذه الفترة من تاريخ نضالاتنا الوطنية عام 2010م لوجدنا أن عقرب الزمن استدار بنا إلى الوراء ست وخمسون عاما (56) من أجل أن يمدنا بعدة حقائق تاريخية، ذات أهمية في مسيرة هذا الوطن بعامة، وتاريخ المسلمين فيه بخاصة، لقد مر بها المسلمون الإرتريون فيما مضى، وما زالوا يمرون بها الآن، تكررت عليهم بعد الاستقلال بعد أن قاسوا منها في عهد الاستعمار، ليلدغوا بها من الجحر ذاته، لدغة ثانية.. وثالثة.. بعد اللدغة الأولى، ويمكن إبرازها فيما يلي:

أولا: إن المسلمين الإرترتريين عانوا وما زالوا يعانون من تهميش وإجحاف في حقهم السياسي والوظيفي، وبكل مرارة عبر أبو خالد عن هذه الحقيقة في تلكم الحقبة من تاريخ المسلمين، كما نعيشها نحن اليوم بالكمال والتمام في عام 2010م مهمشين في الداخل، ومهجرين في معسكرات اللجوء، ومعلوم من يقصد أبو خالد بـ (المسيحيين).

ثانيا: كون أبو خالد يوقع على مقاله بكنيته، مع أحرف رمزية من إسمه، لدليل واضح على حالة الخوف التي كانت تعيشها إرتريا بشكل عام من الناحية الأمنية، ومن بينها كرن، وبسبب هذا الخوف رضي أبو خالد بأداء دور الجندي المجهول، وهي الحالة نفسها ما زالت المدن الإرترية جميعها تئن تحت وطأتها، ولعل الفرج قريب.

ثالثا: تذكير أبو خالد بشعار (الدين لله والوطن للجميع) نابع من مشاهداته الحسية، لإقصآء المسلمين بعلة وأخرى عن الوظائف الحكومية، وكأنه يريد أن يقول: لماذا هذه الطائفية المقيتة؟ ولماذا تستهدفنا نحن المسلمين فتقصينا من المقاعد السيادية على أساس طائفي؟ أليس الدين لله والوطن للجميع؟!!.

رابعا: إن كلا من كرن ومصوع شهدتا في تلكم المرحلة التاريخية عام 1954 اضطرابات سياسية، قد تكون هذه الظاهرة واحدة من أهم أسبابها، فهل ستشهد كرن ومصوع ومعهما سائر المدن الإرترية اضطرابات مماثلة، للأسباب الإقصائية نفسها، أم أن الطوق الأمني مازال صارما وحادا، وأن الهمة الوطنية أضعف بكثير من أن تواجه قوة هذا التهميش وبطشه، فما رجال الأمس برجال اليوم؟!!.

خامسا: شدد أبو خالد ـ كما هو نص قوله ـ على (إن عدم التوازن هذا سيحدث ارتجاجا في يوم من الأيام، إن قرب هذا اليوم أو بعد) وهو ما نشدد عليه نحن اليوم، مرددين مقولة (أبو خالد) نفسها بعد 56 عاما (إن عدم التوازن هذا سيحدث ارتجاجا في يوم من الأيام، إن قرب هذا اليوم أو بعد) بل حدث الإرتجاج ووقع فعلا، إذ بدأت وتيرته تتصاعد، ولغته تحتد شيئا فشيئا، فهل من سبيل إلى تدارك الوضع قبل مزيد من التأزم؟ ومزيد من التعقيد؟.

سادسا: إن الحس الوطني يظل دائما متحكما في العقلية الإسلامية، لتجعل منه منطلقها في الحوارات الوطنية، بغض الطرف عما إذا كانت في هذا واقعية أم طوباوية، وهذا ما لاحظناه في خطاب أبو خالد عندما قال: وإن الجميع يجب أن ينالوا حقوقهم على قدم المساواة.

وهو ما نلاحظه في الخطاب الإسلامي المتمسك بوحدة إرتريا أرضا وشعبا، والحريص على استقلالها الكامل في ظل نظام عادل، لا يريد أكثر من تحقيق العدالة في كل الحقوق، ولكل الناس، ولكن هل من العدل والإنصاف الوطني أن تهمش أقلية من التجرنياويين الشيفونيين هذا الكم الهائل من المسلمين؟!!.

أليس من حقنا نحن المسلمين الإرتريين كما هو حق كل من يعتقد أنه مظلوم أن نواجه حالة التهميش هذه ونتصدى لسياساتها القائمة بالمقاومة والرفض، والتوعية بنتائجها الخطرة علينا بخاصة وعلى الوطن برمته.

لقد فعل الرئيس إسياس الأمر نفسه يوم ادعى في الستينيات أن المسيحيين الكبساويين مظلومون في الثورة، وكتب وثيقته الشهيرة (نحن وأهدافنا) على هذا الأساس، مؤلبا الكبساويين، ومؤججا فيهم مشاعر النعرة القومية على قيادة الجبهة الذين قال فيهم كما هو نص كلامه في وثيقته تلك: (لقد تحمل زعماء الجبهة مسؤولية إقامة علاقات مع الحكومات والمنظمات الأجنبية التي تعمل لتطبيق دستور الإسلام/ الشريعة... أما زملاؤهم في الميدان... فقد نشروا بين السكان الأبرياء فكرة الجهاد...ضد الكافر هيلي سلاس... الذي حاول أن يقضي على الإسلام ويفرض المسيحية على الجميع).

إن إسياس كتب هذا الكلام التأليبي اعتقادا منه بأن قيادة الجبهة تضطهد المسيحين، وتستهدف حقهم الوطني، وتعمل لفرض الإسلام على إرتريا!!.

بغض النظر عما إذا كان الغاية من كتابة إسياس وثيقته تلك لمجرد تحقيق أهدافه الشخصية واستغلال الأحاسيس الطائفية لطموحاته السلطوية أو لأهداف قومية تخص جميعهم!!.

وبغض النظر أيضا عما إذا كان هذا مجرد دعوى تفتقر إلى أدلة الإثبات، أو هي حقيقة واقعة فعلا، لها ما يثبتها ويسندها، فإننا اليوم أمام ظاهرة تهميش حقيقية للمسلمين في إرتريا المستقلة، ترى بالعين المجردة، موثقة بالأرقام والإحصاءات الدقيقة، كما جاء في وثيقة (العهد الإرتري) تضعنا جميعا مسلمين ومسيحيين أمام مسؤولية وطنية كبرى باعتبارها مظلمة لا تتحمل السكوت أبدا.

بعد ذلك كله ألسنا محقين نحن المسلمين حين نطرح في عام 2010 وفي ظل إرتريا المستقلة، هذا السؤال الكبير (الاستقلال ماذا استفاد منه المسلمون؟) على غرار ما طرحه أبو خالد عام 1954م حين كتب يقول عن الحكم الفيدرالي: (الحكم الذاتي ماذا استفاد منه المسلمون؟).

أعتقد أننا محقون بكل المقاييس الوطنية وأنه سؤال مشروع بكل الاعتبارات، لكن ليس لإثارة الفتنة وبث ثقافة الأحقاد والكراهية كما نبه إلى ذلك (أبو خالد) في الخمسينيات، وننبه نحن في عام 2010م، وإنما لنقد الواقع الظالم وتصحيح المسار المنحرف.

على كل مهما كانت وجهة نظر قيادات الجبهة الشعبية في سياساتهم المنفذة حاليا تجاه إدارة الوطن، فإني أختم مقالي هذا قائلا: سلام الله عليك يا (أبا خالد) فالمشكلة نفسها التي أثرتها في العهد الفيدرالي عام 1954م ما زالت قائمة ومثارة بعينها في عهد الاستقلال عام 2010م، وما زالت تحتاج إلى حل عادل ولك.. أن تعجب كل العجب.. فالدنيا مع الظلم.. كلها عجب.

Top
X

Right Click

No Right Click