إريتريا وإثيوبيا بعد الحرب الباردة
بقلم الأستاذ: محمد أبوالفضل - كاتب مصري المصدر: الأهرام اليومي
عندما كتب المفكر الراحل محمد سيد أحمد كتابه الشهير «بعد أن تسكت المدافع» عام 1975، أصيب قطاع كبير من السياسيين
والمثقفين بصدمة كبيرة، لأن الرجل توقع حدوث تسوية بين مصر وإسرائيل، بموجب قراءته الواعية لنتائج حرب أكتوبر، وقبل أن يُعلن أصلا عن رغبة الرئيس الراحل أنور السادات الذهاب إلى القدس المحتلة.
فى مقدمة الكتاب، قال الأستاذ محمد سيد أحمد: «العالم يتحول بسرعة، ولا يرحم المتخلف، علينا أن نتعلم كيف نتصدى لما يصدمنا، وألا يشل تفكيرنا ما يوجعنا.. إننا فى عصر ثورة. ليست الثورة مصطلحات ثورية فقط، ولا هى تمجيدً أو تقديس أحداث كانت ثورة فى يوم ما، بل عملية حلقاتها متصلة، متجددة أبدا.. هى أن نقفز باستمرار إلى أبعد، وأن نفتش باستمرار عما هو ناشيء، وندفع بالمولود الجديد إلى الحياة، أيا كانت آلام المخاض».
تلخص هذه الجمل الدقيقة جانبا مهما لتبعات السلام الظاهر بين أسمرة وأديس أبابا. بعد عامين من الحرب المسلحة، وعشرين عاما من الحرب الباردة، التقى الرئيس الإريترى أسياسى أفورقى ورئيس وزراء إثيوبيا آبى أحمد، فى أسمرة، الأحد الماضي، فى خطوة لم يتوقعها كثيرون، لأن الصراع وصل نقطة يصعب معها تخيل حدوث تسوية سياسية.
المقدمات التى سبقت اللقاء، لم تستبعد حدوثه. فمنذ اليوم الأول لتعيين آبى أحمد، أعلن الرجل رغبته فى تصفير أزمات بلاده. وقتها قالت بعض الدوائر «إلا اريتريا». الأحداث التالية كذبت هذا الاستثناء، وجعلته واقعا منذ إعلان أديس أبابا قبولها باتفاقية الجزائر للسلام، التى وقعت عام 2000 وأقرت بحق أسمرة فى إقليم «بادمى». وهو ما اعترضت عليه أديس أبابا طوال 18 عاما، إلى أن جاء رئيس الحكومة الجديد وجعل الاتفاق أمرا واقعا.
المياه المتدفقة التى جرت فى نهر العلاقات، أكدت أننا أمام تغير كبير فى المنطقة، قد لا تقف حدوده عند هذين البلدين. آبى أحمد يملك أجندة سياسية واضحة للحفاظ على نظام الحكم، وخرج من رحم تقديرات فى جوهرها وضع رؤية جديدة للحفاظ على الدولة التى تواجه تحديات كبيرة، وتنخر فيها أزمات محلية صعبة، ولن تتحمل المزيد من الصراعات الخارجية. كانت الإشارات واضحة لجميع الدول المجاروة.
الرئيس أفورقي، يرى أن الحربين المسلحة والباردة مع أديس أبابا استنزفتا جزءا كبيرا من موارد بلاده. أصبح بحاجة ضرورية إلى هدنة طويلة يلتقط فيها الأنفاس ويعيد ترتيب الأمور، بما يحفظ للدولة تماسكها، ويبعدها عن شبح النزاعات الممتدة.
لم يكن توافق الرؤى بعيدا عما يجرى فى المحيط الإقليمى من تجاذبات، أفضت إلى إرهاق جميع دول المنطقة، عندما تحول بعضها إلى دمى فى أيدى قوى من خارجها، بما ضاعف من صعوبة المأزق فى القرن الإفريقى برمته.
الرغبة المدفوعة بحسابات إقليمية ودولية فى تسوية النزاعات المستعصية، أدت إلى حلحلة الصراع بين إريتريا وإثيوبيا، لأن فك عقدته سيكون عنوانا لفك الكثير من العقد فى منطقة بدا من المستحيل أن يخترقها السلام.
الوصول إلى أسمرة وعقد لقاء أفورقي - آبي، يفتح الطريق أمام احتواء عناصر الحرب الأهلية فى جنوب السودان، التى فشلت محاولات وضع حد لها. لذلك متوقع أن تسفر الاجتماعات التى عقدت بين الرئيس سلفا كير، ونائبه الأول السابق رياك مشار، فى كل من أديس أبابا والخرطوم وكمبالا، عن رضوخ كامل لنداء السلام، وبلورة اتفاق جديد يمكن تطبيقه على الأرض، بعد نحو خمس سنوات من الممانعات والمماطلات.
التطورات المتسارعة فى القرن الإفريقي، تشير إلى أن المنطقة كفرت بالصراعات التى كلفت أصحابها فقدان الكثير من الموارد، ومقبلة على نقلات نوعية على الصعيدين السياسى والتنموي، يمكن أن تعيد صياغة المفاهيم القديمة التى اعتمدت على كثافة النزاعات وصعوبة تحقيق الأمن والاستقرار، وتفتح المجال أمام مشروعات عملاقة للتعاون والتنسيق الإقليمي.
الدول التى تستطيع فهم هذا النوع من الصدمات، يمكنها أن تدخل عصر الدول الحديثة التى تتطلع للبناء والتطور، وتكوين شبكات مختلفة للتعاون، وتنطلق من تحقيق المصالح المشتركة. أما الدول التى تتمسك بجمودها وفقرها وقصر نظرها فلن يكون لها مكان تحت الشمس.
إثيوبيا تدرك جيدا عناصر قوتها وعوامل ضعفها، اختارت طريق السلام الذى يتناسب مع إمكاناتها وأوضاعها الداخلية المعقدة، ووجدت فيه (السلام) ما يفيدها على المدى الطويل لتجذير قدراتها المادية والمعنوية، واختارته فى لحظة تاريخية فارقة، عندما وجدت أن التأخير قد يجلب لها المزيد من الأزمات.
لم تصغ قيادتها لكل الانتقادات الداخلية، وقررت شق طريقها نحو التوصل إلى تفاهمات بشأن أزماتها الخارجية. وربما يواجه رئيس الحكومة اتهامات قد تصل إلى الادعاء بأنه «متآمر» على بلاده، لكنه لن يعطى بالا لذلك، فقرار التسوية اتخذ من أعلى المستويات فى الحزب الحاكم (الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية) للحفاظ على النظام والدولة.
المتوقع أن تنعكس هذه التوجهات على أزمة سد النهضة، وتصل إثيوبيا لتفاهمات جيدة مع مصر، تحل النقاط الخلافية وتراعى التحفظات التى قدمت بشأن آليات تلاشى الأضرار المائية الناجمة عن بناء السد.
المهم أن نلتفت الآن لما يجرى فى القرن الإفريقي. وكما أرخت أزماته المتتابعة بظلال سلبية، فإن تطوراته الراهنة يمكن أن تكون لها روافد إيجابية، إذا أُحسن التعامل معها، وجرى فهم دلالاتها وأبعادها العميقة.
المسألة تتجاوز حدود تسوية أزمات كبيرة فى منطقة مضطربة، إلى ما هو أكبر، من تشكيل شبكات تعاون وروابط إقليمية وتوافقات حول مشروعات تنموية متعددة، تأخذ فى حسبانها مصالح الدول المنخرطة فيها، أملا فى دخول عصر جديد للأمن والاستقرار فى المنطقة.
إذا مضت الأمور بصورة براقة، كما هو متوقع لها، ولم تحدث مفاجآت سيئة، فسوف نرى خريطة جديدة تتشكل. وكى تكون مصر قريبة منها، بل جزءا أساسيا فيها، عليها الانتباه والنظر بعمق لهذه المتغيرات والتقاط دلالاتها البعيدة، والحرص على الانخراط فيها والتفاعل معها، فهى السبيل لتعويض الخسائر التى تكبدناها على مدى سنوات ماضية، ابتعدنا فيها عن إفريقيا. فالنتائج المترتبة على صمت المدافع بين إريتريا وإثيوبيا، يمكن أن تكون لها ارتدادات إيجابية على مصر، وليس العكس.