ماذا وراء التفاهم الإثيوبي - الإريتري، تقارب أم تجاوز؟
بقلم الشيخ: عبدالرحمن بشير - كاتب ومفكر جيبوتي
أهم حدث فى القرن الأفريقي فى هذا الأسبوع زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي للعاصمة (أسمرا) الإريترية، وقد وصفت الزيارة
بالتاريخية عند كثير من المراقبين، ولكن ثمة أسئلة، يجب طرحها، لماذا الزيارة فى هذه المرحلة ؟ ولم تأخرت إلى هذه المدة ؟ وهل هناك قوى خارجية ضغطت على الجانبين ؟ أم كانت الزيارة ناتجة من التحوّل السياسي الذى جرى فى إثيوبيا ؟
قبل أن نخوض فى المسألة قراءة وتحليلا، يجب أن نتذكر ثلاثة أمور:
أولا: هناك صراع مصالح بين دول خليجية فى الوصول إلى المرافئ، وخاصة إلى الموانئ الإستراتيجية فى القرن الأفريقي، وخاصة بين الإمارات العربية المتحدة، وقطر، ولهذا يجب أن لا ننسى بحال من الأحوال الزيارة المفاجئة لولي العهد الإمارتي قبل أسابيع (لأديس أبابا)، وكانت هذه الزيارة تحمل فى طياتها أموالا، ووعودا، ومن الجانب الآخر ذكر بعض المسؤولين فى الإمارات أنهم كانوا وراء التقارب بين الدولتين، وهذه تحمل بعض الرسائل السياسية والخطيرة، وهي جزء من الصراع السياسي الإستراتيجي للنفوذ.
ثانيا: لم يكن الصراع الإثيوبي - الإريتري حقيقيا، ولَم يكن أساساصراعا ما بين الشعبين، فقد كان فى حقيقته صراعا بين الحزب الحاكم فى إثيوبيا بقيادة ملس زيناوي، والحزب الحاكم لدولة إريتريا بزعامة أسياس أفورقي، ولهذا كان الصراع مشخصنا إلى حد بعيد.
ثالثا : عاشت المنطقة تحت تهديد الخوف فى عقدين من الزمان، وكان من وراء ذلك أن تنفرد الأقلية الحاكمة فى إثيوبيا للحكم، والسيادة المطلقة على المنطقة، ولتحقيق ذلك كانت تخلق فى المنطقة أجواء غير طبيعية، ومن وراء هذه الأجواء يستمر حكمها المطلق على الوطن، ونجحت الأقلية الحاكمة فى إثيوبيا أن تجعل جيبوتى تدخل المعركة نيابة عنها مع إريتريا، واستغل النظام الجيبوتي التوتر ما بين الدولتين، فكان التقاطع المصلحي قويا ما بين (ملس) الحاكم فى إثيوبيا، و(جيلة) الحاكم فى جيبوتى.
عاشت المنطقة مرحلة حرجة فى عقدين ونصف من الزمان، والسبب الحقيقي لهذه المعارك العبثية هو البقاء فى السلطة مدة طويلة على حساب الشعوب، وعلى حساب النهضة الحقيقية للمنطقة، وهناك دول إقليمية تستغل هذا الغباء السياسي للحكام فى المنطقة، ذلك لأن الدول ذات الرؤى الإستراتيجية عرفت بأن الغباء هو سيد الموقف فى المنطقة مع وجود فقر مدقع لأغلب الدول فى المنطقة، كما أن غالبية الدول فى المنطقة تتذبذب ما بين دول فاشلة (الصومال، وجنوب السودان) نموذجا، ودول هشة (السودان، وجيبوتى، وإريتريا) نموذجا، ودول قابلة للهشاشة (إثيوبيا) نموذجا.
أسباب، ومظاهر، ونتائج:
تعيش منطقة القرن الأفريقي (سونامي) سياسي كبير جدا، هناك قوى سياسية بدأت تختفى من الساحة السياسية، وقد كانت لمدة عقدين ونصف من الزمان القوة الفاعلة فى المنطقة، وعلى رأس هذه القوى (التغراي)، فقد انتهت ورقتها بشكل غريب، كما أن قوة سياسية جديدة تبدأ وجودها بقوة (الأورومو)، ولكن السقوط التغراي من جانب، وصعود الأورومو من جانب آخر لا يمثلان الإنفجار، وإنما هناك قوى شبابية فى العمق، وهي تنتمى إلى الجيل الجديد، وهو جيل لا يحمل العقد التاريخية، وإنما يحمل فى ذاته الأفكار الجديدة، وهو جيل متعلم، ومثقف، ويقود هذا الجيل من الداخل الدكتور أحمد آبي، ومن الخارج السيد جوهر المقيم فى شمال أمريكا.
إن الحياة السياسية فى المنطقة قد تغيرت كثيرا، وتغيرت معها الملامح، والمفاهيم، والرؤى، ولكن الكثيرين من المراقبين لا يلاحظون هذه التغييرات العميقة، والتى سبّبت وقوع (السونامي) السياسي فى إثيوبيا، ومع هذا فلا بد من الإحاطة بأن هناك عقبات خطيرة أمام هذه التحولات، ومنها وجود الدولة العميقة (الكنيسة + رجال الأعمال الجدد + حكومة التغراي)، ولهذا تحاول هذه المفردات الثلاثة التى تمثل الدولة العميقة فى إثيوبيا خلبطة الأوراق من الداخل، وتهيئة الأجواء للثورة المضادة.
هناك أسباب ثلاثة أدت إلى إنجاح تجاوز المشكلة السياسية ما بين الدولتين (إثيوبيا وإريتريا)، وهي فى مجملها تعود إلى مرحلة ما بعد الثورة الناجحة فى إثيوبيا.
١. لقد نجح الدكتور أحمد آبي بشكل منطقي، وجاد تصفية الساحة من القادة التاريخيين الذين كانوا وراء الأزمات السياسية، سواء كان هؤلاء من الجناح السياسي، أو الجناح العسكري، ولهذا إستطاع أن يتحرك نحو السلام بكل هدوء.
٢. استخدم الرجل (أحمد آبي) الإمارات العربية المتحدة بشكل ذكي، فحرّك الرجل شهيّة الإمارات نحو اريتريا، واستغل الصراع الخليجي - الخليجي لمآربه، وليس صحيحا ما تقول به بعض الجهات بأن الرجل وقع فى فخ الإمارات، بل العكس هو الصحيح.
عمل الدكتور أحمد آبى فى السلك الأمني، وحصل من هذه التجربة خبرة فى التعامل مع العرب، ذلك لأن ملفات العرب فى غالبها أمنية، وليست سياسية، فهو فى نظرى يفهم كيف يتعامل مع العرب كأوراق مهمة فى لحظة الصراع العربي - العربي.
٣ . لاحظ بأن إريتريا مرهقة إقتصاديا، وفاشلة سياسيا، وهي بحاجة إلى من يمدّ لها اليد، ليخرجها من التيه، والضيق، ومن هنا تحرك الدكتور أحمد آبي فى الوقت المناسب، وذهب إلى أسمرا لينهي ملفا خطيرا، بل ويحاول أن ينجح فى إعادة إريتريا إلى الحياة السياسية الطبيعية.
فى هذه المرحلة يظهر فى الساحة مظاهر ثلاثة، وهي تمثل بداية مرحلة جديدة، وفى رأيى تعدّ نضجا سياسيا للدكتور أحمد آبي، فالرجل يعرف بأن هناك دائما ثورة مضادة، ولهذا عمل فى إفشال الثورة المضادة فى تفعيل ما يسمى (خلق ميادين جديدة) وإشغال القوى المضادة بنتائج غير متوقعة، ومن هنا فشلت الثورة المضادة، والتى خططت لها القوى التغرانية مع الشعوب المهمشة من الأقاليم الصومالية والعفرية وغيرهما.
هناك مظاهر جديدة فى المنطقة، ومن أهمها:
١. الهدوء السياسي مع الدول المجاورة، والإعلام لها بأن زمن التدخل قد إنتهى، ومن مصر الدولة المحورية والهامة بدأ رحلته، وجعلها تطمئن من جانبها، وخاصة فيما يتعلق بالمياه، وبناء ما يسمي بسد النهضة.
زار الرجل تقريبا كل الدول المجاورة، وتحدث إلى القادة جميعا بلغة جديدة، وهي لغة لا تحمل روح الإستعلاء، بل ينفعل معهم سياسيا، ويتحدث عن مستقبل سياسي جديد، وهكذا فعل فى جيبوتى، ومقديشو، والخرطوم.
٢. بدأ الرجل وبقوة إزالة الصقور السياسية من الساحة، وهذه الخطوة مهمة جدا، ذلك لأن هؤلاء هم السبب الحقيقي فى صناعة التوتر السياسي فى المنطقة، فكانوا وراء التدخل فى القضايا الداخلية للدولة الصومالية، وهم وراء الخراب فى العلاقات ما بين الشعبين الإثيوبي، والإريتري، ولا يمكن صناعة علاقات طبيعية مع وجودهم، وهذا مظهر جديد، لأن الساحة بدأت بغيرهم.
٣. هناك قوى خارجية ترغب فى إيجاد قرن أفريقي جديد، ومن أهم ملامح القرن الأفريقي الجديد أن يكون خاليا من نفوذ الصين الذى يتعاظم بقوة، ولهذا تدخلت الإمارات العربية المسألة بقوة، ووراءها الغرب، كما أن الدكتور أحمد آبي بعقليته غير المتسامحة مع الفساد يرى بأن الصين مشروع فساد إداري كبير.
إن الموانئ الجيبوتية أصبحت موانئ صينية خالصة، وخاصة بعد أن أعلن النظام فى جيبوتى أنه ألغى العقود التى كانت بموجبها تدير شركة دبي العالمية لميناء الحاويات فى جيبوتى، واستبدلت بذلك شركات صينية عملاقة، وللصين طموح غير عادية فى التمدد فى العالم، وخاصة فى القارة الأفريقية.
ليس من المنهجية أن ننسى بأن السيد إسماعيل عمر حيلة، ومعه السيد ملس زيناوي مثّلا فى المنطقة أهم العرّاب الحقيقيين للصين، والوجود الصيني فى إثيوبيا ملاحظ بشكل كبير، ولكن هذا الوجود الصيني جاء عن طريق المشاركة المالية ما بين الصين كحكومة، والسيد ملس زيناوي كممثل للحكومة من جهة، ومفيد للقومية التغرانية من جانب آخر.
ذكر أحد الأعضاء فى الكونغرس الأمريكي بأن جيبوتى فى طردها للشركة الإمارتية (جبل على) سوف يسبّب لها فى المستقبل البعيد اضرارا جسيمة، وهذا يعنى بأن الشركة الإمارتية تمثل نوعا ما الغرب، وأن الولايات المتحدة ترى تعاظم الوجود الصيني فى جيبوتى تهديدا مباشرا لمصالحها الحيوية، ومن هنا يجب إعداد البديل الممكن، والذى قد يجعل الموانئ الجيبوتية تدخل فى مرحلة قلق مالي خطير، ذلك لأن مواقع الموانئ الإريترية أخطر وأهم لأسباب جيو استراتيجية.
يجب أيضا أن نتذكر بأن الدكتور أحمد آبي طالب من النظام الإريتري أن يمنحه منصب سفير فوق العادة للشعب الإريتري، وهذا يعنى بأن رئيس الوزراء فى إثيوبيا يخطط لمستقبل ما بعد جيبوتى، ولكن النظام الحاكم فى جيبوتى لا يعي الأفكار الجديدة التى يحملها الدكتور آبي.
بدأ جيلة، رئيس جيبوتى يتٌجه نحو محور (تركيا - قطر) وذلك بعد أن لاحظ بأن محور السعودية الإمارتية متجهة نحو إريتريا، ولكن عبر البوابة الرئيسيّة للمنطقة وهي إثيوبيا، ولهذا وجدنا تخبّط جيلة فى التعامل مع هذه الملفات الساخنة، فهو قد تخلّف عن قمة القدس المنعقدة فى تركيا، بل وخفض التمثيلية إلى حد غريب حيث مثل سفير جيبوتى فى الرياض، ولكنه وبشكل مفاجئ، ذهب إلى حفل تنصيب الرئيس أوردوغان، وليس بين الحدثين زمن معتبر، والسبب هو أن سياسة جيلة متّسمة بالآنية، بينما الأحداث التى تقع فى المنطقة كبيرة، وهامة، ومؤثرة إقليميا ودوليا.
هناك شبكات للإمارات تعمل فى المنطقة بدءا من إريتريا، مرورا باليمن، وانتهاءا بسواحل الصومال (الصومال لاند، وبونت لاند، وجوبا لاند، وجنوب الصومال)، فهذا النوع من الربط يجعل القرن الأفريقي يتجه نحو الصراع (الصامت) بقوة، ذلك لأن تركيا الجديدة لن تقبل أن تخلو الساحة للإمارات، بل سوف تطالب وبقوة وجودا متزايدا فى جيبوتى التى تشعر باليتم فى المرحلة القادمة، وفى جنوب الصومال، وفى السودان، كما أن الصين لن تتخلى عن مكتسباتها الجديدة بحال من الأحوال.
إن هذه الخطوة الجريئة، وغير البريئة من الدكتور أحمد آبي سوف تصنع قرنا أفريقيا جديدا، فأولى النتائج من الزيارة إعادة العلاقات الطبيعية ما بين إثيوبيا وإريتريا، وعودة دولة إريتريا إلى المحيط كلاعب سياسي مهم، وكل ذلك يعنى بأن مرحلة (اللاحرب واللاسلم) قد انتهت، كما أن مرحلة التكامل الإقتصادي ما بينهما سوف يبدأ، ومن هنا تبدأ مرحلة الإنتقال إلى مربع جديد، من شأنه ان يؤدى إلى إفشال مشروع (ملس زيناوي)، والذى كان من أولى أولوياته ربط الحياة المالية الإثيوبية إلى موانئ جيبوتى فقط وبشكل حصري، وخاصة ميناء جيبوتى، وميناء تاجورا، ومن هنا، سيُصبِح الحلم الزناوي من التاريخ.
لست مع الذين يَرَوْن فى الزيارة معنى التقارب فقط، ولكنى أرى فيها معنى أخطر من التقارب، وهو التجاوز، فقد نجح الدكتور أحمد آبي تجاوز ما صنعه السيد ملس زيناوي، وتخلّص من عقدة شخصنة السياسة، والتاريخ، فمدّ يده لأفورقي فى لحظة حرجة، كان الأخير فى أمسّ الحاجة إلى ذلك، فالتقط بسرعة تلك اليد الممدودة له، ولكن الذكاء السياسي للدكتور أحمد آبي ليس متجها فقط نحوأفورقي، بل ما بعد أفورقي، وتلك لعبة سياسية خطيرة تحمل فى طياتها ألف حساب.
تجاوز الرجل عقدة ملس الزناوي السياسية مع اريتريا، ثم تقارب، فهذه هي اللغة التى يتقنها السيد الدكتور أحمد آبي، بينما الساسة فى بلادنا يتقنون لغة الحسد والخوف، والهرولة نحو الخارج بغير فهم إستراتيجي، وغدا سوف يبدأ لغته مع (جيلة وأفورقي)، وقد دخلا فى حروب بالوكالة، ولكن الرجل كعادته سوف يوقفها بزيارة، أو بدعوة واحدة، وحينها سوف تعلمون بأن المسألة لم تكن لأجل الوطن، ولكنها كانت لأجل السلطة.
إن النتائج كما ترونها مذهلة، ولكن هل من وراء النتائج مشكلات، هذا ما سوف أتناوله فى مقال لاحق بإذن الله