تحس آبي أحمد وإثيوبيا ولا ترى ارتريا
بقلم الإعلامية الأستاذة: آمال علي محمد صالح - كاتبة والناقدة ارترية
"اليوم ضيعت كل اللغات: الأمهرية والتقرينية.. ولكن يمكنكم قراءة مشاعري في الوجه".
بهذه الجملة، وجه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد كلماته إلى الشعب الإريتري، في ما يمكن أن نسميه (قمة أو لقاء السلام الإريتري- الإثيوبي) نهار الأحد ٨ يوليو في العاصمة الإريترية أسمرا.
لم يذكر آبي أحمد الأورومية، وهي لغته الأم، في ما بدا لي أنه ذكاء وحساسية تجاه الحس الإثني - القومي الذي يحكم مشاعر وانفعالات شعوب إرتريا وإثيوبيا على حد سواء؛ فهو لا يحتاج أن يذكِّر الآخرين بسطوة وقدرة الأرومية، لغة وقومية، وخاصة بعد الانتفاضة الكبيرة التي قام بها الأروميون ٢٠١٦ ضد ما يعتبرونه انتهاكًا لحقوقهم وأراضيهم. تلك الانتفاضة التي أودت بالمشهد السياسي في إثيوبيا إلى التغيير الجذري، وانتهت نتائجها إلى زعزعة، ومن ثم، إزاحة لهيمنة قومية التقراي بعد ٢٧ عامًا من السيطرة على الحكم في إثيوبيا، وآلت، تدريجيًا، إلى الأتيان بآبي أحمد إلى سدة الحكم.
جاء تولي آبي أحمد لمنصب رئيس الوزراء معادلًا ومباركًا من الائتلاف الحاكم في إثيوبيا. فهو لا يمثل فقط معادلًا إثنيًا يصلح للمرحلة - أي في كونه أرومي الأب وأمهري الأم - بل يتجاوز ذلك إلى كفاءته العالية وخبراته العلمية والعملية في فض النزاعات وإحلال السلم. وهو المتخصص في دراسات الأمن والسلام، وكانت "النزاعات المحلية في البلاد" موضوعة بحثه للدكتوراه.
خاطب د. آبي أحمد الشعب الإرتري بكلمات منتقاة ولغة دقيقة، مادحاً ميزاته كشعب مناضل، محبًا لأرضه ومعتزًا بكرامته.
شعبّ كما قال "عصامي ومحب للعمل والإنجاز". وأكد في كلمته المرتجلة أنه رغم حظوظ الشعب الإرتري الكبيرة في امتلاك كل هذه الصفات والهبات الطبيعية من ثروات بحرية وطاقة بشرية، فأنه لن يتمكن من الاستفادة منها والاستمتاع بها إذا انعدم السلام والأمان. ووجه كلماته إلى رجالات الدين المسيحي والإسلامي، مذكرًا بأهمية دورهم في تعزيز مفاهيم السلام بين شعبيّ البلدين. ودعاهم إلى اعتبار أبناء الشعب الإثيوبي كأبنائهم.
لم يغفل آبي أحمد عن توجيه كلمة قصيرة باللغة الأمهرية التي قال إن الكثير من أبناء وبنات الشعب الإرتري يجيدونها. وفي رأيي الخاص، كان ذلك في واقع الأمر دعوة ذكية لاشراك حلفاءه من الأمهرا في إثيوبيا في هذه الاحتفالية السلمية، والتأكيد على قوة تحالفه معهم في مشروعه السلمي.
أما الرئيس الإرتري إسياس أفورقي. المرحب بالمبادرة السلمية بعد صمت، أثار الكثير من الجدل؛ فقد تحدث باختصار وبأريحية غير معهودة. وقال إنه لم يستعد لإلقاء خطاب في هذه المناسبة.
تفادى أفورقي، وعن قصد، حرج مخاطبة شعبه والعالم، وحرج توضيح موقفه من مبادرة السلام اليوم، والتي لم تختلف بأي شكل عن مبادرة السلام بالأمس مع رفيق نضاله وصديق أمسه مليس زيناوي رئيس الوزراء الإثيوبي السابق. واختصر كلمته بالترحيب والتأكيد على أنه لم يخسر واستعاد كل ممتلكاته.
عموما، لا يغيب عن المتتبع والمراقب للحراك السياسي في شرق أفريقيا، وتحديدا في كل من إثيوبيا وإرتريا، لايغيب عنه الدور الدولي والإقليمي من وراء مبادرة السلام الإريتري - الإثيوبي؛ فمنذ اندلاع الأزمة الخليجية بين قطر ودول التحالف الخليجي، وربما قبلها بسنوات، بدأ الاهتمام كبيرًا بالمنطقة، قبل كل من السعودية والإمارات من جهة، وقطر وإيران من جهة ثانية.
فالمنطقة ذات أهمية استراتجية وأمنية واضحة. مجاورة إرتريا للبحر الأحمر واطلالتها على باب المندب. بالإضافة إلى تحولها مؤخراً إلى صمام أمان للسعودية في حربها ضد الحوثيين في اليمن. وكذلك أهميتها كدولة مواني بديلة يمكن الاستثمار فيها مستقبلًا من قبل الإمارات وحليفاتها. إلى جانب إدراك أفورقي بأهمية وتوظيف كل ذلك سياسيًا، لتأمين وضمان استمراريته في الحكم ودحر فرقائه في الداخل وفي دول الجوار. فكان دافعه إلى السعي بحنكة وذكاء كبيرين، لا يمكننا إنكارهما عليه، إلى كسب الإمارات إلى جانبه من خلال الدخول في معاهدات وعقود استثمارية طويلة المدى، تعطي الإمارات الكثير من الصلاحية وقوة التأثير على مجريات الأمور في المنطقة. هذا بالإضافة إلى وعي آخر من الجانب الإثيوبي بأهمية الاستثمار في علاقات جيدة ومتينة، أيضًا مع كل من السعودية والإمارات. فإثيوبيا هي دولة المنبع والمستثمر الأكبر في مياه النيل عبر مشروع سد النهضة الكبير المثير للجدل والخلاف.
هذا بالإضافة إلى حنكة وذكاء إثيوبيا التي لم تتردد في إدخال الصين المنافس عالمياً إلى المنطقة والسماح لها بالاستثمار في إثيوبيا.
كل هذا ساعد على تهيئة كل من إثيوبيا من جهة ونظام أفورقي في إرتريا من جهة ثانية للدخول بكروت رابحة وقوية، ليس في تحالفات المنطقة فقط، بل وفي الاستفادة منها كل بطريقته لتحويلها إلى صمامات أمان لوجودهما واستمراريتهما. ويبقى أن ننظر الآن، وبدقة، إلى المشهد الداخلي لكل من آبي أحمد، داعية السلام، وأفورقي، المرحب به.
يأتي آبي أحمد بمبادرته ضمن حراك وسياق داخلي، ربما يسعى من خلاله إلى إشراك المكونات السياسية الإثيوبية في الانتقال بالبلاد إلى مكان أكثر استقرارًا وأمنًا، كما يذيع، وإلى دعم عجلة التنمية الاقتصادية وتجاوز العقبات والصعوبات التي تمر بها إثيوبيا حاليًا. ويمكن للمتتبع العودة إلى الكثير من التقارير الإعلامية والأخباريات بشأن الإصلاحات التي تجري في إثيوبيا ضمن هذا السياق.
بالمقابل، يتلقى الجانب الإرتري، بزعامة الرئيس أفورقي هذه المبادرة بالحذر الكبير، إن لم يكن التردد. أفورقي، الذي لم يقدم على أي تغيير أو انفراج على الجبهة الداخلية؛ حيث عمل منذ توليه السلطة (27 عاما) على إقصاء كل خصومه. والزج برفاق النضال في المعتقلات حين اختلفوا معه في الرأي.
أفورقي الذي أقصى، منذ بداية التحرير، كل التيارات السياسية التي أسست للثورة الإريترية وكان لها اسهامها في النضال السلمي والمسلح من أجل استقلال إرتريا. أفورقي الذي لا يعترف بوجود معارضة سياسية بأي شكل من الأشكال، وشهد عهده اعتقالات كبيرة شملت كل من أبدى رأيه فخالف عقيدته السياسية أو طالب بالشرعية والدستور والانتخابات وحكم القانون.
كل هذا يترافق مع ملفات كثيرة، بدءًا من التورط في حروب أهلية في المنطقة ودعم مجموعات مسلحة "الصومال وجنوب وشرق السودان"، إلى ملفات انتهاك حقوق الإنسان في إرتريا.
في ظل كل هذا، من الطبيعي بمكان ألا يوجِّه أفورقي كلمته إلى الشعب الإرتري في حدث تاريخي ومصيري كهذا. ومن الطبيعي أيضًا أن يتجنب الطرفان التطرق إلى أم القضايا وأس الخلاف: النزاع الحدودوي. وما تم التوصل اليه ضمن هذه التسوية.
ومن الطبيعي أيضا، أن يذهب آبي أحمد، القادم من حرصه وحماسه، إلى تحقيق المزيد من المكتسبات لشعبه. وأن يمضي في اتفاق السلام وبمبادرة ومباركة وضغط إماراتي - سعودي - أمريكي، دون أن يتطرق إلى قضايا حقوق الإنسان في إريتريا.
عليه يبدو أن الشعب الإرتري يقف على مسافة صعبة وبعيدة عن هذه التطورات. وتغيب مشاركة من هم أصحاب المصلحة الأساسية في السلام، أي الإرتريين. بتعدد وتنوع قومياتهم وتوجهاتهم السياسية، في عالم تحكمه إدارة يتركز اهتمامها أكثر على رفع اسهمها الاقتصادية في البورصات وتعزيز مكانتها وتواجدها على الساحة الدولية.
مؤقتًا، لا يملك الإرتريون الكثير الآن. ربما ليس أكثر من رفع أصواتهم والمطالبة ببعض استحقاقاتهم في ما يجري، سلام كان أم تسوية.
يتحدث الإثيوبيون اليوم عن الدور والدعم الإماراتي في مبادرة السلام. وتردد الأخبار عن تسلم الإثيوبيون لعدة مليارات من دولة الإمارات. كانت كفيلة على ما يبدو بدعم التغيير في الداخل.
في إثيوبيا، أطلق آبي أحمد سراح كل السجناء السياسيين بعد توليه المنصب، وألغى تهمة الإرهاب عن كل التنظيمات السياسية المعارضة. بل دعاها إلى العودة والمشاركة في صنع إثيوبيا جديدة وهذا ما حصل. كما قبل بتبني مبادرة السلام مع ارتريا.
والتي أدت إلى توقيع معاهدة السلام والصداقة بين البلدين وعودة العلاقات الدبلوماسية والتجارية وخطوط الاتصال الدولية.
وبالمقابل، لم يتوقف الدعم الإماراتي لحكومة أفورقي، ودفعه لقبول المبادرة، دون أن يكون لذلك تداعياته على الداخل الإرتري. فحكومة أفورقي ما تزال تواجه انتقادات لاذعة وضغط من المجتمع الدولي؛ خاصة فيما يتعلق بملفات انتهاك حقوق الإنسان والخدمة العسكرية الإلزامية التي تصل سنواتها إلى العشر والعشرين سنة.
فهل سيتمكن الإرتريون، وخاصة في المعارضة السياسية، من الضغط على حكومة أفورقي لإجراء تغييرات في الداخل ؟ وهل ستتحقق مطالب الناشطين الإريتريين في الخارج، بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفتح الحدود والتوقف عن اللغة العدائية مع المعارضة الإريترية، بل ودعوتها إلى طاولة الحوار ؟
ربما كان الوقت مبكرًا على الإجابة، لكن ينظر الإرتريون في الداخل والمهجر بترقب وأمل ملحوظ إلى ما ستحمله مبادرة السلام من حلول وتسويات مرجوة سياسياً. إلى جانب ازدهار ورخاء اقتصادي مأمول، ينظرون وإن بدا تحقيق ذلك صعبًا ومصحوبًا بتحديات كبيرة في ظل تغير المواقف الدولية التي بدت تنحو الى المرونة والليونة اتجاه الحكومة الارترية.