من التامل في زمن المعجزات - الحلقة الثالثة والأخيرة
بقلم الأستاذ: أحمد صالح القيسي - قيادي سابق بجبهة الشعبية لتحرير إرتريا
ماهو شكل المستقبل... امام هذه المعطيات السياسية ؟ وماهو الثمن والخسارة ؟ وكيف يمكن تحويله لصالح مشروع وطني ؟
انها اسئلة صعبة... ومعطى سياسي بحاجة للتحليل والتعمق... سيما ما يجب ان ندركه ان كلا النظامين في ارترياء واثيوبيا من الهشاشة ما يعجل ب افشال كل مشاريعهما. ولكن ذلك مرهون بحقيقة واحدة، وهى ادراكنا الى اي مدى كنا واهيمين... وان امورنا
السياسية ممارسة ووعي كانت كارثة. والى خاتمة الموضوع.
اولا: هناك اعتقاد شبه راسخ في الوسط الشعبي الارتري، ان التداعيات التى حصلت في ارتريا على مدى السنوات الماضية. في جميع مناحى الحياة... سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا... وانهيار الحلم الارتري... في وطن مزدهر... وان يكون الانجاز ببناء دولة... مساؤيا لما قدم في حرب التحرير... وهى كلفة باهظة... قد تبدد بسبب الحرب الحدودية بين البلدين... وان حل هذه المشكلة سوف تمثل عودة طبيعية الى ذلك الحلم وما يتفرع عنه من احلام وردية.
والسؤال: هل هذا الاعتقاد حقيقة ؟ ام مجرد وهم ؟ ام تم برمجته بذكاء ممن يصنعون القرار في اسمراء كا حالة تبريرية لتوجهاتهم السياسية.
ثانيا: ما افرزته هذه الحرب... كان امرا حتميا... فا الموضوع لا يحتمل السكوت علية، ولكن الاشكالية ارتباط موضوع الحرب كا حالة قائمة بذاتها مع قضايا ارترية داخلية بحتة... كا الدستور... وبناء الدولة المدنية... ومسالة العدالة الاجتماعية... والمساؤاة في الحقوق والوجبات، وغيرها من التساؤلات التى بقيت عالقة ابان حرب التحرير، مما خلق حالة من البلبلة. والمؤسف في الموضوع بحق ان معالجات النظام لهذه التحركات والاصوات كانت اقرب الى الهيستيريا... منه الى معالجة موضوعية... يحكم فيها العقل... وليس العقوبة الرادعة... والتخوين.
ثالثا: ان القبول بقرار التحكيم من الجانبين.. قد ادى بالفعل الى صمت المدافع ولعلعة الرصاص على طول الحدود، ولكن صيرورة استمرار الحرب استمرت بطرق اخرى وعبر اطراف اخرى ايضا. فا جرت في الصومال من خلال دعم اطراف ضد اطراف اخرى... وكان واضحا ان التاجيج في الصومال هو حرب بالوكالة... بين الطريفين... واستنفذت اموال وطاقات... وتبعها قرار اممي ضد ارترياء. مما دفع النظام الارتري للاندفاع بعيدا بتحسين علاقته بايران... بدفع الصراع الي ابعد مدى ممكن.
رابعا: طوال مرحلة اللاحرب... واللاسلام كان الاستقطاب على مستوى الاقليم قائما. فانفجر صراع جديد بين ارترياء... وجيبوتي، ولم تكن اثيوبيا بعيدة عنه... انها حرب بتسجيل النقاط... وبالتدريج بداء النظام الارتري يعانى من عزلة تامة اقليميا... ودوليا، فالكل كان مقتنعا بصوابية الموقف الاثيوبي... حتى بعد التحكيم فقد بقيت دول اقليمية... ودولية مقتنعة ان الامور لا تنتهى بالحكم الذي اصدرته المحكمة، بل لابد من نقاش في التفاصيل والجزئيات، واعتقد جازما ان هذه المسالة ستبقى قائمة. مهما كان موقف الحكومة في اديس. وقد شاهدنا ما جرى بعد اعلان رئيس الوزراء الاثيوبي من تنظيم مظاهرات لسكان المنطقة احتجاجا للقبول.
خامسا: واستمرارا في الحرب بين النظامين عبر استغلال التناقضات السياسية والاجتماعية، فقد اصبحت عاصمة كل بلد مرتع للمعارضات المتنوعة لهذا الطرف او ذاك... واصبح التدخل في شؤون كل طرف يجرى جهارا نهارا، وفتحت الابواب على مصرعيها لاستقبال اي طرف، فقط ان يعلن انه مقاوما... واصبحت اجهزة الاستخبارات في كلا البلدين شغلها الشاغل تجميع هذه المعارضات، اواعادة تشكيلها بما ينسجم وسياسات الدولة المضيفة، ومن سؤ الطالع وتحت تاثير العقلية الامنية والاستخباراتية، ان هذه العقلية لم تميز بين هدفها وهو اسياس ونظامه او تغذية النعرات داخل المجتمع الواحد... بل شطح البعض لفرض النموذج الاثيوبي... مسالة الفيدرالية.. وغيرها كحل للمسالة.. هذه المسائل كانت احدى النكبات القاتلة للمعارضة الارترية. اما النظام الارتري... فقد كانت الارضية مهئية له... بالتركيز علي مسالة القوميات.. وهيمنة التجراي على الحكم ومسالة القوميات في اثيوبيا مسالة مزمنة... يمكن لاي كان استخدامها... والاختراق الوحيد الذي حققه النظام الارتري، هو تجميعه للمعارضة الخاصة بقومية التجراى ولكن هذه المسالة انتهت تراجيديا، اذا ظهر في نهاية المطاف انها قوة مخترقة، تم ارسالها من قبل النظام الاثيوبى.
سادسا: ان السياسات التى اعتمدت من كلا الطرفين النظام في ارتريا و اثيوبيا على صعيد السياسات الداخلية والمعالجات للازمات اقتصاديا.. واجتماعيا وسياسيا كانت جميعها كوارث من العيار الثقيل.. ففي ارترياء وهى الاقرب لاهتماماتنا حسم الامر على قاعدة من لا يقبل بسياسات الحكومة فلابد من ردعه... بل وصل الامر في تلفيق المواقف في محاولة تصفية حسابات قديمة، او احتياطا من مواقف مناؤئة مستقبلا. وبدت سياسة عسكرة المجتمع والاقتصاد وكل مناحى الحياة بحجة المواجهة، وتحت ظلال عبودية يصعب وصفها... مما اتاحت هذه لبروز التناقضات الاجتماعية على السطح مما كان مخزونا... او تم تجاوزه ابان التحرير... ولكن العصاء الغليظة للنظام.. وتوجيه هذه السلبيات بما يخدم سياسات النظام كانت هى السمة الغالبة على المشهد، ومن سخريات القدر ان النظام كان يفرض نفسه وبطرق مسرحية بانه الراعى والحامي للقيم الوطنية، من خلال التسويق بان هناك تطاول اسلامي وانهم يحاولون فرض نموذجهم في مناحي الحياة الاجتماعية، وب التوازي قمع الاقليات المذهبية من الطائفة المسيحية. والمهادنة وممارسة لعبة القط والفار... مع الكنائيس المسيحية الكبيرة. اما على الصعيد الاقتصادي فقد تدهورت اوضاع الشعب الى مستوى ان معظم الافراد والاسر اصبح استمرارها في الحياة مرهونا على ما يرسلونه ابنائهم في المهجر.
سابعا: اما في اثيوبيا واذا استبعدنا مظاهر التطور العمراني في العاصمة، فان الحياة في الريف لم تتغيير ان لم تكن ساءت كثيرا نتيجة نزع الاراضي ووضعها تحت تصرف اصحاب رؤوس الاموال الكبيرة، وتحديدا الشركات العالمية الكبيرة، او دولا عربية بترولية بغرض الاستثمار في محاصيل معينة، وتدريجيا اصبح ملاك الاراضى عمال زراعيين لدى هذه الشركات باجر يومي لا يتعدى الخمسون سنتا للثمانية ساعات حسب تقرير البي بي سي، اما فيما يتعلق بمنطقة تجراي وشعبها... فيمكن التاكيد بصورة جازمة، بان الشعب في تجراي لا يختلف وضعه عن الشعب الارتري، ان لم يكن قد ازداد بؤسا، وما يقال بان الامتيازات قد حظيت بها منطقة تجراي هو مجرد اكاذيب ودعايات، اما المستفيدون فهم قلة من المنتفعين وواجهات لمسؤولين كبار... وهذه حالة عامة في العالم الثالث، من المحزن في هذا الموضوع لقد تعاملت قيادات التجراي مع شعبها بنفس المنوال الذي تعامل به اسياس مع شعبه كا ملكية خاصة اما المشاريع التى اقيمت في تجراي... فلا تختلف عن مشاريع السيد اسياس في ارتريا، فقد تم بناء مطار في... مقلي... بحيث اعتبر المطار الثاني بعد مطار اديس وكان موضوع بناء مطار هي مشكلة... تجراي... وتم بناء جامعة... وهذا اصبح في عالم اليوم مجرد عمل تجاري استثماري لمن يملك مالا... وليس انجازا تفاخر به الدولة. اما التعدين فقد سلم لشركات كبرى مع شراكة الحزب، وكذلك باقي المشروعات. بينما يبقى السؤال المتعلق بتجراي هل تم القضاء على الفقر هناك ؟ او التقليل من نسبته ؟ فالاجابة بكل تاكيد... لا... كبيرة، ان نسبة الهروب واللجؤ من اثيوبيا يحتل ابناء تجراي المرتبة الثانية بعد الاروموا... ويمكن الرجوع لمعرفة الحقيقة الى وثائق الامم المتحدة ومكتبها في اليمن. انني اضع هذه الحقائق لاهميتها في الصراع القادم بحيث ان لا نخلط بين التجراي كا شعب... وقيادات جبهة تحرير تجراي... والمعتصمة حاليا في تجراي.
ثامنا: سوف اختصر في سرد الحقائق التى اعتبرها اساسية... لفهم ملامح المرحلة القادمة بعد التطورات الاخيرة... ومراهنة البعض بتغير الاحوال... وفعلا سوف تتغيير ولكن ليس كما يتوقع اصحاب النوايا الطيبة... ان السؤال الرئيسي يكمن في الاجابة على سؤال... ماهى العوامل والدوافع التى اوصلت الى هذه النهاية وبهذه السرعة... وبتلك الحفاوة ؟؟؟ والواقع لم تاتى هذه المتغيرات وبهذه الصورة، مثل قناعة لدى الاطراف بانهم قد بلغو الطريق المسدود وحان الوقت للبحث عن مخرج، بل بالعكس فكل الاطراف كانت متمترسة في خنادقها تتحين الفرصة لتسجل النقاط ضد الطرف الاخر، فالموضوع ابعد بكثير ان يكون خلافا حدوديا وتفسيرات قانونية. والواقع ان عوامل داخلية.. وترتيبات خارجية ذات بعد دولي واستراتيجي صنعت هذه التحولات... لمعرفة البعد الاستراتيجي يمكن العودة لما كتبه.. بنيامين كوهين... قبل عامين.. في صحيفة... سينس مونتر... بضرورة حل الخلافات بين البلدين ومواجهة المد والوجود
العربي في البحر الاحمر ومن المفارقات الغريبة... ان تنفذ السياسة التى طالب بها... كوهين... ب ايادي عربية وكانوا ومعهم اموالهم عرابين هذه الخطة في التصور الاستراتيجي لتنفيذ المتغيرات الجيوسياسة في هذه المنطقة المشتعلة... وسياسة ترامب في تطويق ايران... ومن يتهمون بانهم توابعها في المنطقة ومشروع القرن لحل القضية الفلسطينة وغيرها لتغيير صورة المنطقة. كل هذه العوامل وغيرها وضعت مسالة الخلاف الحدودى مسالة يجب تجاوزها.
تاسعا: ولكن هذا التجاوز كان بحاجة لاسباب داخلية مقبولة تمهد لفرض واقع جديد، وفي ظروف مثل هذه دائما ما يبحث صناع السياسة ومحترفي المؤامرات عن المناطق الرخوة كى تكون مدخلا لتمرير وصناعة الواقع الجديد المطلوب اقامته... فتم استغلال المطالب الشعبية... لاحداث التغيير... واستجاب الاخوة التجراي بتسليم السلطة لمن يمثلون الاغلبية... اقتناعا منهم بان من جاء ممثلا للاغلبية ماهو الا امتدادا لنفس المدرسة السياسية وان مؤسسات الدولة ستقف الى جانب السياسة السائدة، ولكن جرت الامور باتجاه معاكس تماما... مما دفع قيادات جبهة التجراي للذهاب الى مناطقها والانكفاء في اوساط جماهيرها الذين لا يذكرون الا في الازمات والحروب، وبدات في ارسال رسائلها الى رئيس الوزراء بضرورة التريث والمطالبة باجتماع. ولكنه لجاء الى اسلوب هجومي بدعوة البرلمان ونزع الاعتراف بصوابية خطواته، وكال الاتهامات من العيار الثقيل حول الفساد، وسجن المعارضين... والى اخره وحين بلغت المواجهة هذا المستوى قفز اسياس ليعلن استجابته وارسال وفدا الى اديس. هذه هي حقيقة المسالة... اما ما تبعها من كرنفالات وابتسامات فهي رسائل بان الامور بلغت مستوى التحالف وليس فقط حلا للمسالة الحدودية.
عاشرا: من الحقائق الاساسية انه ليس هناك حدودا مباشرة بين ارتريا واثيوبيا. بل حدودا بين تجراي وارترياء. ولانهم اصحاب الارض وسكانها فلا يمكن ان توجد حلا نهائيا الا برغبة اصحاب الارض ورضاهم. وان القوى المعترضة في تجراي هى صاحبت الراي والنهي في ترسيم الحدود، اوعدمه. ومن هنا لا يمكن تمرير السيناريوا الذي اعد الا من خلال حالتين : القضاء عليهم او ان تجعلهم يرضون بصفقة، وفي كلتا الحالتين فان جبهة تجراي وقيادتها قد ربطت مصيرها وما يجري من تحجيم لدورها بمسالة الحدود وتطبيع العلاقات مع ارترياء. وهنا يكمن الخلل الكبير فيما نراه من هرولة غير محسوبة العواقب، نحو تجاوز صراع امتد زمنا طويلا... واعطى قيمة وحجم اكثر مما يستحق، واصبح شماعة لتمرير اجندات... وارتبط كامبرر للالتفاف على استحقاقات اساسية ولا سيما في الجانب الارتري.
الخلاصة:
1. على الشعب الارتري وقواه السياسية ان لا تعطي اهمية كبيرة لكل ما يجري، وان يكون التركيز قائما على حقيقة ثابتة... سوى حلت المسالة ام لا بان غاية الشعب الارتري هو في الاستحقاقات الوطنية في بناء الدولة... وصياغة الدستور المرتكز على وحدة الشعب والارض، والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، والحقوق المتساوية للجميع... والمواطنة المتكافئة عبر الحقوق والواجبات. هذه المبادئ الاساسية. كما يسبقها كمدخل طبيعي المحاسبة الجادة لكل الممارسات التى امتدت على مدى سنوات بحجة الحرب الحدودية... من اعتقالات اعتباطية... واغتيالات... وسحق شبه كامل للحقوق الاساسية للانسان الارتري. والتهجير والموت المجاني في صحاري وبحار هذا العالم، من خلال تطبيق مفهوم العدالة... والمحاسبة، خلاف ذلك فهو مضيعة للحقوق، وعبث بارواح الشهداء ومعاناة هذا الشعب. فلا يمكن ولا يجوز ان تكون قطعة ارض حدودية سببا في ضياع حقوق وتضحيات شعب كامل.
2. يبدو ان كرنفالات الايام الماضية، وبروز الرئيس الارتري كا منتصر وصامد، واندفاع رئيس الوزراء الاثيوبي دون كوابح، قد اصطدمت باول صخرة في التطبيق العملى للسيناريوا الذي رسم، مما استدعى السفر السريع الى العرابين في... ابوظبي... لانقاذ الموقف... ولكن السؤال... كيف يمكن لك ان تبحث على حل من اناس حديثي العهد بمشاكل المنطقة... بل انهم في حالات كثيرة لايعرفون اسماء مناطقها وقبائلها... فما بالك بمورؤث عقدها المتراكمة.
3. كما ان قيادة التجراي... ليست من ذاك الصنف الغافل... فما ان يجدوا انفسهم في مازق... حتى يستدعوا كل الموروث التاريخي لديهم والخبث المميز في تركيبتهم الشخصية.. فقاموا بحركة التفافية.. في محاولة لاستدراج الاخوة العفر... باعتبارهم ورقة اساسية في ترجيح الكفة، وفرض موازين وابعاد جديدة، ولكن جاء الرد من عفر ارتريا البواسل بحق، من خلال الموتمر الذي عقد في السويد ليوكد ارترية القضية العفرية، وارتباطها بالشعب الارتري وانها جزء منه. فا كل التحية لهولا والتى جاءت خطوتهم في لحظة فارقة في هذا الصراع.
4. واخيرا وبعيدا عن كل شئ... تبقى كلمة للمعارضة الارترية. بانه قد حان وقت المراجعة. والنظر والتقييم... للممارسة السابقة. واننا في مفترق طريق وان صراع اليوم ليس كا الامس، وان المعطيات الجديدة تضعنا جميعا عند لحظة نكون اولا نكون... واول خطوة ان ننفض غبار الديماغوجية التى طبعت سلوكنا السياسي في الماضي. وان يكون ايماننا راسخا بان المراهنة على الاخرين هو انتحار... وان رهان النصر مرهون اولا واخير بشعبنا... ودحنكم