من التامل في زمن المعجزات - الحلقة الثانية

بقلم الأستاذ: أحمد صالح القيسي - قيادي سابق بجبهة الشعبية لتحرير إرتريا

لم اصاب بالحيرة والتعجب من مشاهد او مواقف... كما اصابنى في الاونة الاخيرة، منذ اللحظة التى اعلن فيها،

اختيار السيد/ ابي احمد رئيسا للوزراء في اثيوبيا.

أحمد صالح القيسي و أسياس أفورقي 2

فالرجل لم يكن بتلك الشهرة واللمعان في اكستراء لعبة الكراسي، وتوزيع مراكز القوى في السلطة. بل جاء وهو يحمل علامتان، تنسف تلك الصورة النمطية التى طبعت في اذهاننا منذ الطفولة... اثيوبيا كا قلعة للمسيحية، والرجل جاء يحمل اسما اسلاميا، والثانية: ان ياتي شخصا من قومية الارومو... هكذا ببساطة وبطريقة سلسة، مع ان العادة والبصمة الاثيوبية للوصول للسلطة لابد وان يسبقها شلالات من الدماء تمنح صاحبها الاحقية، ثم يبداء مسلسل الاستبداد. هذا هو التاريخ منذ منلييك، وحتى الويانى.

هذه المرة الصورة اختلفت تماما، ماعدى احتججات مهما بالغنا في تصويرها. فقد حدثت مثلها مرات عديدة، مع كل مناسبة انتخابات ويتم قمعها وتعود الامور الى سابق عهدها. هذه المرة تغير المشهد تماما. اولى المفاجاءت استقالة... دسالين... كاتعبير واستجابة للمطالب الشعبية... وهى حالة نادرة ان لم تكن على مستوى القارة الافريقية، فما بالك باثيوبيا، ولقد لعب الرجل المستقيل الدور بكفاءة عالية نادرة الحدوث في افريقيا، سيما حين تم تكريمه في مؤسسة.. محمد ابراهيم في لندن، والتعليق الموسع الذي قدمه حول
ازمة الحكم في العالم الثالث ومسالة الديمقراطية. وقد كان مثالا في التبحر في تشخيص هذه الازمة.

وللامانة لقد شعرت بحزن عميق ان تخسر القارة شخصية فذة مثل دسالين وليس اثيوبيا فقط... ويبدو ان الرجل قد حصل على جائزة المؤسسة.. التى تمنحها للقادة الذين يهجرون السلطة طواعية كا تعبير عن التضحية.. والحكم الرشيد، المهم ما علينا، شخصيا لست ممن يحكمون على الحكام بدياناتهم.. او انتمائهم العرقي.. فليكن ما يكون المهم هى الرؤية والنهج والمشروع، ولكن فى الحالة الاثيوبية تستوقفك طبيعة الامور ان تاخذ بعض هذه الامور بالاعتبار من باب ان تستقيم الرؤية وتتوضح... واعلنت وبصوت عال ان ما يحدث في اثيوبيا ثورة، وليست كاي ثورة... انه زلزال في الوعي الجمعي الاثيوبي... بل وصل بي الامر ان اعلنت صراحة في احدى اللقاءت، ان علينا نحن الارتريون ان نتعلم من الشعب الاثيوبي، وان مايحدث في اثيوبيا سوف ينعكس علينا وعلى المنطقة والقارة الافريقية، الى هذاالحد بلغ بى الاندهاش.

ولكنني كنت على قناعة شبه مطلقة... بان ارتدادات الحرب كما عصفت بنا في صراع مميت، لابد وان تشملهم ولكن ليست بتلك الحدة، وهذه من طبائع الامور... ولكن ان تصل المسالة للانقلاب على الماضي وما يعتبر انجازا، وتقزيم الرموز... وتوجيه المدافع سرا على المستوى الرسمي، وعلانية على المستوى الشعبي تجاه جبهة تحرير تجراي ورموزها، والتى يعود لها الفضل في مجئ هولا الحكام الجدد... لابد وان يبعث على الحيرة، من بديهيات الامور في السياسة، وفي عالم اليوم تحديدا، ان صادف لتكون اللحظة قد حانت لمعالجة القضايا والملفات العالقة، فلابد من تصنيف القضايا وجدولتها من حيث الاهمية... والاولوية، وفوق هذا وذاك لابد من نضوج عوامل موضوعية... وذاتية، حتى لاترتد المعالجة دمارا وخرابا... ولكن المدرسة السياسية للسيد/ ابي احمد بعيدة جدا
عن هذا الفهم... ما ان تموضع في المنصب حتى فتح جميع الملفات دفعة واحدة، بحيث يضع المراقب عن قرب يده على قلبه، والغريب ما ان تصادفه عقبه حتى عاد الى البرلمان وقيادة الجبهة ليستمد المدد...

وما ان يحصل عليه حتى هرول مسروعا... هل هى سياسة الصدمات التى اجادها الرئس المرحوم/ انور السادات وكانت سببا رئسيا في اغتياله... مع اختلاف الظروف... اما اننا امام حالة خاصة لم نبلغ مستوى لاستيعابها، منذ اليوم الاول لم يقر الرجل في جولات مكوكية في الداخل والخارج... وقد كان ملفتا ان تكون البداية اقليم تجراي... وخطاب باللغة التجرينية... والاشادة لبطولات ابنائها... وتقديم الشكر والعرفان لرموزها... وعلى راسهم المرحوم... ملس زيناوي...

من يعرف دواخل الامور يعي تماما ان الرجل مقتنع في قرارة نفسه ان جبهة المواجهة هى هنا... وان من يصفقون له في القاعة جاهزون للانقضاض عليه، ان تجاوز الخطوط الحمراء، وهى في فهم التجراي ان ما جرى من تحولات في اثيوبيا يعود الفضل لتضحياتهم ودماء واشلاء ابنائهم، هذا الاحساس والشعور في الوعي واللاوعى يسكن كل فرد في... تجراي... حتى عند اكثر الناس كرها لقيادة الجبهة التجراوية.

ما ان عاد الى العاصمة حتى بدات العواصف وموجات الغبار من المواقف والاجراءت التى بداء يعلن عنها... كان الاجراء الاول داخليا وكان يحمل مغزى ومعنى بعيد، وهو التعديل في نظام الحكم الفيدرالي وحصة الاقاليم من الميزانية العامة، والثاني هو المعيار في الحصص وفقا لكثافة السكان.

وكان اجرا مثل هذا رغم المنطق والعدل فيه موجها الي الاقليات ومن بينها شعب التجراي، ابعاد شخصيتين من مؤسستين يعتبران في عالمنا الثالث اعمدة اساسية في ضمان الحكم... الدفاع... والامن... وهكذا دواليك كل يوم جديد بعضه رسائل للداخل والبعض الاخر للخارج. كلها تصب في منحى واحد... يشير ان عهدا جديدا بمفاهيم جديدة قد بزغ فجره في اثيوبيا.

خارجيا... لايقل غرائبية عن ما يجري في الداخل... الى السودان وحل ملفات ساخنة في قضايا تمس الحدود والمزارع المتداخلة بين البلدين، والاعلان في المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيسين ان كلا البلدين قد بلغ التقارب بينهما مرحلة الصفر مشاكل.

السعودية وحفاوة الاستقبال وتعزيز التعاون الثنائئ، ورفع مستوى الاسهام الاستثماري للمملكة في اثيوبيا الى الحد ان طلب بالافراج عن السيد العمودى وصطحابة معه بالطائرة الى اديس ابابا، لاهمية الرجل في العملية التنموية في اثيوبيا، وقدم وعدا بذالك، مع يحمله الموضوع من ملابسات داخل الحكم في المملكة كون المسالة ذات ارتباط وثيق ببعض افراد الاسرة الحاكمة، ولم تنسى المملكة بالافراج عن بعض السجناء الاثيوبين في المملكة حيث تم نقلهم مباشرة الى المطار ليصحبهم معه الى اثيوبيا وهذه لفتة لها دلالاتها لدى الجمهور الاثيوبى، ولفتة سعودية لتعزيز مكانة رئيس الوزراء الجديد... فا كل شئ محسوب في ميزان الربح والخسارة.

ثم زيارة مصر... والتى فاقت كل التوقعات حتى بلغت مستوى القسم بعدم ايذاء مصر مطلقا من ما يمكن ان ينتج من بناء سد النهضة، وهذه واقعة جديدة في السياسة ان تقسم قسما غليظا يعفيك عن الالتزام الذي تفرضه البرتكولات والاتفاقيات الموقعة بين الدول.

واخيرا العودة الى اديس مصحوبا بحفنة لاباس بها من السجناء تماما كا الحالة السعودية... تعزيز مكانة رئيس الوزراء الجديد، والرسالة واضحة... اللعنة لمن سبقه من الحكام ممن لم يعيرو اهتماما بهؤلا الغلابة السجناء، ثم جاء المخلص رحلة العودة... والارضية التى مهدت اقليميا... ومباركة ورعاية دولية.

مهدت للاعلان المهم، وهو القبول بقرار التحكيم للمحكمة الدولية، وبمقررات اجتماع الجزائر... للوهلة الاولى بدء الموضوع وكان الرجل يحمل مشروعا جديدا على غير العادة السائدة في القرن الافريقي، ان يجعل اثيوبيا... دولة الصفر مشاكل... مع الجوار. وسياسة مثل هذه مستحيلة وبالذات لدولة بحجم وامكانات اثيوبيا.

وان كان كذالك افتراضا فالماذا تجاهل الصومال، واثيوبيا اكثر القوى تاثيرا وحضورا في المسالة الصومالية، ورغم ذلك لم تذكر اطلاقا وسط زحمة الملفات وحجمها، بل توجهت كل الاهتمامات الى ملف واحد... وهى القضية الحدودية بين ارتريا واثيوبيا وسلطت الاضواء حولها، اليس ذلك غريبا !!!

جميع المعطيات والوقائع تشير بلا لبس، هذا التوجه لم ينبع اساسا من رغبة ذاتية لتجاوز المشكلة الحدودية... بقدر ماهى نتاج لترتيبات اقليمية... ودولية.

وجدت من الضروري طيئ هذا الملف... وضرورة ربط كلا البلدين بمشروع يعد للمنطقة... واعادة صياغة مستقبلها... في مشروع الشرق الاوسط الجديد... وتاتي من هنا وهناك وميض ومؤشرات لتاكيد هذه الفرضية.

الرئيس اسياس كان الاكثر وضوحا... كان الاكثر صمتا في البداية.. وعندما حانت الفرصة... قفز قفزة غير متوقعة... حين اعلن بارسال وفد... لم ينسى الاشادة بالرئيس الامريكي ترامب، مع اللعنات المهينة للادارات الامريكية السابقة، شئ مخجل وكذب فاضح، لم يتحدث عن استحقاقات ما بعد السلام، ما يهمه نقطتان تحجيم الويانى بقرار امريكى ورفع الغطاء عنهم.

والثانية: ان يسوق بانه كان وطنيا مخلصا بتمسكه بالثوابث وهاتين النقطتين كافيتان لمحو ذنوبه لما تقدم وما تاخر.

الهفوة الوحيدة التى وقع فيها السيد ابي احمد... ان اعلن ان اثيوبيا سوف تنشئ قوة بحرية... شانها شان الاخرين، وكالعادة وبطيبتنا المعهودة لم نعر الموضوع اهتماما، ولكن بدات تتكشف المسالة تدريجيا... بان مشروع قيام قوة بحرية مشتركة بين ارتريا... واثيوبيا هو المشروع القادم بتمويل خليجي ورعاية امريكية، اما كرنفالات الوفد الارتري في اديس... فقد تجاوز الحد... حتى اصبحت المشكلة الحدودية... ليست شئ من الماضئ بل ابعد كثيرا.. لم تكن هناك مشكلة من الاساس ثم جاءت بزيارة امير دولة الامارات لاثيوبيا وتقديم وديعة بمليار دولار للبنك المركزي الاثيوبي كا غطاء للعملة اثيوبية، وتلك احدى الاستحقات في رحلة ترتيبات المنطقة والبحر الاحمر.

وللحديث بقية... سيما ماهو مستقبل... ارتريا وشعبها ومعارضتها... امام هذه المعطيات السياسية... وماهو الثمن والخسارة... وكيف يمكن تحويله لصالح مشروع وطني... انها اسئلة صعبة... ومعطى سياسي بحاجة للتحليل والتعمق... سيما ما يجب ان ندركه ان كلا النظامين في ارترياء واثيوبيا من الهشاشة ما يعجل ب افشال كل مشاريعهما.

ولكن ذلك مرهون بحقيقة واحدة، وهى ادراكنا الى اي مدى كنا واهيمون... وان امورنا السياسية ممارسة ووعي كانت كارثة.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click