سلسلة قضايا بسيطة و مهمة 6-10
بقلم الأستاذ: علي عافه إدريس - كاتب ومحلل سياسي ارتري
نحن ضحية قياداتنا غير الواعية بـ "الجيوبوليتيك" !!! بادئ ذي بدء أود أن أعطي فكرة بسيطة عن الجيوبوليتيك
وسأكون حريص أن لا يتحول البوست لمناقشة علمية، فمن أراد أن يعرف أكثر عليه البحث في النت فالموضوعات عنه كثيرة وجميلة وشيقة.
كثيرا ما يخلط بين الجيوبوليتيك و الجغرافيا السياسية، رغم أنهما مختلفتان قلبا وقالبا ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:-
- الجغرافيا السياسية : تدرس الإمكانات الجغرافية المتاحة للدولة داخل حدودها.
- الجيوبوليتيك : في معناه البسيط يعني علم "سياسة الأرض"، أي دراسة "تأثير السلوك السياسي" في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة. وهو يعتني بالبحث عن الاحتياجات التي تتطلبها هذه الدولة لتنمو وراء الحدود.
و بينما تشغل الجغرافيا السياسية نفسها بالواقع فإن الجيوبوليتيك تكرس أهدافها للمستقبل.
وما يهمنا في هذا البوست هي الاحتياجات التي تتطلبها الدولة ما وراء الحدود حتى تنمو وتتقوى لأن دولنا هي مجال هذه الاحتياجات وهذا النمو، كما أن ذلك يتم ضمن ما يعرف بالحدود الشفافة للدول، لهذا نحن بحاجة لمعرفة ما يعرف بالحدود السياسية للدولة والحدود الشفافة، فالحدود السياسية هي الحدود المتعارف عليها للدول، بينما الحدود الشفافة فهي تلك الحدود التي تخطها الدولة لنفسها وتمتد إلى حيث توجد مصالحها، ونحن دائما ضحية للحدود الشفافة، وأيضاً بهذا الفهم نحن دائما ضمن الحدود الشفافة لإحدى الدول الكبرى أو كلها.
وهناك الكثير من الفلاسفة والمفكرين الذين لهم نظرياتهم ومساهماتهم المهمة في تطور علم الجيوبوليتيك لكن المجال لا يتسع لذكرهم لهذا سأكتفي بذكر نظرية القلب للجغرافي البريطاني السير هالفورد ماكندر وسأحاول أن أبسطها قدر الإمكان.
وسر اهتمامي بنظرية ماكندر أنها النظرية المعمول بها لدى معظم الدول، والدول الكبرى منها على وجه التحديد وقد صمدت هذه النظرية لأكثر من مئة عام حتى الآن.
وقد قسم ماكندر العالم إلى جزأين الجزء الرئيسي وسماه الجزيرة العالمية (أو عالم البر) ومكون من العالم القديم (آسيا وأوربا وأفريقيا) وما يميزه أن أنه قطعة واحدة كبيرة حيث توجد معظم موارد العالم وكثافته السكانية، وجعل للجزيرة العالمية قلب وهو الرقعة الجغرافية التي تشمل (روسيا وأسيا الصغرى وشمال الصين وشمال إيران، وأوربا الشرقية) والجزء الآخر وهو بقية العالم سماه (عالم البحار) و أعتبره مجموعة جزر تحيط بالجزيرة العالمية وهي الجزر البريطانية والجزر اليابانية والأمريكتين وأستراليا، حيث معظم هذه الدول تعتمد على القوة البحرية بينما دول الجزيرة العالمية تعتمد على القوات البرية حيث لا مجال لنمو قوتها البحرية خاصة و أن قوتها تتركز في قلب العالم وهو ليس له منفذ للبحار والمحيطات سوى المحيطات المتجمدة لهذا يعتمد بشكل أساسي على القوة البرية.
وبعد هذا التقسيم يقول ماكندر أن من أراد السيطرة على العالم أمامه خياران لا ثالث لهما، الخيار الأول: أن يسيطر على قلب العالم.
والخيار الثاني: أن يقوم باحتوائه، ولأن قلب العالم عصي على السيطرة والاقتحام وعلى مر العصور فشلت كل محاولات السيطرة عليه فهو على مر العصور يتراجع وينحسر لوحده ثم تخلف الدول التي به دول أخرى أشد قوة من سابقتها فدولة المغول انحسرت لوحدها وهكذا حدث في الاتحاد السوفيتي وآخر محاولات غزو قلب العالم التي فشلت كانت محاولة ألمانيا بقيادة هتلر لغزو الاتحاد السوفيتي وأمر الفشل المتكرر دفع قوة عالم البحار لأن تركز على الخيار الآخر وهو احتواء قلب العالم لهذا نجد الدول الغربية في حالة حصار دائم لقلب العالم، فهي تسيطر بشكل مباشر أو غير مباشر على الممرات المائية كباب المندب ومضيق هرمز وجبل طارق وكذلك على المناطق الحيوية وكذلك تسيطر على الدول التي تعتبر ممرات مهمة لقلب العالم أما بالسيطرة المباشرة عليها أو السيطرة عليها عبر حلفائها من دول الجزيرة العالمية أو بتعطيلها، مثل أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفيتي سابقا و للجهوريات التي انفصلت عنه، حيث تعتبر الممر الوحيد لها لمد أنابيب الغاز وسوريا التي يفترض أن تكون الممر الوحيد لاتمام مشروع الغاز الخليجي ووصوله إلى أوربا وضرب الغاز الروسي في أوربا، بالإضافة إلى كميات البترول الهائلة التي اكتشفت في المياه الإقليمية السورية مؤخرا، كما أنها المنفذ الوحيد المتبقي للبحرية الروسية للوصول للمياه الدافئة، لهذا روسيا رمت بكل أوراقها فيها.
أما قصة أرتريا مع الجيوبوليتيك قصة قديمة قدم التاريخ لأنها بموقعها الاستراتيجي جاذبة لأطماع كل الدول التي تريد أن تكون ذات شأن في الحاضر والمستقبل بداية بالصراع البرتقالي العثماني ثم التشجيع البريطاني لايطاليا لاستعمارها منعا لدخول الفرنسيون إليها ثم استيلاء البريطانيون عليها بعد هزيمة إيطاليا وسياسات الدفع بها إلى أثيوبيا الحليف الاستراتيجي الكبير للدول الغربية، و هذا الصراع سيستمر دائما و بأشكال مختلفة والضحية أرتريا.
وواضح أن أرتريا نتيجة موقعها الاستراتيجي هي ضمن الحدود الشفافة للولايات المتحدة الأمريكية لهذا هي دائما حاضرة بشكل مباشر أو عبر حلفائها وللتدليل على ذلك سأذكر ثلاثة مواقف:-
- كانت لأمريكا قاعدة اتصالات في أسمرا "قانيوأستيشن" هي الأكبر لها خارج حدودها وقد استعاضة عنها حاليا بمراكز الاتصال المتقدمة في أساطيلها التي تجوب بحار العالم ومحيطاته.
- الموقف الدائم لأمريكا من القضية الأرترية والمراهنة الدائمة على الجانب الأثيوبي حتى في الأوقات التي انحازت فيه أثيوبيا للمعسكر الاشتراكي وحضر لمساندتها الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه (كوبا واليمن) لم يكن لأمريكا موقف مع الجانب الارتري.
- الدفع بحلفائها (الجبهة الشعبية لتحرير أرتريا والجبهة الشعبية لتحرير تجراي والسودان) لإخراج جبهة التحرير الأرترية من الساحة ومساهمتها الواضحة في إبعاد مقاتلي الجبهة من السودان عبر فتح باب الهجرة إلى أمريكا وألمانيا وكأن يكفي لقبول الجندي للهجرة أن يثبت أنه كان جندي في جبهة التحرير سواء كان بالوثائق أو عبر المعرفين الذين عينتهم السفارات.
وهنا يجب الانتباه أن الموقف الأمريكي لا يتم بناؤه وتحديده من القوى على الأرض على أسس دينية أو عرقية أو على أساس خطابها السياسي فهم يتبعون قاعدة قل ما تشاء لكن لا تمس المصالح الإستراتيجية، فهو يبنى على تحديد القوة القادرة على تفهم المصالح الأمريكية والمحافظة عليها ولأن الجبهة كانت مخيفة بقوتها العسكرية وجماهيرها العريضة وعنجهية قيادتها و عدم وعيها بما يدور حولها لهذا كان يجب إخراجها مبكرا، وما حل بالجبهة كان يمكن أن يحل بالشعبية فهي الأخرى بدأت يسارية متشددة لكنها أدركت مبكراً أنها تحت الرقابة الأمريكية فتواصلت مبكرا مع القيادة الأمريكية وبذلك أرسلت رسائل ايجابية وعززت ذلك بمواقف على الأرض، وهي في الحقيقة لم يكن لها خيار غير ذلك في عالم يتصارع فيه قطبين، فالمعسكر الاشتراكي كان يرجمها ليل على طرف النهار وبالتالي الرهان عليه بابه مغلق، بينما الجبهة بطريقة غير واعية كانت تراهن لأخر لحظة على المعسكر الاشتراكي.
وختاما الجيوبوليتيك تحتاج لفهم عميق وقيادة واعية مدركة لقوتها ولكل ما يدور حولها، فأن تراعي مصالحك ومصالح الآخرين القادرين على دهسك وإخراجك من المعادلة وتتفادى دهسهم لك هو أنك تمارس السياسة بطريقة صحيحة وتستحق أن تحكم وتتصدر المشهد، وإلا فمصيرك أن يتم إنهاء دورك بالقضاء عليك، أو جعلك تدور في حلقة مفرغة كما حدث لمعارضتنا خلال الخمسة عشر السنة الماضية في أثيوبيا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته