المرأة العظيمة
بقلم الأستاذ: محمود بره
(1) لم اري في حياتي اعظم من المرأة الارترية، ليس انحيازاً كوني فُطرتُ في رحمها ومكثت فيه فترة التكوين تسعة أشهر،
ولا لان بعد الولادة تدفئت بحضنها، ومن حنانها رضعتُ، ومن مدرستها تعلمتٌ الخصال الجميلة، والاخلاق الحميدة، وانما تقديراً للانجاز الذي حققته في مسيرتها النضالية لتحرير الوطن، الذي ابلت فيه بلاء منقطع النظير لاتعطي الحروف والكلمات وصفاً يكافئ معاني انجازاتها القيمة، المرأة الارترية لم تستكن ولم تلن عزيمتها، حينما لب زوجها وابيها وابنها نداء الوطن لضرورة البقاء، او عندما سيق الي سجون المستعمر بتهم الانتماء للوطن، او قُتل برصاص الغدر، أو ذُبح كالشاة على مرأى الاهل، بل كانت مُبادرة في تحمل التزاماتها الاسرية، وواجباتها النضالية، تعد الطعام للمناضلين، وبرعت في تضميد واختباء الجرحي، المرأة الارترية امتازت عن غيرها من نساء العالم، لانها شاركت الرجل في حمل السلاح ومقارعة العدو في ميدان المعركة، حكيمة وممرضة، كادرة ومعلمة تثقيف وتوعية الشعب والمناضلين، مقاتلة فى الصفوف الامامية تحمل البندقية، قائدة قتالية في احلك المعارك، ومع هذا لم تنس واجبها الانثوي، وكانت تتزوج وتنجب الاطفال، وتنشر المودة والسكينة في قلوب الرجال، و قدوة في التفانى والاخلاص بالقضية، وثقة حافظة للاسرار، شرسة في مواجهة الاشرار، ومقارعة العدو فى ساحة الميدان.
(2) في الصغر علمتني امي امد الله في عمرها وحفظها ربي معني الوطنية، تنشد لي أناشيد الاخيار من مناضلي بلادى، عبدالكريم أحمد الفارس الهمام، عمر ازاز البطل والسيف البتار، محمد عافة الصقر المهاب.. وكانت تنطلق بي حيث يتواجدون الثوار، وتحمل ذاكرتي لمسات ايديهم ومرورها علي رأسي، اتذكر الراية الزرقاء والغصن الاخضر يعانق السماء تولول مع النسمات في حل وترحال المقاتلين، اتذكر تلك الحسناء التي تكتحل عينها بسناء الضياء، ملاك رحمة للاهل والبلاد، وشرارة غضبة على الاعادي، وفي خيالي ذلك الصباح في (جبال سالا) بلا وعد او انتظار، آمنة تعانقني في ود وانبهار، والدموع تسري من مقلتيها كمياه الوادي في الجوار، وتسالني وأجيب وقلبي يزف لها التقدير والاكبار، والصورة حتى اللحظة في خيالي، وحديثها وصورتها في تلك الادغال، وفي مكتب الخرطوم كانت سعدية تلقنني الدرس وراء الدرس وتقويني ان ساحة العلم يسبق ساحة النضال،والقلم البندقية، و كنت احسبها متعلمة حينما تقف امام الحشد تلقي المحاضر فى دقة واتقان، ولم استكشف ضعف الكتابة والقراءة عندها الا حينما، طلبت مني ذات يوم قراءة مضمون رسالة اتتها من شقيقتها وثم كتابة الرد لها.
(3) وتوالت الايام حينما ذهبت في مهمة طلابية الى الميدان، وفي طريقي كنا نتحرك ليلاً وفي النهار نقضيه في الراحة، طلبت مني احدي المقاتلات ان اساعدها في حمل بعض الاشياء، فلم يحالفني الحظ في رفعه لثقل ميزانه فابتسمت بشقف ! ثم حادثتني واعتقد طرحت عليّ بعض الاسئلة بالتجرينية فلم اكن حينها قد تعلمتها، فرديت عليها بالانجليزية بتعالي، وقبل اكمال الاجابة، أمطرتني بوابل من الاسئلة بلغة انجليزية رصينة أطارت صوابي، واستسلمت وبدأت افكر في الانسحاب، فسالتنى اي اللغات تجيد من لغاتنا القومية، فذكرت لها لغة أمي، فحدثتنى بطلاقة... وكنت ابادلها الحديث بمزيج من العربية، فشعرت بنوع من الراحة، رغم انهزامي الداخلي، فهذا الموقف علمنى ان الميدان الارتري لم يكن مجرد قتال ولبس الكاكي، وانما هو حياة كاملة لمجتمع واعد للارتريا الحرة.
(4) وحينما التحقت بساحة الميدان علمت ان المرأة سر نجاح الثورة، وصمودها الاسطوري، كنت اخجل من نفسي حينما اري اقدام الفتيات غير مكترثات بأزير الطائرات وكأنهن يمرحن في مهابط الطائرات، وانا اهم مما سوف تسقطها من حمم النيران، وفي مراكز التدريب كانت من اصابت الاهداف العشرة هي امرأة، وفي مسير موكب العبور من التدريب الي مواقع القتال، كانت الفتيات يسخرن منا لبعض تكاسل الرفاق، ويرسلن ضحكاتهن المؤلمة، وفي دفاعات جبهة القتال كانت تحمل المؤن والعتاد وتنطلق امام الرفاق، في المعارك كان العدو يهاب النساء، لقوة ايمانهن وشراسة المواجهة.
(5) المرأة الارترية عظيمة بعظمة هذا الوطن، عظيمة لانها حملت الاهداف السامية، ولم تلن عزيمتها، رغم الجراحات الغائرة، والتنكيل الجائر فقد بقرت بطونهن، وقطعت شطورهن، وقتل اطفالهن بالخناجر امام أعينهن، وحرقت ديارهن على رؤوس ذويهن واسرهن، ومع هذا كله صبرت وتحدت ونالت شرف العظمة بجدارة.
(6) وفي هذا اليوم الثامن من مارس بالرغم ما يحمل من دلالات وشعارات سياسية ومذهبية، الا اننى احترمه تقديرا واجلالا للمرأة الارترية التي كانت تحتفل به ابان الثورة ما قبل الاستقلال، تضامنا مع الشعوب المقهورة في العالم، واليوم ايضا احيى نضالات المرأة الارترية مع املي ان تستلم زمام المبادرة ايضا في اسقاط النظام الغاشم الذي حرمنا من نعمة الاستقلال، قاتل المناضلين الاخيار، ومشرد الاجيال، المجد والخلود لشهداؤنا الابرار، والتحية للمرأة الارترية المناضلة الجسورة صانعة المعجزات.