الابعاد الارترية الاربعة الحاكمة للعلاقات الخارجية - المقدمة

بقلم الأستاذ: ابو القاسم حاج حمد

في المثنوي للصوفي الشهير المولوي جلال الدين الرومي قال أحدهم (آه) فقال له أعطني هذه (الآه) وخذ بقية عمري. وفي إرتريا أربع

آهات كبرى تتحكم بإسقاطاتها المباشرة وغير المباشرة على علاقات إرتريا الخارجية ومن ضمنها العلاقات مع السودان.

فهناك (آه) السيادة والإستقلال، و(آه) الإقتصاد والتنمية، و(آه) الإستقرار الدستوري والسياسي، و(آه) الهوية والوحدة الوطنية.

هذه الآهات هي في الواقع ملفات إستراتيجية يقوم بفتحها أي كان في أي مكان في العالم متى إستوجب الأمر الشروع في إقامة علاقة ما مع أية دولة أخرى. ودون فتح هذه الملفات الأربعة تكون العلاقات إما هامشية أو جزئية أو إستثنائية عابرة.

وحين نفتح ملف العلاقات السودانية / الإرترية يسبق ذلك حتماً فتح هذه الملفات ودراستها لأنها تسقط نفسها على طبيعة هذه العلاقات.

وبحكم أن هذه الملفات غير معلومة لدى كثيرين إلا في حدود نسبية حتى بالنسبة لكبار المسؤولين الارتريين والسودانيين على حد سواء فسأفتح بالإيجاز الممكن هذه الملفات.

ملف السيادة الإرترية:

يندر أن تنشأ العلاقات وتستمر مع دولة متنازع على سيادتها المطلقة إما بتبعيتها لدولة أخرى أو تنازعها معها على سيادتها، سواء كان التنازع جغرافياً أو سياسياً. فالنزاع الارتري/ الأثيوبي حول (بادمي) والذي أدى لحروب متعددة الجولات طوال الفترة من 1 يونيو (حزيران) 1998م وإلى 6 فبراير (شباط) 1999م ثم 12 مايو (آيار) 2000م. ليس في حقيقته (حرب حدود) إذ كانت تكفي الآليات المتداولة إقليمياً ودولياً لتسوية الأوضاع وفق ترسيم المعاهدة الإيطالية مع الإمبراطور الأثيوبي منليك الثاني (1889/1914) والموقعة بتاريخ 26 اكتوبر (تشرين أول) 1896م مع الأخذ بملاحق ومعاهدات أخرى.

معنى الإستقلال الإرتري:

غير أن المسألة أكبر من ذلك بكثير وتمضي إلى ماهو أعمق، فالإستقلال الإرتري لم يكن مجرد إقتطاع ثلاثة ملايين نسمة من جسم أثيوبي يبلغ تعداده الستين مليوناً، ولم يكن مجرد إقتطاع (124) ألف ميل مربع من مساحة أثيوبيا البالغة (440) ألف كلم مربع فهذه نتائج هامشية يندر أن تجد في العالم من يهتم بهذا العدد الضئيل من السكان أو هذه المساحة الصغيرة من الأراضي لذاتهما إذا لم يتعلقا بأمور أخرى إستراتيجية سواء على مستوى الثروة أو مميزات أخرى. فأهمية إرتريا تكمن في إقتسام إرتريا للجيوبوليتيك الأثيوبي بوضع حد لصراعات إستراتيجية وتاريخية حول سواحل إرتريا ومرتفعاتها إستمرت منذ النزاع التركي / البرتغالي في العام 1558م وإنتهت بإعلان إستقلال إرتريا بعد إستفتاء شعبي وإقرار دولي وموافقة أثيوبية رسمية بتاريخ 26مايو (آيار) 1993م، أي بعد أربعة قرون ونصف. فإستقلال إرتريا هو خلاصة إستراتيجية لخمسة قرون تقريباً من الصراعات الإقليمية والدولية.

كان الهدف الأوربي منذ العام 1558م (البرتغال) هو تمدد الجيوبوليتيك الأثيوبي نحو كل السواحل من إرتريا وإلى الصومال، الأمر الذي قاومه الأتراك. ثم جاءت إيطاليا لتستوعب إرتريا عام 1885م وإلى 1941م بترسيم 1896م. ثم إتخذت الأمم المتحدة قرارها رقم (390-أ-5) بتاريخ 12 ديسمبر (كانون أول) 1950م لإلحاق إرتريا (فدرالياً) بالإمبراطورية الأثيوبية ثم تسهيل ضمها لأثيوبيا في الفترة من 1952 وإلى 1962م.

كان مقدراً أن يضم الجيوبوليتيك الأثيوبي كلاً من شمال الصومال وجيبوتي، إلا أن بريطانيا قد إكتفت لأسباب عديدة بإلحاق (هرر) في العام 1897 بأراضي أثيوبيا، وفي نفس السنة الحقت بأثيوبيا كلاً من (هود/ وأوغادين) ثم إتجه منليك الثاني وبالتحالف مع فرنسا لغزو جنوب السودان وإنتهى الأمر بإتفاق فشودة. وإنسحابهما في العام 1904م.

ثم في يناير (كانون ثاني) من العام 1973 طرحت (غولدامائير) رئيسة وزراء إسرائيل ضرورة ضم جيبوتي إلى أثيوبيا لولا معارضة الديغوليين في فرنسا.

هكذا أصبح الرهان الأثيوبي على إرتريا كمكمل لمزايا الجيوبوليتيك الأثيوبي رهاناً (مصيرياً) بعد خسارة شمال الصومال وجيبوتي.

وتوافقت كل القوى الدولية مع هذا الرهان الجيوبوليتيكي الأثيوبي في إرتريا فكان قرار الأمم المتحدة في العام 1950، ثم تحالف العالم بشقيه الإمبريالي الرأسمالي، والإمبريالي الإشتراكي، وإمتداداتهما الإقليمية مع أثيوبيا، الإمبراطورية ثم الجمهورية، في شن حربين ضد الشعب الإرتري (حرب أثيوبيا وأمريكا وإسرائيل والغرب الأوربي طوال الفترة 1961م وإلى سقوط الإمبراطور عام 1974م). ثم «حرب أثيوبيا والإتحاد السوفيتي والدول الإشتراكية وكوبا وليبيا، واليمن الجنوبية من 1975م وإلى سقوط جبهة النادو في الساحل الإرتري بتاريخ 18مارس (آذار) 1988م». حيث حررت مصوع بعد ذلك في 10 فبراير (شباط) 1990م ولحقت بها أسمرا في 24 أبريل (نيسان) 1991م.

الآن وقع المحذور، أثيوبياً وشرق أوسطياً ودولياً، واقتسمت إرتريا الجيوبوليتيك مع أثيوبيا، فإما أن تكون السيادة الإرترية (سيادة نسبية) تتكامل مع مصالح ستين مليون أثيوبي تغذي بحيراتهم الغنية السودان ومصر والصومال بالموارد المائية، وتستقر في قمتها منظمة الوحدة الأفريقية وتتجه إليها مخيلة المسيحين في العالم، وإما أن تكون سيادة إرتريا (مطلقة) فتغلق على كل ذلك، أو أن تتخذ إرتريا بين ذلك سبيلاً.

أن تكون السيادة الإرترية (نسبية) فهذا ما أراده الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر) عبر كل جولات مفاوضاته مع وفود الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا ووفود نظام منغستو هيلي ماريام بداية من الإجتماع الأول في (أتلانتا) بالولايات الأمريكية المتحدة (7 إلى 19 سبتمبر / أيلول 1989م) ثم نيروبي في كينيا (20 إلى 28 نوفمبر / تشرين ثاني 1989م) ثم مباحثات واشنطن برئاسة (هيرمن كوهين) مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية (14 اكتوبر / تشرين أول 1990م) ثم مباحثات واشنطن الثانية (21 فبراير / شباط 1991م) ولكن في نفس اليوم تنحى الرئيس الأثيوبي منغستو هيلي ماريام وكانت أسمرا في قبضة الجبهة الشعبية قبل شهر واحد من ذلك: TheGame is over. كما قال أسياس في لندن.

في كل تلك المباحثات كانت واشنطن ولندن وسواهما يتخذون من توصيات جلستي الكنغرس في مارس (آذار) 1988م مرجعية للحل، حيث أوصت الجلستان بمد الجسور الأمريكية إلى الجبهة الشعبية وإعادة طرح المشروع الفدرالي بصلاحيات أكبر لإرتريا مع إيجاد (وفاق دولي) في القرن الأفريقي بين أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والإتحاد السوفياتي ومع تعزيز التنسيق بين الصومال والسودان وأثيوبيا.

كذلك أراد الرئيسان السوفياتي جورباتشوف والأميركي بوش الأب الوصول إلى صيغة سيادة نسبية لإرتريا وفق رهان الجيوبوليتيك الأثيوبي فأصدرا بياناً مشتركاً بتاريخ 2يونيو (حزيران) 1990م- بعد أربعة أشهر من تحرير مصوع صاغاه بمنطق البحث عن حلول لمشاكل أثيوبيا (الداخلية). ولأول مرة دعيا لمباحثات إرترية / أثيوبية بإشراف الأمم المتحدة، ثم عقد (مؤتمر دولي) بإشراف الأمم المتحدة أيضاً للبحث في أوضاع القرن الأفريقي كافة.

وقد سبق أن دعا الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي أثناء ندوة عقدها في القاهرة بتاريخ 30 مايو (آيار) 1989م للبحث في مجمل أوضاع القرن الأفريقي وتطويق الأزمة الإرترية الأثيوبية وحضرتها أثيوبيا والسودان والصومال وجيبوتي ومصر والإتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا.

حاول الجميع الوصول إلى سيادة إرترية (نسبية) من جيمي كارتر إلى بطرس غالي إلى هيرمن كوهين إلى بوش الأب إلى جورباتشوف وإلى البريطانيين والقوى الأوربية الأخرى. وبذلوا جهودهم عبر حلفين ضد الشعب الإرتري (الحلف الدولي والإقليمي 62/1974م) ثم (75/ 1988م). عدا(إستثناءات) سودانية وشرق أوسطية تأخذ مضطرة بهذه المواقف الدولية، أحياناً سلباً وأحياناً إيجاباً.

إذن هناك إجماع دولي وشرق أوسطي على سيادة إرترية نسبية يمكن أن توثق بدايته من تحقيقات مجلتي التايم Time ونيوز ويك Newsweek الأمريكيتين بتاريخ 8أغسطس (آب) 1988م وبعد خمسة أشهر من مناقشات الكونغرس الأميركي لقضية إرتريا (المنسية) وثورتها (المجهولة) في مارس (آذار) 1988م. كما كانوا يطلقون عليها.

الصورة واضحة منذ 1970م وإلى 1988م:

أرجو ألا يفاجأ البعض الآن حين أقول إن الصورة كانت واضحة بالنسبة لي منذ العام 1970م وفي رسالة بعثتها من إثنتي عشرة صفحة لكل من الأخ (محمد أحمد عبده) قائد جيش التحرير الإرتري الموحد (القيادة العامة) وقتها، وبصورة إلى الأخ محمد علي عمرو، سفير إرتريا الراهن لدى كينيا والإيقاد، وذلك إثر إنقسام الجيش في (أدوبحا) بتاريخ 19 ديسمبر(كانون أول) 1969م محذراً من ضرب الثورة في (المثلث الإستراتيجي الخطر - أسمرا / مصوع / عصب) مهما كانت الذرائع القبلية والدينية لأن المخططات الأثيوبية والدولية ترتبط كلها بهذا المثلث، وأن نهاية الثورة هناك هي نهاية للثورة كلها فالمنطقة الغربية والمنحدرات الساحلية الشمالية هي قاعدة (تأسيس وإنطلاق) وليست (قاعدة تحرير).

لهذا أسهمت بقوة في توفير الظروف الملائمة لعقد مؤتمر للأمانة العامة لجبهة التحرير برئاسة الشهيد عثمان سبي في عمان / الأردن بعد إقناعي للأخ الشهيد (خليل الوزير / أبو جهاد) وبعد أن أعددت وثيقتين تنظيمية وسياسية تأسست بموجبهما قوات التحرير الشعبية في العام 1970م إنطلاقاً من عدن وبدعم الأخ المرحوم عبد الفتاح إسماعيل وبدعم اللواء إبراهيم العلي في سوريا. وقد كان قائداً للجيش الشعبي وأمن الطائرات اللازمة لنقل الأسلحة إلى عدن. وقد كنت أستعجل دخول قوات التحرير الشعبية إلى ساحل إرتريا وتقدمها بإتجاه المرتفعات لفك الحصار الأثيوبي عن أسياس ومجموعته.

وقتها ناقشت مع الأخ الشهيد عثمان صالح سبي أن كسر التحالف الدولي مع أثيوبيا لتأمين وضعية المقاتلين في المثلث الخطر يتطلب إعادة النظر في إستراتيجية التحرير وعلاقات الثورة الشرق أوسطية والدولية لنصل إلى تفاهم حول (السيادة النسبية) مع أثيوبيا. وكان مقترحي الأول إقناع المؤثرين من الوسطاء الدوليين والشرق أوسطيين مِنْ مَنْ يملكون التأثير فعلاً ولكن بعد تكثيف العمليات العسكرية في المثلث الخطر بإمكانية التفاهم حول التالي:

أولاً: كونفدرالية إرتريا مع أثيوبيا بدولتين مستقلتين بينهما تكامل إقتصادي.

ثانياً: إذا تعذر ذلك يتم (توحيد منطقة (أوسا) العفرية في أثيوبيا مع منطقة (دنكاليا) العفرية في الساحل الجنوبي لإرتريا من خليج زولا وإلى عصب كإقليم واحد يتمتع بحكم ذاتي تحت إدارة إرترية / أثيوبية مشتركة تتيح لأثيوبيا الحق الكامل في إستخدام الموانئ دون حق السيادة على المياه الإقليمية. أما مجرد التنازل عن دنكاليا دون الأخذ بعين الإعتبار لمطالب العفر القومية فهو تضحية رخيصة دون مقابل بقسم من أبناء الشعب الإرتري ساندوا بكل قوتهم تقدم قوات التحرير الشعبية في دنكاليا وشاركوا في مؤتمر (سدوحاعيلا) وواجهوا الحرس الإمبراطوري (كبر زبانية). دون ذلك سيكون التحرير صعباً.

رفض الأخ الشهيد عثمان صالح سبي، وهو المؤسس الحقيقي للثورة، ذلك المشروع في العام 1971م ورفض بدائل العلاقات الشرق أوسطية والدولية والأفريقية، ولكنه عاد رحمه الله- أخيراً لقبول المشروع بعد تدخل أمير دولة قطر بتاريخ 25نوفمبر (تشرين ثاني)1986، وبعد أن سيطرت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا منذ العام 1975م على ذات المثلث الإستراتيجي الخطر ثم إنسحبت تحت ضغط التحالف العسكري السوفياتي والإقليمي الدولي مع أثيوبيا وتراجعت نحو منحدرات الساحل الشمالية.

ثم طرحت مشروع الكونفدرالية أو ضرورات التنازل المتبادل والمتكافئ في أبوظبي على الأخ (رمضان محمد نور) حين كان أميناً عاماً للجبهة الشعبية وكانت حالة الحصار العسكري الأثيوبي والدولي مستمرة مما دفع بأبوظبي وقطر لرفع مستوى مساعداتهما المالية والإغاثية. ورفض هو الآخر-رمضان محمد نور- بالرغم من أن الشهيد عثمان صالح سبي قد بدأ بإرسال إشارات إيجابية. مع ذلك بدأت بإستطلاع الأجواء الشرق أوسطية والدولية ومنعت من إستطلاع مواقف أخرى مهمة.

ثم طرحت المشروع مجدداً في العام 1988م وتزامناً مع الإهتمام الأمريكي والدولي بالأوضاع في إرتريا والقرن الأفريقي كما أوضحت وبعثت بمذكرتين تفصيليتين لكل من الرئيس الزامبي الأسبق (كينيث كواندا) بوصفه - وقتها - رئيساً لمنظمة الوحدة الأفريقية بعد أن كان القى خطاباً في مقر المنظمة طالب فيه بضرورة التسوية بين إرتريا وأثيوبيا.

وكذلك أرسلت مذكرة للزعيم الليبي معمر القذافي وذهبت إلى ليبيا بعد أن كان قد غضب على (منغستو) إثر عودة العلاقات الأثيوبية / الإسرائيلية فأعلن بتاريخ 14 نوفمبر (تشرين ثاني) 1989م أنه سينتقم من أثيوبيا.

كتبت تلك المذكرات ولجهات أخرى إثر زيارتي لقواعد الثورة في المنحدرات الساحلية في أغسطس (آب) 1988م وإجتماعي بقيادة الجبهة الشعبية هناك بعد تحرير (أفعبت) وقد كانت بشائر الإستقلال في الأفق منذ بداية الهجوم الإستراتيجي العسكري الإرتري المضاد والمعلن في أكتوبر( تشرين أول) 1984م.

كذلك طرحت (الكنفدرالية) بين إرتريا وأثيوبيا في حال فشل مشروع التنازلات المتبادلة والمتكافئة، على أن تراعى كامل السيادة بين دولتين بسيادتين مع الأخذ بضرورات التكامل والتنسيق في المصالح المشتركة.

Top
X

Right Click

No Right Click