الابعاد الارترية الاربعة الحاكمة للعلاقات الخارجية - الجزء الأول

بقلم الأستاذ: ابو القاسم حاج حمد

كانت المواقف الدولية والإقليمية والشرق أوسطية مقاربة لما طرحت في مباحثات جيمي كارتر أو الخارجية الأمريكية أو حتى بيان

جورباتشوف / بوش وهذا أقصى ما يمكن أن يتوصلوا إليه في إطار فهمهم لدور الجيوبوليتيك الأثيوبي، غير أن الإختيار الإرتري إتجه للتحالف بين الجبهتين الشعبيتين للتجراي وإرتريا بهدف إستقلال إرتريا مقابل حكم التجراي لأثيوبيا.

ولكن ماذا عن علاقة الدولتين المستقلتين (إرتريا وأثيوبيا) ببعضهما في ظل التحالف الثنائي ؟ فهل هوتحالف يتجه إلى التكامل بما يصون مصالح الشعبين والبلدين ام هو تحالف سياسي يساعد فيه كل طرف هيمنة الطرف الآخر على بلده ؟

وضح تماماً أن هذا الحلف السياسي الثنائي الناشئ بين التنظيمين منذ عام 1975م حين تصديهما المشترك لهيمنة (الأمحرا) في أثيوبيا وإرتريا ولمواجهة فصائل جبهة التحرير في إرتريا لم يبحث في العلاقة بين (دولتين) وإنما بين (تنظيمين) لديهما جذور قومية وثقافية ودينية مشتركة، بحيث يمكن أن يوصف بأنه حلف أبناء التجرينيا من (الكبسا) في مرتفعات إرتريا مع أبناء تجراي في أثيوبيا.

رغماً عن فوارق عديدة بين التنظيمين، إذ كان التقراي وقتها يركزون على إنفصال إقليم تقراي وعلى النهج الألباني الفلاحي الشعبي في التنظيم فيما كانت شعبية إرتريا ترفض المنحيين معاً وهذا ما أدى إلى حصار ومجازر 1985م بين التنظيمين ومع أن هذا الحلف الثنائي قد أدى لأن تتخلى جبهة التجراي عن مخططها الإنفصالي في أثيوبيا منذ عام 1988م لتسيطر على (كل أثيوبيا) حيث يشكل التجراي في أثيوبيا نسبة 7% من السكان قياساً إلى الأمحرا 25% والأرومو 50% إلا أن جبهة التجراي نظرت إلى سيادة إرتريا التي وقفت إلى جانب إستقلالها بمنطق (التبعية من الباطن) على أساس (التحالف الثنائي) مع الجبهة الشعبية الإرترية وأبناء الكبسة المسيحين في المرتفعات.

هذه التبعية لم يكن متفقاً عليها ولا هي محل قبول لدى قيادة إرتريا بل أن القيادة الإرترية كانت لديها نظرة مماثلة تجاه التجراي ثم سارت في خططها الإستقلالية والسيادية الكاملة بداية بطبع عملة متميزة هي (النقفة). وهنا بدأ التوتر الذي استند بدوره إلى توترات سابقة بين التنظيمين وصلت إلى حدود التصفيات الدموية عام 1985م.

هكذا ظهر الشرخ التأريخي مجدداً بين الجيوبوليتيك الأثيوبي والموقع الإستراتيجي الإرتري، وعوضاً عن جلوس القيادتين لبعضهما البعض لطرح القضايا بتوازن إستراتيجي يستبعد منطق الحلف السياسي الثنائي بمنطق التكامل، حلّ منطق الثأر المتبادل وتصفية الحسابات، تماماً كما حذرت من قبل.

وقتها وفي عام 1995م أعدت طرح (كنفدرالية القرن الأفريقي) في صيغة مشروع متكامل نشرته صحيفة (الخليج) في الشارقة بتاريخ 27 أبريل (نيسان) و 4 مايو (ايار) 1995 علني أستبق به ما كنت أتوقعه.

واستبقت الحرب التي إندلعت بين إرتريا وأثيوبيا في الأول من يونيو (حزيران) 1998م بشهر واحد حيث ألقيت محاضرتي في مركز الدراسات الإستراتيجية في الخرطوم بتاريخ 29 ابريل (نيسان) 1998م داعياً لضرورات التكامل والوفاق في القرن الأفريقي ولدرء شرور الحرب وكنت قبلها في أسمرا. وقد ركزت في محاضرتي على وضع إستراتيجية للأمن القومي السوداني تتصل بهذه الكنفدرالية. وبتطويق الموقف المنذر بالخطر ولم أجد إستجابة في الخرطوم.

ثم القيت محاضرة أخرى بتاريخ 20 يونيو (حزيران) 2000م في هذه القاعة (الشارقة) حول (الحرب الإرترية - الأثيوبية خلفياتها والحلول الجذرية) وقد وجهت لي الحكومة الأثيوبية على إثرها دعوة لزيارة أديس أبابا بعد أن قاموا بترجمة المحاضرتين إلى الإنجليزية وذلك لعقد نقاش حولهما وقد تقدم لي بالدعوة السيد عبدو لقسي القائم بالأعمال الأثيوبي في الخرطوم غير أن أجواء الصراع الإرتري الأثيوبي لم تكن ملائمة لتلك الزيارة.

إذن: منذ متى توقعت هذه الكوارث المأساوية؟! هل أقول عام 1970م وأنا أناشد المرحوم عثمان صالح سبي حتى إستجاب بعد مضي ستة عشر عاماً بضغط من أمير قطر السابق؟! أم وأنا أناشد قيادة الجبهة الشعبية منذ عام 1986م في ابو ظبي ثم 1988م في الميدان ثم في قبرص؟! أم وأنا أناشد الزعيمين كينث كاوندا ومعمر القذافي في عام 1988م أم انا ألقي المحاضرات وأبذل الجهد في الإتصالات؟!.

ويتطلع الجميع بلا أعين ولآ آذان، حتى تأتي الولايات المتحدة الأمريكية أخيراً فتعقد في جامعة جنوب فلوريدا مؤتمراً للبحث في آفاق كنفدرالية القرن الأفريقي ومجلس تعاون دول البحر الأحمر بتاريخ 14 ديسمبر (كانون أول) 2002م تحضره أهم الجامعات الأمريكية والمنظمات الدولية ويحل فيه الرئيس الأسبق كينث كاوندا ضيف شرف.

خلاصة هذا الملف:

أن عدم حسم التنازع بين جيوبولتيك أثيوبيا ومميزات إرتريا الإستراتيجية بمنطق التكامل وفق سيادتين متكافئتين جعل الجيوبوليتيك الأثيوبي مهيمناً على العلاقات الدولية والإقليمية والشرق أوسطية لغير صالح إرتريا.

وهذا ما تأكد وثبت طوال الحرب الممتدة من 1998م وإلى 2000م فالعالم قد إنحاز إلى أثيوبيا في تلك الحرب وإن بدرجات متفاوتة وحتى إسرائيل التي أمدت أثيوبيا بإحدى عشر طائرة من طراز ميج 23 السوفياتية جرى صيانتها وتطويرها في (رومانيا) بواسطة شركة (إيليت) الإسرائيلية مقابل ترحيل ما تبقى من يهود الفلاشا الأثيوبيين إلى إسرائيل ويبلغ عددهم خمسة آلاف من أصل سبعين ألف تم ترحيلهم سابقاً. فبقيت الأجواء الإرترية مكشوفة أمام طلعات الطيران الأثيوبي.

وقد إحتج بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي على تسليم هذه الطائرات لأثيوبيا حين إندلاع حربها مع إرتريا في مايو 1998م فأصدر رئيس الوزراء (نتنياهو) بياناً بذلك وبعد أربعة أشهر من الحرب بتاريخ 8 سبتمبر (أيلول) 1998م أوضح فيه أفضلية التعاون مع أثيوبيا.

وإتخذت الولايات المتحدة الأمريكية موقفاً مماثلاً للموقف الإسرائيلي لصالح أثيوبيا مما أضطر اسياس لإدانة الموقف الأمريكي ومهاجمة مواقف السيدة (سوزان رايس) مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية في تصريح أدلى به لرويتر بتاريخ 9 مايو (حزيران) 1998م وأعقب ذلك طرد القائم بالأعمال الأمريكي في أسمرا (ياما موتو).

إذن ظهر مجدداً الإنحياز الدولي للجيوبوليتيك الأثيوبي، وهذا ما كنت أخشاه وأحذر منه طارحاً التسويات منذ عام 1970م وعبر مراحل متدرجة لا مكافأة لأثيوبيا على إحتلالها لإرتريا، ولا تقليلاً من شأن الشعب الإرتري الذي فاقت بطولاته في حرب التحرير منذ عام 1961م ثم حرب الدفاع عن الإستقلال منذ 1998م وتصديه لحلفين دوليين نقيضين، الأول بزعامة أمريكا والثاني بزعامة الإتحاد السوفياتي، فاقت بطولاته كل الملاحم الأسطورية لشعوب العالم المناضلة. بما فيها فيتنام مع فارق الكثافة البشرية.

ولكن لإيجاد التوازن بين مميزات أثيوبيا الجيوبوليتيكية ومميزات إرتريا الإستراتيجية والإتجاه للتكامل بين دولتين مستقلتين وبين شعبين متجاورين ومتداخلي المصالح، ومنعاً للتوتر الإقليمي الذي ينعكس على إرتريا بالذات بما في ذلك حرمان أثيوبيا من موانئ إرتريا والذي يعني حرمان الإرتريين من دخل الموانئ دون مصادر أخرى.

لو قيض الوصول إلى تلك التسويات لما كان الإستنزاف البشري والإقتصادي ولتعامل العالم مع مميزات إرتريا الإستراتيجية دون تعارض مع مميزات أثيوبيا الجيوبوليتيكية. غير أن عدم الوصول إلى هذه التسوية جعل العالم منحازاً لأثيوبيا على حساب إرتريا فتجمدت علاقات العالم مع إرتريا ولا زالت.

هذا يلقي بظلاله على أي علاقات شرق أوسطية أو دولية أو حتى إقليمية مع إرتريا، وعلاقات السودان مع إرتريا لآ تخرج عن هذه الإسقاطات وهذه المقاييس مع إضافة عوامل اخرى من مجملها التبني المتبادل للمعارضة السودانية في أسمرا، والإرترية في الخرطوم. وإن كان تبنياً محكوماً بسقف دولي محدد لا يتجاوزانه.

وأركز في النهاية على نقاط ثلاث:

أولاهما: ضرورة إيجاد التوازن بين الجيوبوليتيك الأثيوبي والمميزات الإستراتيجية الإرترية والأخذ بعين الإعتبار مقررات مؤتمر جامعة جنوب فلوريدا، وكذلك الخلفيات التي ذكرتها في محاضرتي حول الحرب الإرترية الأثيوبية، والأطر التي طرحتها لتكامل السودان الضروري والإستراتيجي مع كل من أثيوبيا وإرتريا في محاضرتي حول إستراتيجية الأمن القومي السوداني.

ثانيهما: أن إصراري ومساهمتي في تكوين قوات التحرير الشعبية عام 1970م ثم مساندتي للجبهة الشعبية منذ العام 1975م يرتبطان بمفهومي حول الجيوبوليتيك الأثيوبي وعلاقته بالمثلث الإستراتيجي الخطر (أسمرا / مصوع / عصب) فعملي وإنحيازي للإطارين يجب فهمه (إستراتيجياً) وليس ذاتياً أو عاطفياً بإعتباره إنحيازاً للمسيحيين من دون المسلمين أو أبناء (حرقيقو) وليس أبناء (علي قدر) أو (كرن).

ثالثهما: ان التنسيق مع جبهة تجراي والناشئ منذ عام 1975م وإن نتج عن التصدي المشترك لحكم منغستو هيلي ماريام لم يكن يقصد منه في البداية إيجاد حكم قومي (تجرينيا / تجراي) مشترك على الدولتين: الإرترية على حساب باقي الإرتريين، والأثيوبية على حساب الأرومو والأمحرا خاصة. وإنما قصد به إختراق الجبهة الأثيوبية من داخلها.غير أن ذاك الحلف قد إنحرف عن أهدافه.

وللتاريخ كان أسياس بوصفه نائباً للأمين العام للجبهة الشعبية أول من عارض التنسيق والحلف مع تجراي، وأول من أصرََ على إلغاء البرنامج الإنفصالي عن أثيوبيا لجبهة تجراي وهو أمر لم تقره جبهة تجراي إلا بعد أن حاصرها عام 1985م والتحول لاحقاً إلى الجبهة الشعبية الديمقراطية الثورية الأثيوبية (EPADF) إثر إعلان الهجوم العسكري الإرتري الإستراتيجي المضاد في عام 1984م وتفجير 14 طائرة ميج في مطار أسمرا بتاريخ 21 مايو (آيار) 1984.

لم يكن موقف أسياس من قبيل إستتباع تجراي وفرض الهيمنة عليهم، وكذلك ليس من قبيل تحقيق وحدة تجرينيا إرتريا مع تجراي أثيوبيا بالطريقة التي كان يبشر بها ومنذ زمن بعيد المناضل الإرتري المرحوم (ولد آب ولد ماريام) ولكن لضبط موازنات التحالف مع حركة لا تحمل اهدافاً إنفصالية داخل أثيوبيا مما يعقد الوضع الدولي بالنسبة للثورة الإرترية نفسها وتكريس دمغها هي الأخرى بالإنفصالية ولهذا كان حصار جبهة إرتريا لجبهة تجراي عام 1985م وهو حصار مأساوي.

ولا يعني ذلك أن أسياس أو مثلي أو غيرنا لم يكن يكن الإحترام والتقدير لشعب تجراي وثورته منذ عام 1943م ولا جذوره التاريخية والحضارية الممتدة إلى أكسوم وظهورها في القرن الثالث الميلادي وإرتباطها بثقافتي ميناء (عدوليس) الهيليني في سواحل إرتريا، والحضارة المروية السودانية في وسط السودان. (540 ق.م -350م).

فأبناء تجراي ينحدرون من صلب تاريخ مجيد كاد ان يستمر لولا أن حطمت الملكة الفلاشية اليهودية (جوديت) تلك المملكة وأحرقت كنائسها في القرن العاشر الميلادي. وهذا ما عرضته ضمن دراسة علمية تأريخية لها إسقاطاتها على الحاضر في كتابي - تحت الطبع - بعنوان (كنفدرالية القرن الأفريقي والبحر الأحمر).

المهم أن تحالف الجبهتين قد إنتهى بإستقلال إرتريا وسيطرة التجراي على أثيوبيا، بالتضافر مع عوامل عديدة أخرى منها بدايات البروسترويكا في الإتحاد السوفياتي وتمرد الجيش الأثيوبي والمجاعات والأوبئة غير أن عدم التسوية ظل مؤشراً تحذيرياً على مستقـــبل قاتم ولم يؤخذ بتلك التحذيرات.

Top
X

Right Click

No Right Click