محمد سعيد ناود.. سيرة لن تغيب
بقلم الأستاذ: محمد جميل أحمد - كاتب وصحفي وناقد المصدر: إيلاف
ظل الكاتب والمناضل الإرتري الراحل محمد سعيد ناود خلال مساره النضالي في إرتريا والسودان، رمزاً متجددا، تستعاد سيرته في
مختلف مهاجر الإرتريين حين تحل ذكرى رحيله في كل عام يوم 16 سبتمبر / أيلول؛ حيث رحل محمد سعيد ناود في العام 2010م عن عمر يناهز 74 عاماً في العاصمة الإرترية أسمرا.
الزمن الذي عاصر فيه "ناود" قضايا النضال، في أوائل خمسينات القرن العشرين، تزامن مع انتسابه للحزب الشيوعي السوداني، من ناحية، ومشاركته الفاعلة، بعد ذلك، في تأسيس حزب "مؤتمر البجا" (القومية التي يتقاطع وجودها السكاني بين حدود السودان وإرتريا) وهو أول حزب سياسي سعى لتأطير النشاط المدني للبجا في التاريخ، بمدينة بورتسودان من ناحية ثانية.
إلى جانب تأسيسه "حركة تحرير إرتريا" في نهاية العام 1958م في المدينة الساحلية ذاتها (بورتسودان) تفرغ "ناود"، بصورة نهائية، لقضية إرتريا فاستقال من عمله في السودان، كما استقال، في الوقت ذاته، من الحزب الشيوعي السوداني، آنذاك، بقيادة الراحل عبد الخالق محجوب؛ الذي استلم منه " ناود " أول شحنة سلاح لبدء النضال في إرتريا.
تقاطع الهويات المركبة التي عبَّر عنه محمد سعيد ناود في اشتغالاته النضالية، آنذاك، كان تركيباً فرضته استجابات وجدانية حالمة لقضايا النضال، تأثرت في ذلك الزمن الثائر بمناضلي وايقونات ذلك الوقت مثل "جيفارا"؛ فمن جهة، كانت قومية "البجا" في السودان وإرتريا (كان ناود أحد متعلميها القلائل جدا في ذلك الزمن) ترزح تحت شروط تاريخية قاسية من الفقر والجهل والعصبيات القبلية وكان نضاله من أجل هذه القومية يغذي رؤيته لفكرة النضال المشترك في البلدين (السودان وارتريا) الذين يتقاطع فيهما وجود "البجا"، ومن جهة ثانية كان، "ناود" منفتحاً على الأفكار التحررية الحديثة وذا يقين جازم بوحدة هوية القرن الأفريقي، في إطار الجغرافيا السياسية العربية لاعتبارات الجوار والثقافة والتاريخ وهي اعتبارات شكلتها معرفة تاريخية اشتغل عليها "ناود" من خلال التأليف في تاريخ القرن الأفريقي وعلاقته بالعروبة والإسلام.
لذلك، كان "ناود" يصدر في رؤيته لهوية ارتريا "العربية" عن هوية "سامية" قديمة لغالبية الشعب الارتري (تلك الهوية التي تأسست من هجرة قبيلتي "حبشات" و "الأجاعز" من اليمن إلى الهضبة الحبشية بعد انهيار سد مأرب قبل 3 ألاف سنة بحسب المؤرخ العراقي جواد علي) وبهذا المعنى فإن الهوية السامية لإرتريا هوية عربية قديمة وشاملة، في الوقت ذاته، لمسيحيي ارتريا ومسلميها كذلك.
وبهذه السردية التاريخية كسب محمد سعيد ناود، مع رفيق نضاله عثمان صالح سَبَّي، تعاطفا عربيا كبيرا في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، لاسما تعاطف الأنظمة العروبية في كل من سوريا والعراق، التي ساعدت ثوار إرتريا واحتضنت طلابها، إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتماهى مع قضية ثوار ارتريا من منطلق حركات التحرر في المنطقة. فيما كانت مصر الناصرية في الستينات مركزاً قويا وجاذباً لثوار أفريقيا.
جسّد "ناود" عبر تاريخه النضالي أمثولة للنزاهة والضمير عرفها عنه الجميع . وبالرغم من أن التطلعات والآفاق الجديدة التي حلم بها "ناود" لشعبه وأمته حالت دونها تناقضات واقع متخلف، إلا أن تجربته الملهمة جعلت منه ضميراً ثورياً مستعاداً في ذاكرة الأجيال الارترية، ورمزاً للنضال تحتقل بذكراه جميع التنظيمات الإرترية الناطقة بالعربية تقريباً. كما ترك محمد سعيد ناود مؤلفات باللغة العربية في التاريخ والأدب والسياسة (كان "ناود" صاحب أول رواية في الأدب الارتري الحديث المكتوب بالعربية "رحلة الشتاء" صدرت في بيروت العام 1979) حيث عاش "ناود" طوال عقد السبعينات من القرن العشرين، مقيما في بيروت، مديراً لمكتب الإعلام الخارجي لتنظيم (قوات التحرير الشعبية) وطور علاقات صداقة مع بعض المثقفين العرب.
اليوم، جزء كبير من أبناء الشعب الإرتري وأجياله الجديدة في القسم الناطق باللغة التجرينية (بعد أن تم إلغاء العربية والإبقاء على التجرينية منذ ربع قرن) لا يكاد يعرف شيئاً عن نضالات محمد سعيد ناود وتجربته التاريخية الملهمة؛ بفعل تعمية متعمدة من النظام هناك على تجربة هذا المناضل الكبير. وإنها لمفارقة كبيرة أن يكون محمد سعيد ناود، الذي حرص على كتابة يوميات حياته منذ الستينات وحتى سنة وفاته في العام 2010م، مجهولاً على هذا النحو المخزي بين الأجيال الجديدة من أبناء الشعب الإرتري الناطقين بالتجرينية.
لانعرف اليوم مصير تلك الدفاتر والمدونات الطويلة التي سطر فيها الراحل يوميات النضال، ونرجو أن لا تغيَّب بفعل فاعل، لكنها بالتأكيد ستنطوي على معلومات ومذكرات وحقائق ومواقف مهمة في توثيق تجربته النضالية، وتجربة حقبة كاملة من تاريخ الثورة الإرترية، خلال أكثر من ثلاثين عاماً.
وبالرغم من أن "ناود"، بعد التجربة المأساوية لفصيل حركته "حركة تحرير إرتريا" العسكري (الذي حسم عسكريا في فترة مبكرة من العام 1969، بحجة أن الميدان الثوري لا يتحمل تنظيمين) ظل يتجنب المراكز القيادية الأولى في فصائل الثورة الإرترية التي انتظم فيها فيما بعد؛ إلا أنه حافظ على صورته الثورية وضميره الأخلاقي وسيرته النظيفة في النضال؛ ليتخلى، بعد استقلال إرتريا في العام 1991، عن كل مناصبه الثورية متفرغا للكتابة والتأليف.