قراءة في قصيدة ”أنا إرتري مبعثر“ للشاعرة مريم صالح
بقلم الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي
عندما بدأت في قراءة قصيدة ”إرتريا أنا مبعثر“ للشاعرة الموهوبة مريم صالح التي تبدو
في ملامحها سحنات أجدادها وأباءها الذين هاجروا من إرتريا إلى السودان الشقيق نتيجة لظروف الحرب الطاحنة التي فرضت على الشعب الإرتري بسبب ضم أثيوبيا لإرتريا قسرا عام 1962.
تذكرت مقطعا من قصيدة الخيول للشاعر الراحل أمل دنقل:-
كانت الخيلُ – في البدءِ – كالناس
برِّيَّةً تتراكضُ عبر السهول
كانت الخيلُ كالناس في البدءِ
تمتلكُ الشمس والعشب
والملكوتِ الظليل
كانت الخيلُ برِّيَّة
تتنفس بحرية
مثلما يتنفسها الناس
في ذلك الزمن الذهبي النبيل.
حين تشرع في شرح نص أدبي من الشعر، فمن الثابت أن الشرح ليس جهدا عضليا، ولكنه جهد فني يعتمد على معرفة الأصول، فالشرح فهم عميق وصحيح ودقيق، وتعبير ذاتي وأدبي، فإذا عرف الشارح الأصولَ دخل شرحه في دائرة القبول.
ودون الغوص في التفاصيل، لو تأملنا المعاني الدقيقة التي جاءت في القصيدة لاستشعرنا كم هو جرح الوطن غائر، والمعاناة مضاعفة والحزن بادٍ على كافة أوجه الحياة، كم هي المسافة التي يقطعها الإنسان الإرتري مهاجراً من وطنه نحو السراب المجهول وكم هي المسافة التي قطعها في رحلة العودة إلى الوطن منتشٍ بفرحة عارمة اكتشف بعد أن صحا من غفوة حلمه أن الوعد لم يكن صادقا، وأن الحلم تبدد وأن محيطات اللجوء تناديه مرة أخرى.
القصيدة تعبر بأسلوب شفاف عن المعاناة غير المبررة والتي لا مثيل لها في التاريخ الحديث، وخاصة في أرشيف الشعوب التي فجرت ثورات وانتصرت على الأعداء. انها إرتريا أرض الصدق يعاني انسانها ويختار اللجوء مرة أخرى ويتشتت في المنافي.
لا أرغب في الانبهار والتوقف لدي الصورة الأدبية بل سأتجاوزها إلى المعنى التفصيلي الذي كانت الصورة لبوسا له، ثم لا أريد أيضا الوقوف عند المعاني دون البحث عن القصد العام، أو الفكرة الأساسية التي كانت تلك المعاني التفصيلية فيها تعبيراً عن قصد الشاعر، أو عن فكرته الأساسية.
هنالك حقائق يجب أن يعلمها القارئ وهي أن لكل نص مناسبة، ومعرفة مناسبة النص تلقي ضوءا كاشفا على أبعاده الفكرية والنفسية.
حقيقة ثانية تتعلق بشرح النصوص، وهي أنه يجب أن يعرف القارئ إذا قرأ النص مَن المتكلم ومن المخاطَب، ومن الغائب، بمعنى عمّن يتحدث الشاعر، أو مَن يخاطب الشاعر، ومن الذي يقول هذه المعاني، فمعرفة جهة الكلام من متكلم ومخاطَب وغائب، تعتبر ضرورة ملحة لفهم النصوص.
الحقيقة الثالثة يجب أن يقرأ البيت قراءة صحيحة، فرُبَّ غلطة في قراءة البيت حرّفت فهمَك للمعنى عن الوجه الصحيح، فاللغة العربية دقيقة جدا.
الحقيقة الرابعة في شرح النصوص، هي أن القارئ يتأكد من فهمه الصحيح لمعاني الكلمات التي جاءت في البيت، الفهم الصحيح، والدقيق، فهناك فهم للكلمة ضبابي لا يعين على كشف المعنى، وهناك فهم دقيق جدا يساعد على تلمُّس المعنى الصحيح.
الحقيقة الخامسة في شرح النصوص، هي أن الشعر في تعريفه صياغة موسيقية، يراعي فيها الشاعر الوزن والقافية، لذلك ترونه مضطرا إلى التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب، والذكر والحذف.
من المهم معرفة أن كل قصيدة تقوم على موضوع أو أكثر وأن تحديد هذا الموضوع ودراسته ودراسة أساليب القصيدة تقوم على مجموعة من الخطوات لتحليل القصيدة في الإطار العام والإطار الخاص.
وفي هذه العجالة سأتجاوز الإطار العام وأتوغل في الخصائص الموضوعية للقصيدة وكما هو معروف أن أي قصيدة تختلف عن أي قصيدة أخرى تبعاً للزمن الذي كتبت فيه.
وأن قصيدة (إرتريا أنا مبعثر) تمثل صرخة عالية النبرة في هذا الزمن الذي كتبت فيه وهو زمن التشرد واللجوء والتوهان في الصحاري والغرق في البحار وبيع الأعضاء البشرية والموت عطشا في متاهات الصحراء.
(سللت السيف في عنقي… هجرت الحضن مضطرا)
هذه الفقرة تمثل مطلع القصيدة أو افتتاحيتها، وقد تحدث النقاد العرب كثيرًا عن أهمية المطلع. ورأوا أنه يؤذن بجودة القصيدة أو قبحها.
ومن مطلع القصيدة يتضح لنا بأن نبرة صوتها العالي واستعدادها لتقبل الموت بعد أن هجرت الحضن الدافئ الذي كان يأويها. هي رسالة واضحة المعالم بان هذا الجيل أكثر استعدادا من أي وقت مضى للتضحية حتى تعود الحقوق المغتصبة إلى أهلها.
فمن صورة إلى صور متعددة، تنتقل بنا الشاعرة مريم صالح في فضاء شعري يتضمن الكثير من المدلولات، فمدلول كلمات مثل عبرت البر والبحر والهجرة والنزوح والسهر واللجوء والجبروت الذي لا ينطوي على ذرة من الرحمة، ولا يؤمن بأيّ قيمة إنسانية، فينكِّل بالنساء والأطفال العزل.
وتبلغ المأساة أعمق أشكالها حين تصورها في مقطع:
(خليل كنت في انتظاره
في بطن الحوت أجزائه
وكم موت وكم عزاء
أقمناه بعيدا عنك
يا أمي).
حيث نجد صورة باكية مبكية، والذي ما يعد من جماليات القصيدة المعاصرة.
هنالك حقائق مؤكدة لعل أهمها:
• الفتوحات لا تكتب بغير الدماء.
• العدل لا يتحقق بغير السيف.
من خلال قراءتنا للقصيدة يجدر بنا أن ندقق في مدى صدق وزيف وعمق ورؤية الشاعر وتمثيله للقصيدة الشعرية بما يتناسب مع الواقع الذي يعبر عنه، وكذلك مدى صدق ووضوح مشاعره ومواقفه تجاه موضوع القصيدة أو القضية التي يناقشها، فإلى القصيدة.
”إرتريا أنا مبعثر“ - مريم صالح
سللت السيف في عنقي
هجرت الحضن مضطرا
قطعت البحر والبر
أودع آخر أحلامي
علي أمل بروق الفجر
ويزول مواجع صمتي
وجرح وطني يصغر
وفتق الفرح يكبر
أنا متألم بقدر بعدي
تشابهت الخطي عندي
ولا شيء يشبهني
ولا حلم منتمي لي
وعند الليل يخاف الجفن
أن يغمض هناك أخي
وهناك أبي وأمي تبكي
اسمع صوتها اقسم
إذا انفلج صبحي
أنا راحل أنا اتي...
يرن هاتفي اسأل
اصطاد البحر الآلاف
خليل كنت في انتظاره
في بطن الحوت أجزائه
وكم موت وكم عزاء
أقمناه بعيدا عنك
يا أمي
كما طائر بلا مأوي...
تضج بنا الملاجئ...
تهد الذكري وتلغي كل
مواعيدي
أمزق آخر تذكرة
أغادر مطاراتي
أعود ودمعي على الخد
وتجول في خاطري نقفه
وارسم اسمرا حبيبة تناديني
هنا وطنك هنا وطنك...
كرن ترقص بعيني
وبحر مصوع يلج في خاطري
اسبح على شاطئه...
وكلي لهفه إلى كسكسي
وهيكوته...
أدوليس تطرز بطيفها قلادتي
وتبقي قوحيتو حضارة تشمخ
مدرستي أصحابي
بيتنا الدافئ أنا ابكي
ودمع العين لا يجدي
أنا أبكي ودمع العين خذلان
بلادي تجردني حقوقي…
وفي الختام هل لامست كلمات الشاعرة شيئا ما في دواخلنا وحركت بحور أحزان ساكنة ؟ وهل هزت وتراً ما من مشاعرنا وألهبت حماسنا لأخذ زمام المبادرة لوضع حد لمأساة تستنزف كل طاقاتنا ؟
مريم صالح... شاعرة وقاصة شابة... بكلوريوس المحاسبة جامعة السودان المفتوحة.
بعض عناوين كتاباتها ”عودة الروح... سيئ حظ... آهات الجرح المستديم... ليس إلا الرحيل... اريد منك...“ كما تكتب قصيدة النثر ولها أعمال قصصية...