سأحدثكم عن محمد مدني
بقلم الإعلامية الأستاذة: أمال علي - كاتبة والناقدة ارترية
سأحكي عن ومع محمد مدني الشاعر في وقت آخر، وحين يكون لديه متسعٌ للحكي. فهذا المساء، أكثر موائمة للغيرة. وأنا أغارُ على
محمد مدني: حدث هذا ذات نهار، ذات حديث وتعارف مع بعض الاصدقاء من السودان و (كعادتنا السودان وانا على لقاء دائم).
حكينا وتداعى الحكي ومرّ كالعادة على عَطرِالذكر وحُلوَ الروح محمد مدني. ثم يقول أحدهم: نحن عندنا شاعر عظيم اسمه محمد مدني. والله الزول دا كتب شعر يا سلااام. و بالمناسبة، عنده قصيدة مشهورة جداً. لخص فيها أزمة الحزب الشيوعي السوداني كلها. غنوها ناس عقد الجلاد.. اكيد تكوني سمعتيها. احتاج دوزنةً..
أنظرُ اليه ويقف قلبي على كلماته الواثقة "عندنا شاعر عظيم اسمه محمد مدني"!، وتتقافز فراشات غيرتي وتتكاثر في قلق ومحبة معاً.
قلت: نعم بعرف محمد مدني! بس هو شاعر ارتري عاش في السودان.
ويصرّ الصديق ويشدد وًبحماس قاطع: لا لا ياخ محمد دا سوداني. ومن مدني كمان. شاعر يحمل اسم مدينة بأكملها. مدني. من الجزيرة يعني.
وهنا. استسلم لسودانية محمد مدني القاطعة، والتي عجنها هذا الانسان الجميل طبعاً، بطين المحبة والانتماء والإعزاز. لم أحاججه، وكيف تحاجج شيوعي، من الزمن المجيد ! ويُحب محمد مدني، الشاعر الذي يحمل اسم مدينة.
بعدها تحدثنا كثيراًعن:-
تابعوا من شئتم
أو طاوعوا من خفتم
فالذاهبون الى الفجيعة أنتم
فقط افهموا
ان لا وثيقة او وفاق
ولا حقيقة أو نفاق
تخفي عن الأطفال عورة من دفنتم
من رجال.
حدثوني عن محمد مدني الشيوعي الصلب والشاعر المنتمي بقوة الى قضايا السودان، شارعه وانسانه روحاً ومعاناة. وطال الحكي.
ولم يكن بد من الاستماع والاستمتاع والاندهاش وانا ارى "محمدنا" بعيون أخرى وفِي أماكن بدت بعيدة، رغم قربها. وفكرت لابأس.
علي الان أَن أعالج غيرتي انا، والمعجونة هي الأخرى بمحبة و اعتزاز وانتماء كبير الى محمد محمود الشيخ (مدني) الارتري. والى دوزنته:-
احتاج دوزنةً
تفك حبالكم عني
وتربطني بكم
كيف التقيتم خلف نافذتي
تجمهرتِ البنادق، ناصبتني الشعر
والخوف المسيج بالخمور.
وكنّا نردد تلك الأبيات ونقول: هذا محمد مدني شاعر ثورتنا. وتلك بنادقنا، وخيبات قادتنا. وهذا شعرٌ يمتد بنّا ويشكل بعداً وهوية واضحة لارتريتنا. وفِي وقتٍ لاحق كنت أردد على مسامعه، ممازحة وأعنيّ ما أقول: انت ثروة قومية. ما عندنا شاعر في مقامك.
يضحك محمد، يقهقه تواضعاً وخجلاً وامتناناً.
ورددنا معه وغنينا في أوج صعود جبهة التحرير واشتعال معارك التحرير ومعارك أخرى:-
نذلٌ أنا
ان متُ قبل الانفجار
نذلٌ
اذا اختبئت حكاية امتي خلف الجدار
نذلٌ
اذا اخترت التشبث بالهتاف وبالشعار
فالموت يمتد في سيتيت ناقوساً من اللهب
والموت أغنيتان من حب ومن تعب
وختمنا احتفالات سبتمبر وتقوربا بصوت واحد مع فرقة عواتي :
آه بارنتو
نحن آتون العشية
نحن آتون لإتمام الزفاف
حفلنا فيه رصاص
والتواقيع التفاف
والمغني بندقية
والبنيات هنا لسنا صبايا
بل شظايا
تسحق الظلم وتمحو البربرية.
محمد مدني، شاعر يحملُ اسم مدينة.
الرسالة قبل الأخيرة لمن لا يهمهم الأمر
التحق بالثورة الارترية وبجبهة التحرير الارترية مبكراً، في السبعينيات من القرن الماضي. وكان يقضي سنوات بين رفيقاته ورفاقه، يُعلم ويتعلم، وهو من مؤسسي مدرسة الكادر في الميدان، وهو من أعمدة أعلاميّي الثورة الارترية، يكتب ويترجم ويحرر.
يتنقل بين الوحدات العسكرية، يسامر ويحادث، يحاور ويجادل بكل مافيه، تعابير وجهه وحركة يديه وبكل اللغات بالعربية والتقرنية والتقري والإنجليزية. ولا يتردد في مقاطعة الآخر لتصحيحه لغوياً، فهذه عادة مازال يمارسها باخلاص وبحساسية عالية تجاه اللغة وإيقاعاتها. لم أكنّ هناك، ولكن من يعرف مدني، يعرف كيف يكون ويكمل باقي الحكاية!
محمد مدني. من أعطاك هذا الاسم! من سمَّاك.
يقال ُ، ان المناضل ابراهيم توتيل كان يبحث عن محمد مدني، ذات مرة وفي زحمة المقاتلين في الميدان. ولم يجده. فأرسل المناضل محمود كدان للبحث عنه : نادي لَيّ محمد محمود. ذهب محمود كدان، المناضل المرح والصديق المقرّب لاحقاً لمحمد، لمنادته. ولكنه وجد ان هنالك اكثر من شخص يحمل نفس الاسم.
فرجع الى توتيل: ياتو واحد فيهم! فقال له: محمد محمود الجاي من السودان. فذهب ثانية، وصادف ان اكثر من محمد محمود جاء من السودان. فرجع: ياخ، أي محمد هنا جايي من السودان. حينها قال له توتيل: أمشي قول ليهم محمد محمود الجاي من مدني. فنادى محمود كدان: محمد مدني وين يا جماعة !. وكان ان التصق به الاسم.
مدني، مدينة حملها شاعر ارتري الى الميدان وتوجهّا الثوار لقباً له.
ومحمد مدني شاعر سوداني - رفيق، يقول بعض السودانيون انهم أطلقوا اسم واحدة من أجمل مدنهم عليه.
ثم كان زمن التقاء الحلم بموته الثاني. زمن الحرية المنقوصة والتاريخ المستلب في ارتريا- اسمرا بعد التحرير.
هناك حيث التقى السودان مجدداً، بارتريا، يربطهما مدني، شاعر يحمل اسم مدينة. وكان. حضوراً. عادل القصاص، القاص والاعلامي السوداني والصديق الجميل، و ومعه جمع من المبدعين والاعلاميين رفاق الثورة. سودانيون - ارتريون، أو ارتريون - سودانيون.
تتداخل الهويات والهوى بتداخل أناس يمزجون الجغرافيا والتاريخ في ملمح و صوت وهم واحد، من مدني الى اسمرا. فقال القصاص: هو محمد محمود الشيخ - مدني. السوداني - الاريتري (السوداتري).
ومن بعدها. صرّنا كلنّا سوداتريون.
سوداتريون علاجٌ ناجعٌ من غيرةٍ نتقاسمها حول انتماء لا تحده الأمكنة ولا الأحزاب من اليسار الى اليمين، ومن مدني الى حلحل.
ويقول: وأحمل غيرةً أخرى كجرحٍ في المشيمة من طريقٍ تنتهي بصفائنا هذا إلى قلب الظلام. محمد مدني شاعرٌ سوداتري.